تأملي هذه النماذج :
نماذج من تفاني النبي صلى الله عليه و سلم
و السلف و الخلف في الدعوة و الحرص عليها
طريق الدعوة طريق شائك وعر ، و لنا في أنبياء الله المثل و العبرة و في الصالحين الذين اقتفوا أثرهم ، و فيما سيلي أمثلة عن بعض دعاة أمة الإسلام الذين تفانوا في خدمة الدين و لم يفتروا عن ذلك مقتفين منهاج النبي صلى الله عليه و سلم الذي لم يبرح الدعوة منذ أن أمره الله "قم فأنذر" ..
و إصلاح العقيدة هو أساس كل إصلاح و هو رسالة الرسل التي لم يرسلهم الله إلا من أجلها فقد قال الإمام مالك :
"لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" فهو الشعار الذي على المصلحين رفعه و تجسيده في أقوالهم و أفعالهم و كتاباتهم ، و قال الشيخ مبارك الميلي في هذا الشأن كلمات تكتب بماء من ذهب
:"من حاول إصلاح أمة الإسلام بغير دينها فقد عرّض وحدتها للانحلال و جسمها للتلاشي و صار هادما لعرشها بنـيّـة تشييده"
وقبل أن نمثل عن بعض كبارعلماء الأمة ... لا يفوتنا أن نعرض موقفا من مواقف سيد الدعاة صلى الله عليه و سلم في منهاج الدعوة ...و هذا الموقف ليس أي موقف بل هو أشد موقف مر على الحبيب صلى الله عليه و سلم
أشد موقف !!!
في شوال سنة 10 من النبوة خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف و هي تبعد عن مكة نحو ستين ميلا سارها على قدميه الشريفتين و معه مولاه زيد بن الحارثة و دعا كل قبيلة مر عليها فلم تجبه فلما انتهى للطائف عمد إلى ثلاثة إخوة من رؤسائها فدعاهم إلى الله فلم يلقى منهم إلا السب و السخرية ... أقام صلى الله عليه و سلم في الطائف عشر أيام يدعو قومها فلم يجبه أحد فلما خرج تبعه السفهاء و العبيد يسبونه و يصيحون به حتى اجتمع عليه الناس ووقفوا صفين و جعلوا يرمونه بالحجارة و السب ، فرجموا عراقبيه حتى اختضب نعلاه بالدماء و كان زيد يقيه بنفسه حتى شج رأسه.. فالتجأ صلى الله عليه و سلم إلى حائط على ثلاثة أميال من الطائف فرجعوا عنه ...يا الله ! 3 أميال و الحبيب يرجم !
أتى صلى الله عليه و سلم إلى حبلة من عنب جلس تحت ظلها و دعا الدعاء المشهور الدال على امتلاء قلبه كآبة و حزنا و أسفا : اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين و أنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بيعد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي و لكن عافيتك أوسع ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرةمن أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى و لا حول و لا قوة إلا بك ...
و قد روي تفصيل القصة في صحيحي البخاري و مسلم و اللفظ للبخاري :
عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال لقد لقيت من قومك و كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت و أنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب (و هو المسمى بقرن المنازل) فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك و ما ردوا عليك و قد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : يا محمد ذلك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [و الأخشبان جبلا مكة : أبو قبيس و قعيقعان] قال النبي صلى الله عليه و سلم : بل أرجو أن يخرج الله عز و جل من أصلابهم من يعبد الله عز و جل وحده لا يشرك به شيئا
يا الله !!! تصوروا هم النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفق إلابقرن المنازل و هي تبعد عن الطائف 5 كيلو متر تقريبا ... و تأملوا جوابه لملك الجبال !!! يتجلى في جوابه شخصيته الفذة الرحيمة و خلقه العظيم و حلمه و صبره الذي علينا أن نجعله منهاجا واقعيا في حياتنا..
مستضعفون لكن أعزاء !!!
ياله من موقف أبدى فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم العزة بالإسلام و هم في أرض غربة ...
