= الحلقة الرابعة =
- تصحيح مفهوم الوفاء بين الزوجين -
يظنّ بعض الناس أن الزوجة الوفية لزوجها هي التي لا تتزوج بعد وفاته ، وأن الزوج الوفي هو الذي لا يتزوج بعد وفاة زوجته ، ويقولون أنّ زواج أحدهما بعد الأخر يتعارض مع الوفاء له . وعليه إذا تزوجت الأرملة بعد وفاة زوجها فسرعان ما تعتبرها بعض الأوساط البعيدة عن أحكام الشريعة وعن الهدي النبوي ، أنها غير وفية لزوجها الفقيد ، وغير مخلصة له ، وأنها سرعان ما نسيته ، وغير ذلك من الإتهامات . وهذا المفهوم للوفاء الزوجي خطأ وليس من الإسلام في شيء ، بل ومخالف للإسلام بدليل ما يلي :-
* الدليل الأول :-
قال تعالى :- ( لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) .
فما هي سنة الرسول عليه السلام في مسألة زواج أحد الزوجين بعد وفاة زوجه ، حتى يتبعها المسلمون ويضربوا عرض الحائط بكل ما خالفها من عادات وتقاليد بالية ؟
والجواب ، والذي لا شك يعرفه الكثير من المسلمين ، هو أن سنة الرسول عليه السلام أن يتزوّج الرجل بعد وفاة زوجته ، وأن تتزوج المرأة بعد وفاة زوجها ، وليس أن يعيش أحدهما عيشة الرهبان . فها هو الرسول عليه السلام ، ورغم حبه الشديد لخديجة أم المؤمنين ، رضي الله عنها وأرضاها ، وهي من أفضل نساء أهل الدنيا والآخرة ، يقوم بالزواج ثانية بعد وفاتها .
وكانت خديجة ، رضي الله عنها ، مثال الزوجة الصالحة الواعية المحبة لزوجها ، وكان لها في الإسلام وعند الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة عظيمة :-
( عن هشام ، عن أبيه قال : سمعت عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير نسائها مريم ، وخير نسائها خديجة ) صحيح البخاري – كتاب مناقب الأنصار – باب تزويج النبي خديجة وفضلها رضي الله عنها ، " 3815 " .
وبشرها الرسول عليه السلام بالجنة كما في الحديث الصحيح التالي :- ( عن اسماعيل قال : قلت لعبد الله بن أبي أوفى ، رضي الله عنهما : بشّر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ؟ قال : نعم ، ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب ) صحيح البخاري – ك مناقب الأنصار – ب تزويج النبي خديجة وفضلها رضي الله عنها ، " 3819 " .
وهناك أحاديث كثيرة في فضل أمّ المؤمنين خديجة ، رضي الله عنها وأرضاها ، تبين مكانتها السامية في الإسلام وحب الرسول صلى الله عليه وسلم لها ، وهي أول إنسان آمن به على الإطلاق قبل أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما .
وبالرغم من كل ذلك تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاتها ، وما أظن مسلما يجرؤ أن يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن وفيا لها ، أو أنه بزواجه بعدها خالف خلق الوفاء . كيف وقد قال له الله عز وجل : ( إنك لعلى خلق عظيم ) . ووصفته عائشة أم المؤمنين بقولها : ( كان خلقه القرآن ) . فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قمة في الأخلاق ، وأكثر الناس إلتزاما بها ، ومنها خلق الوفاء ، وزواجه بعد خديجة لا يتعارض مع الوفاء لها .
وللعلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج في نفس السنة التي ماتت فيها خديجة ، رضي الله عنها ، أي بعد أشهر من وفاتها .
ومن مظاهر وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم لخديجة بعد وفاتها ما يلي :-
1- ذكرها بالخير والثناء عليها وتقديرها :-
= ( عن عائشة أنها قالت : ما غرت على امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما غرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وثنائه عليها ، وقد أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب ) صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة – باب فضائل خديجة أم المؤمنين .
= ( عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول : إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد ) صحيح البخاري – ك مناقب الأنصار – ب تزويج النبي خديجة وفضلها رضي الله عنها ، " 3818 " . وصحيح مسلم .
2- إكرام أقاربها وأصدقائها بالهدايا وغيره : -
( عن عائشة قالت : ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها . قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول : أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة ) صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب فضائل خديجة أمّ المؤمنين ، " 2435 " . ورواه البخاري .
3- تذكّرها والحنين لها عندما يرى ما يخصها :-
( عن عائشة قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم ، بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة ، أدخلتها بها على أبي العاص ، قالت : فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة ، وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها الذي لها . فقالوا : نعم ) سنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في فداء الأسير بالمال .
4- تذكّرها عند مجيء أختها هالة بنت خويلد :-
( عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : استأذنت هالة بنت خويلد ، أخت خديجة ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك ، فقال : الّلهم هالة ... ) صحيح البخاري – كتاب مناقب الأنصار – باب تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها ، " 3821 " . وأخرجه مسلم .
هذه هي صور الوفاء الزوجي ، أو بعضها ، التي تخلّق بها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يقرّها النقل والعقل ، وليس منها الامتناع عن الزواج .
* الدليل الثاني :-
الرسول عليه السلام يحرض الأرامل على الزواج بعد وفاة أزواجهن :-
( عن أمّ سلمة أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله : ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) ، اللهم أجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيرا منها ، إلا أخلف الله خيرا منها . قالت : فلما مات أبو سلمة قالت : أيّ المسلمين خير من أبي سلمة ، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إني قلتها ، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : أرسل إليّ رسول الله حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له ، فقلت : إنّ لي بنتا وأنا غيور ، فقال : أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة )صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب ما يقال عند المصيبة .
ويفهم من الحديث أن أمّ سلمة ، رضي الله عنها ، كان لديها موانع تمنعها من الزواج بعد وفاة زوجها فردت حاطب بن أبي بلتعة عندما أرسله الرسول عليه السلام ، فشجعها الرسول على الزواج عندما قام بتذليل كل العقبات وتفنيد كل الموانع لها ، ولم يبق لها أية حجة ، فوافقت على الزواج منه . فهل تعتبر أم سلمة ، رضي الله عنها ، بزواجها بعد وفاة زوجها أبي سلمة غير وفية له ! حاشاها . وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يطلبها للزواج يشجعها على عدم الوفاء لزوجها الفقيد ؟ وهل كان الرسول يعتبرها غير وفية لزوجها بقبولها الزواج منه ؟ معاذ الله أن يقول مسلم بمثل هذه الأقوال . ولكن الحقيقة أن زواج الأرملة بعد وفاة زوجها لا يتعارض مع الوفاء له مطلقا في الإسلام ، وفي سنة الرسول عليه السلام .
ومن الوفاء للزوج الفقيد أن تترحم عليه ، وتدعو له بالمغفرة ، وتذكره بالخير ، وتثني على أخلاقه ومواقفه ، وتزور أهله ، وتصل رحمه ... إلخ .
* الدليل الثالث :
الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بنفسه بتزوج الرجال بعد وفاة زوجاتهم :-
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وبعد وفاة ابنته رقية ، رضي الله عنها ، وكانت زوجة لعثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، قام بتزوّيجه ابنته الثانية أم كلثوم ، رضي الله عنها ، وهي أصغر من رقية ، وتم الزواج سنة ثلاث من الهجرة . وهذا الزواج من الشهرة بحيث لا يحتاج إلى إيراد أدلة عليه . فالرسول صلى الله عليه وسلم قام بنفسه بتزويج عثمان ، رضي الله عنه ، بعد وفاة زوجته رقية ، رضي الله عنها ، ولو كان في زواج الرجل بعد وفاة زوجته تعارض مع خلق الوفاء ، لما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك .
يتبع ان شاء الله
الروابط المفضلة