
:


كانت سكينة فتاة جميلة تجاوزها قطار الزواج –حسب أعراف المجتمع-
بنت وحيدة وسط أربعة إخوة
لم يسمح لها بدخول المدرسة تجنبا للفتنة ؛ هكذا قرّرالوالد .
ما كانت تعرف مكانا خارج أعتاب البيت؛ سجنها الأزلي
الذي يلزمها بالطاعة العمياء دون التجرّؤ على طرح السؤال ،
ترى إخوتها يذهبون إلى المدارس ويلبسون الجديد والجميل ، وهي تخدمهم وتبقى في البيت
إلى أن بلغت السابعة والعشرين ؛كبيرة في عرف المجتمع ، وبدأ الخوف من العنوسة يحاصرها .
وأخيرا جاء العريس، صديق والدها وفي نفس عمره ،
لم يستشرها أحد ولم يطلب رأيها ولم تكن تعرف حتى أن من حقها الاختيار
وكانت تنتظر الفرصة للخروج من سجن البيت ومعاناة التمييز والسخرة .
كان زواجها هروبا من سجنها ، وأمها كأنها غير موجودة ،
لم تهيئها للزواج تربويا ولا وجدانيا ، كانت تعيش وتشتغل في البيت وتتلقى الأوامر

بعد أيام الزواج الأولى انقلب حنان الزوج قسوة ولامبالاة
وسهر خارج البيت وضرب إن أبدت ملاحظة أو طلبت شيئا لنفسها.
ضاقت بها الدنيا حيث رحبت ، فوجدت عزاءها في الإنجاب –أربع بنات وولد- .
فتح الأبناء أعينهم على أب كريم لكنه قاس ؛ فضل الولد إنفاقا وعناية
أما البنات فكن صورة لأمهن في التزام الطاعة العمياء ،
ممنوعات من الخروج ،من التلفاز ومن المدرسة
والأم تنظر إليهن وكأن الحياة هكذا ينبغي أن تكون إلى أن سأل الولد يوما والده :
"لماذا لا تذهب أخواتي إلى المدرسة؟"
فوضع الوالد يده على فمه يريد إسكاته .
ومن يومها لم يعد إلى السؤال .
في هذا الوقت كان إخوانها قد أكملوا دراساتهم واشتغلوا وتزوجوا وأنجبوا وأدخلوا أولادهم المدارس .

وفي أحد الأعياد التقى الجميع في بيت العائلة .؛كل الأطفال يلعبون ويصرخون
والطفلات الأربع منكمشات إلى جانب أمهن ، يحملقن في الآخرين المنطلقين المرحين ، المختلفة ملابسهم .
بدأ توزيع هدايا العيد وسط دهشة البنات اللواتي لم يحصلن يوما على شيء خاصّ لهنّ ،
ورأين الفتيات يتبادلن أرقام الهواتف وهنّ لا يملكن حتى تلفاز داخل البيت ..
وحان موعد الانصراف ؛ حينها بكت الأم بحرارة ؛ فالتف حولها إخوتها ؛
يا ألله ؛ لأول مرّة في حياتها تشعر بالانتماء إليهم ، وبأنّ عندها سند يدعمها عند الحاجة .
وكان يتخلل بكاءها شكوى حالها وحال بناتها ، وعجزها عن الكلام أو طلب إدخالهن المدرسة ،
مادام الأب مقتنعا أنّ المدرسة مفسدة للبنات ؛ وبأنّه لا يبخل عليهنّ بشيء ؛فما حاجتهنّ إلى الخروج ؟
اجتمع الإخوة بأبيهم وأقنعوه بضرورة دعمهم لمفاتحة الزوج بالسماح للبنات بالتعلم ،
ولزمهم وقت وجهد لإقناعه .

دخلت ثلاث بنات المدارس وبقيت واحدة لأنّها تجاوزت سنّ التمدرس ...
غصّة عظيمة شعرت بها الأمّ لأنّها أدركت أنّ هذه البنت ستكون صورة لها ؛
وهي ما عادت ترضى بما هي عليه بعد أن رأت زوجات إخوتها وما هنّ عليه من ثقافة وطلاقة في الحديث
وأناقة وثقة في النفس وطريقة معاملة أزواجهن وأبنائهن.
كبر الأبناء والولد هو دائما المميّز منشغل بموضات الجوالات وما غلا ثمنه من الملابس والساعات ،
غير مهتمّ بشؤون أخواته ولا أمّه .
كانت نتائج البنات الدراسية جيّدة بل أفضل من الأخ باستثناء البنت الثالثة
التي كانت تعاني من تأتأة لم ينتبه إليها أحد في البيت ولا فكر في علاجها؛
حتّى انتبهت إليها معلّمة ووجهتها إلى المرشدة الاجتماعية التي ساعدتها ...

وفي نهاية المرحلة الثانوية ، وقف الوالد مؤكّدا : كفاية مدارس ،
فانتفضت الفتيات ومعهن الأمّ ،
لأوّل مرّة تكلّمت وتعجبت أن عندها لسان وصوت ،
ومرّة أخرى دعمها إخوتها ، فسمح الوالد على مضض بدخول البنات الجامعة أو المعاهد التي اخترنها ..
وبدأ العرسان يطرقون باب البيت ، وطبعا كان الوالد يرفض تزويج الأصغر سنا قبل الكبيرة ،
كان رفضه حاسما ، ولم يعط بناته حقّ الكلام ،هو السلطة العليا وكلّ القرارات تصدر عنه وترجع إليه ؛
لكنّه لم يدرك أو لم يستوعب أنّ الفتيات أصبحن أقوى منه بفضل المعرفة ،
حين دعين إلى جلسة حوار عائلية ،

ولأوّل مرّة يجتمع الكلّ في غرفة واحدة ويتكلّمون ،
ولأوّل مرّة تستطيع فتاة رفع عينيها وتوجيه الكلام مباشرة إلى الوالد .
.وتتكلّم الكبرى يا أبي : كفى إفسادا لحياتنا ، وأكّدت له أنّها لا تريد أن تتزوّج بنفس طريقة أمّها ،
وأنّ النصيب حين يأتي لا يملك أحد وقفه ، واسترسلت أمام اندهاش الجميع ؛
والأم تدير عينيها بينهم مستغربة ،
لم يدر بخلدها أنّ بنتها تستطيع أن تفرض على والدها الإنصات وتطرح تساؤلات وتعقد مقارنات ...
ولأوّل مرّة ينصت الأب وهو تحت وقع الصدمة ،
يشعر أنّ الخناق بضيق عليه وأنّ زمام السلطة ينفلت من يديه
فتصحح له إحدى البنات : بأنّ ما ينفلت ليس السلطة بل التسلّط
وتؤكّد له أنّ تخوفاته لا مبرر لها؛ بدليل أن بنات الأخوال والأعمام مع ما يتوفرن عليه من وسائل الراحة والرفاهية
هن بنات في غاية الأدب والتفوق وطيبة الأخلاق ..

ويقبل الأب خطوبة البنت
ويقبل تسجيل البنت الكبيرة في مركز لمحاربة الأمية
ومعها الأم ـ التي كان أملها أن تتعلّم لتقرأ القرآن .
ومن يومها أصبح في البيت نوع من الألفة
حلّت مشاكل؛ وأخرى ما تزال تتطلّب وقفات وجلسات .

تعليق