و الحديث رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النجاشي وكنا نحواً من ثمانين رجلاً منهم عبد الله بن مسعود ، وجعفر بن مسعود ، وجعفر بن أبي طالب (ابن عم النبي صلى الله عليه و سلم)، وعبد الله بن عرفطة ، وعثمان بن مضعون ، وأبو موسى ؛فأتوا النجاشي وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية ،فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له إن نفراً من بني عمنا نـزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا .قال فأين هم ؟ قالوا : هم في أرضك فابعث إليهم ..
فقال جعفر أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه فسلم ولم يسجد.
فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟قال : إنا لا نسجد إلا لله عز و جل، قال : وما ذاك ؟ قال : إن الله عز و جل بعث إلينا رسوله صلى الله عليه و سلم وامرنا ألا نسجد لأحد إلا لله تعالى وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو بن العاص : فأنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا : نقول كما قال الله عز و جل هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد.
قال: فرفع عودا من الأرض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان فوالله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا – مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله فإنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم ، انـزلوا حيث شئتم- والله لولا ما أنا فيه من الملك لآ تينه حتى أكون أنا أحمل نعليه و أوضئه، وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما...
تشبث صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم بعزة دينهم و دعوتهم له جلبت لهم الأمن و القبول في الأرض ، و انظروا كيف كانت دعوة جفر رضي الله عنه للنجاشي بكلمات موجوزة بينة .. و كان هذا هدي النبي صلى الله عليه و سلم... فنعم المعلم و نعم الصحب..
قلب مطمئن بالإيمان و فصاحة البيان و فهم لحقيقة الدنيا و الآخرة!!!
كان الحجاج بن يوسف واليا لعبد الملك, يأخذ بالشبهات ويتحرى المناوئين في جميع البلاد الاسلامية لحكم أميره وسيده. فيصب المحن عليهم دون هوادة ولا خوف من الله المقتدر الجبار, وكان خالد بن عبد الملك القسري واليا على مكة المكرمة وقد علم بوجود سعيد ابن جبير التابعي الجليل في ولايته فألقى القبض عليه واعتقله, ثم أراد أن يتخلص منه فأرسله مخفورا مع اسماعيل بن واسط البجلي الى الحجاج بن يوسف.
قال الحجاج: ما اسمك؟
سعيد: سعيد بن جبير.
الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
الحجاج: شقيت أمك وشقيت أنت.
سعيد: الغيب يعلمه غيرك.
الحجاج: لا بد لك بالدنيا نارا تلظى.
سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.
الحجاج: ما قولك في محمد؟.
سعيد: نبي الرحمة وإمام الهدى.
الحجاج: ما قولك في علي, أهو في الجنة أم هو في النار؟..
سعيد: لو دخلتها وعرفت من فيها, عرفت أهلها.
الحجاج: ما قولك في الخلفاء؟.
سعيد: لست عليهم بوكيل.
الحجاج: فأيهم أعجب اليك؟
سعيد: أرضاهم لخالقي.
الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟
سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
الحجاج: أحب أن تصدقني.
سعيد: إن لم أجبك لن أكذبك.
الحجاج: فما بالك لم تضحك؟!
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين, والطين تأكله النار!!
الحجاج: فما بالنا نضحك؟
سعيد: لم تستو القلوب.
ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت, فجمعه بين يديه.
قال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح والا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت, ولا خير في شيء من الدنيا الا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بالعود والناي, فلما ضرب بالعود ونفخ بالناي بكى سعيد.
فقال: ما يبكيك؟ أهو اللعب؟
قال سعيد: هو الحزن, أما النفخ فذكرني يوما عظيما يوم ينفخ في الصور, وأما العود فشجرة قطعت من غير حق!! وأما الأوتار فمن الشاة تبعث يوم القيامة!!
قال الحجاج: ويلك يا سعيد.
فقال: لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة.
قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟
فقال: اختر أنت لنفسك فوالله لا تقتلني قتلة الا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال: أتريد أن أعفو عنك؟
فقال: إن كان العفو فمن الله, وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه, فلما خرج ضحك فأخبر الحجاج بذلك فردوه اليه.
