الحمد لله ، أنزل في كتابه "مـا يلفظ من قول" ، و صلى الله وسلم على نبينا محمد أوصى معاذاً أن "أمسك عليك هذا""وهل يكب النـاس في النـار على وجوههم إلا حصـائد ألسنتهم" .
يا محب .. إنمـا استعين على السلامة بطول الصمت ، و مجانبة الهذر بالكلام ، و ليس صمتي عيباً في مثلي مـا دمت في صمت لا يذم فاعله و كلام هو عرضة للسقطة ، و مجانبة الصواب روى الإمـام أحمد بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم (4/64): (إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء ).
وعاء الخطايا بالصمت يختم ، إن للصمت في الحياة حديثاً ، و للصامتين أثر بفعالهم بلسان الحـال لا المقال ، و لعمري إن من أخافه الكلام أجاره الصمت و نعم المجير ، أما ترى الأَلسَن كثير الحديث ساقط القيمة ، و بخس البضاعة و أما الصـامت فموفور الهيبة شائع المحبة والوقار ، قال ابن حزم في وصية جـامعة: كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه ، و لم نر أحدا ولا بلغنا أنه أهلكه سكوته ، فلا تتكلم إلا بما يقربك من خالقك فإن خفت ظالما فاسكت.
إني لأنْطِق فيما كان من أَرَبِي ... وأُكْثِرُ الصَّمْتَ فيما ليس يَعْنِيني
و لست أول من سلك سبيل السكوت فقد كـان عظماء الرجـال لهم صمت طويل يذكر في مناقبهم ، فيقال : طويل الصمت دائم الفكرة ، روى مالك أن عمر دخل على أبي بكر رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه فقال عمر: مه غفر الله لك . فقال أبو بكر : هذا الذي أوردني الموارد، و إن المتحدث رجل لم ينقل عن مثله إلا الحكمة ، و معروف بثقل العقل ، و رجاحة الرأي ، و سعة العلم ، فمـا عسى الضعيف قليل الحظ في العلم ، مهتز الخطوة في الرأي .
اصمت يا صاحبي ، اعرف كل شيء و دعهم يعتقدون أن جاهل ، هذا لا يضرك أكثر من ضرر الكلام بلا علم ، ربما عابوا صمتك ولكن ثق أن العز فيه بلا ريب ، فالصمتٌ حكمٌ وقليلٌ فاعله ، ينتفع منه الناس والطير ، أمـا ترى الطائر الغرّاد أقرب لعين الصياد .
وهـاك أربع كلماتٍ صدرت عن أربعة ملوكٍ ؛ لكأنها رميت عن قوسٍ واحدةٍ:
قال كسرى: لم أندم على ما لم أقل، وقد ندمت على ما قلت مراراً .
وقال قيصر: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت .
وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها .
وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة، إن رفعت ضرته، وإن لم ترفع لم تنفعه .
إِذا سكتَ الإِنسانُ قَلَّتْ خصومُهُ ... وإِن أضجعتهُ الحادثاتُ لجنبِه
قال ابن المقفع في أدبه الكبير " الرجوعَ عن الصمتِ أحسنُ من الرجوعِ عن الكلامِ، وإن العطيةَ بعد المنعِ أجملُ من المنعِ بعد الإعطاء، وإن الأقدامَ على العمل بعد التأني فيه أحسنُ من الإمساكِ عنهُ بعد الإقدام عليه" فعَثَرَةُ القَدَمِ أسْلَمُ مِنْ عَثْرَةِ الِّلسانِ .
و اعلم أن عَيٌّ صَامِتٌ خَيْرٌ مِنْ عَيٍّ نَاطِقٍ ، و لربمـا سكت الأحمق فكـان صماته ستر عليه ، فإذا لهج انهتك ستر عقله ، فروى أهل التأريخ أن رجل يكثر مجالسة أبي يوسف ويطيل الصمت، فقال له يوماً ألا تسأل؟ قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف وتمثل بقول الشاعر:
عجبت إزراء الغبيّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالعلم أعلما
وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
و رووا أيضاً عن الأحنف بن قيس أنه كان يجالس رجل يطيل الصمت حتى أعجب به ثم إنّه تكلم فقال للأحنف: يا أبا بحر أتقدر أن تمشي على شُرَف المسجد؟ فعندها تمثل الأحنف :
وكائن ترى من صامتٍ لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلمِ
الصمتُ لا يُحمَد في كل حِين ، فإن رأيت حرمات الله تنتهك فأي صمت يحتملك ، و متى يكون الكلام إن لم يك في ذا الموضع ، و ن ألجئت إلى الكلام إلجاءً فكن على عف اللسان ، جزل الحديث ، و استل من كلامك مـا يكون ثقل على الأسماع ، و أوجز لفظك مـا لم يحتج منك الإطناب .
الروابط المفضلة