وقال: ما أضحكك؟
فقال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك.
فأمر بالنطع فبسط.
وقال: اقتلوه
فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: وجهوا به لغير القبلة
قال سعيد: فأينما تولوا فثمّ وجه الله.
قال الحجاج: كبوه على وجهه
قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
قال الحجاج: اذبحوه
قال سعيد: أما أنا فأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله, خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة, اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي...
انظروا كيف أن سعيدا أعد لكل موقف جوابا واضحا يدل على صلاح عقيدته ...و لم يخف الموت في سبيل دعوته إلى الله و لم يأس على ظلم الحجاج له لأنه يعرف أن العيش عيش الآخرة و أن ما عليه إلا البلاغ !
إيجاز بليغ و ترفع عن الشهوات !!!
عبيد بن عمير واعظ مكة قالت له أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد أن سمعته أطال الكلام في أحد المسائل : يا عبيد بن عمير إذا وعظت فأوجز فإن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضا ...
و كان عبيد واعظ صالح كلامه له تأثير في الناس ..فمرة دخلت امرأة على زوجها و كانت من أجمل نساء مكة و قالت له من غرورها بنفسها : أترى أن أحدا يرى هذا الوجه و لا يعشقه أو لا يفتتن به ؟ قال لها : نعم ، قالت : من ؟ قال : عبيد بن عمير ..فقالت : و الله لأذهبن إليه و لأفتننه ، فأتت إليه ساترة نفسها و هو يعظ في صحن الكعبة و انتظرته حتى انتهى ثم قالت له إن لي إليك حاجة فاختر أي سارية من سواري الحرم لأعرض عليك حاجتي ... فلما قابلها كشفت عن وجهها و عن بعض بدنها ..فنظر إليها ثم أطرق ، فقالت: يا عبيد بن عمير إني مفتونة بك و إني أريدك (و لكنها لم تكن صادقة ...أي أنها لم ترد ارتكاب الزنى لكنها أرادت أن تبين فضلها لزوجها فقط) ، فقال لها عبيد : يا أمة الله في الحرم لا يصلح و لكن أواعدك في مكان آخر، فقالت : لك ذاك ، قال : أأختار المكان؟ ، قالت : نعم ، قال : موعدنا إذا تطايرت الصحف فآخذ كتابه بيمينه و آخذ كتابه بشماله فهناك أعطيك ما تريدين ، فقالت : يا عبيد ما هذا بالمكان !! فقال : إذن إذا وضعت الموازين هناك من تخف موازينه و هناك من تثقل موازينه ، فقالت : يا عبيد ما هذا بالمكان !! فقال :إذن وضع الصراط على جهنم و الناس يمرون عليه و الظلمة دامسة ، فقالت : يا عبيد ما هذا بالمكان !! فقال : إذن ما المكان ، قالت : يا عبيد بن عمير الموعد الجنة !!! فعادت إلى بيتها و تركت ما كانت عليه من التزين و تبتلت إلى الله ، فقال زوجها : حسبي الله على عبيد بن عمير أفسد علي زوجتي!!!
هكذا يوعظ الملوك !!!
التابعي الجليل طاووس اليماني غني عن التعريف ..له موقف يهز القلوب الحية مع هشام بن عبد الملك لما قدم حاجا إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة.
فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا.
فقال: من التابعين.
فأتي بطاووس اليماني العالم الجليل رحمه الله.
فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين.
ولكن قال: السلام عليك يا هشام. ولم يكنه وجلس بازائه.
وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضبا شديدا حتى همّ بقتله.
فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله, ولا يمكنك ذلك.
فقال: يا طاووس, ما الذي حملك على ما صنعت؟
قال: وما الذي صنعت؟
قال هشام: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبّل يدي ولم تسلم بامرة المؤمنين ولم تكنني وجلست بازائي دون إذني وقلت كيف أنت يا هشام؟!
فقال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فاني أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب عليّ, وأما قولك لم تقبّل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لا يحلّ لرجل أن يقبّل يد أحد إلا امرأته من شهوة أو ولده من رحمة.
وأما قولك لم تسلم عليّ بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك, فكرهت أن أكذب, وأما قولك لم تكنني فإن الله سمّى أنبياءه وأولياءه فقال يا داود ويا يحيى ويا عيسى, وكنّى أعداءه فقال تبّت يدا أبي لهب وتب. وأما قولك جلست بازائي فاني سمعت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه يقول: اذا أردت أن تنظر الى رجل من أهل النار فانظر الى رجل جالس وحوله قوم قيام.
فقال هشام: عظني.
قال: سمعت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه يقول: إنّ في جهنّم حيّات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيّته. ثم قام وخرج!!!
يا الله !!! كيف رق قلب هشام بن عبد الملك لكلام طاووس المختصر البين ... فما أقل الكلمات و ما أكثر العبر ...
الحق يعلو و لا يعلا عليه ..مهما كانت العواقب !!!
و أكتفي هنا بذكر موقف واحد لإمام دار الهجرة و محدثها الأشهر ألا و هو الإمام مالك بن أنس ...موقف عصيب أليم و ما أكثرها في حياته و حياة أئمة المذاهب الثلاثة الأخرى ..
وُشي بالامام مالك إلى جعفر بن سليمان وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء, فغضب جعفر ودعا به وجرّده وضربه بالسياط, ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما, فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة.
وذكر ابن الجوزي في (شذور العقود) في سنة سبع وأربعين ومائة وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لا توافق غرض السلطان!!!
عقوبتي في سبيل الدعوة نعمة و التواضع ردائي!!!
العز بن عبد السلام اسماً ونسباً ولقباً وشهرة ومذهباً ولد الإمام عبد العزيز بن عبد السلام السُّلمي سنة 578هـ ، المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، المصري داراً ووفاة، أبو محمد، الملقب بعز الدين، والمعروف ببائع الملوك ، و بسلطان العلماء لقبه بهذا اللقب تلميذه الأول شيخ الإسلام ابن دقيق العيد..
لما جاء أستاذ الدار الغِرز خليل برسالة الملك الأشرف بدمشق للشيخ العز بعزله عن الإفتاء، قال له: يا غرز من سعادتي لزومي لبيتي، وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطيئته، واشتغل بطاعة الله تعالى، وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله تعالى إلي، أجراها على يد السلطان وهو غضبان، وأنا بها فرحان، والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك، ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صل عليها، فقبِلها وقبّلها، وودعه وانصرف إلى السلطان، وذكر له ما جرى بينه وبينه. فقال لمن حضره: قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة!!! اتركوه، بيننا وبينه الله
وعلى الرغم من الهيبة التي حظي بها العز والتي كان يخشاه لأجلها السلطان والأمراء، وعلى الرغم من المكانة الاجتماعية والعلمية، فقد كان الشيخ العز متواضع النفس مع نفسه ومع ربه ومع الناس جميعاً ، ومما يذكر له في ذلك أن نائب السلطان في مصر عندما جاءه حاملاً سيفه ليقتل العز لفتواه ببيع الأمراء المماليك قام لاستقباله، فاعترضه ابنه خشية عليه من القتل، فقال له: "يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله
فمن الموقف الأول نستخلص أن الداعية عليه دائما أن يرفع شعار "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" و يعلم أن أمر المؤمن كله خير ، و من الموقف الثاني نستنبط لا بد منها للداعية لدين الله إلا و هي التواضع ..فلا يظن الداعية نفسه خيرا من غيره و لا يزكي نفسه على الله !
شجاعة فائقة وصبر جميل!!!
لست بحاجة إلى تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية فسيرته الخالدة تجري على كل لسان ...و مواقفه كثيرة جدا في الدعوة فقد سخر أيامه و لياليه خدمة لدين الله ...
إن شجاعة أحمد بن تيمية بنوعيها العقلية والقلبية كانت نادرة في الرجال وقد أصبح بها والحق يقال أسوة صالحة للمؤمنين...
من مظاهر شجاعته أيضا أن أحدا من المسلمين شكا إليه ما فعل به أحد السلاطين وكان هذا السلطان ذا جبروت، ظلم واعتدى وأخذ أموال الناس، فذهب إليه الشيخ ولما دخل عليه قال له السلطان في تهكم وازدراء، إني كنت أريد أن آتي إليك، لأنك عالم زاهد، فأجابه الشيخ قائلا، موسى كان خيرا مني، وفرعون كان شرا منك وكان موسى يجيء إلى باب فرعون كل يوم ثلاث مرات، ويعرض عليه الإيمان.
ومن مظاهر شجاعته أيضا أن وشى به أحد خصومه المبطلين إلى الملك الناصر لدين الله فأحضره السلطان ووجه إليه تهمة الخيانة فقال له: بلغني أنك قد أطاعك الناس وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث أحمد بالتهمة الباطلة وقال في هدوء ورباطة جأش وثبات قلب وبصوت عال: أنا أفعل ذلك؟ والله أن ملكك لا يساوي عندي فلسا واحدا، فتبسم السلطان من ذلك وقال: والله إنك صادق، وأن الذي وشى بك لكاذب وهذا من جراء ما ألقى الله تعالى في قلبه من الهيبة العظيمة والمحبة الدينية، ولولا ذلك لكان يفتك به.
و أما عن صبره فحدث ولا حرج، وحسبنا أن نعرف أن حياته كلها قضاها في جهاد متواصل بالسيف واللسان والقلم فما كلَّ ولا ملَّ، ولا ترك دعوة الإصلاح في كل حياة المسلمين حتى توفاه الله تعالى في قلعة دمشق.
وماذا نقول عن صبر ابن تيمية وهو القائل: ماذا يبغي الأعداء منى! أو ما يصنع أَعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني. أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة وكان يقول: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه.
كمال العلم و الصدق في الدعوة ..فنجاح و فلاح !!!
لا يفوتنا أبدا الحديث عن كبير دعاة الجزيرة العربية في القرن 12 للهجرة إنه أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب المولود بقرية العيينة سنة 1115 هجرية من البلاد النجدية الواقعة شمال مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية
إن ما لاقاه الشيخ من الشدائد وما قاساه من أذى الناس في سبيل الدعوة إلى الحق أمر لا يوصـف وحسبه أن عاش مجاهدا طيلة عمر مديد بلغ إحدى وتسعين سنة وحسبنا من ذكر صبر الشيخ ذكر مواطنه وقد مر بنا بعضها من ذلك سفره في طلب العلم إلى الشام على رجليه حيث لم يجد راحلة ولا دابة يركبها، وما لاقى من مشاق السفر مما أشرف معه على الهلاك خروجه من العيينة بأمر ابن معمر وهو حاسر الرأس حافي القدمين خائفاً يترقب وقد هم الفارس الموكل به في الطريق بقتله فاستل سيفه وأَراد أن يضرب الشيخ غير أن الله تعالى أنزل به رعبا فشل معه في ضرب الشيخ.
إن آية كمال علم المرء ورسوخه فيه هو ما يتحلى به من صفات الكمال النفسي وما يقوم به من دعوة وعمل ومن هنا كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب على درجة من الكمال العلمي لا فقد وصف بأنه علم من الأعلام ناصرا للسنة مانعا للبدعة، خبيرا مطلعا، إماما في التفسير والحديث والفقه وأَصوله وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان، عارفا بأصول عقائد الإسلام وفروعهـا، كشافا للمشكلات حلالا للمعضلات، فصيح اللسان قوي الحجة، مقتدرا على إبراز الأدلة وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأَبينها، تلوح على محياه علامات الصلاح، وحسن السيرة وصفاء السريرة، يحب العباد ويغدق عليهم من كرمه ويصلحهم ببره وإحسانه ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة. قلما يفتر لسانه عن ذكر الله.
إن البلاد النجدية بصورة خاصة كانت عند ظهور الشيخ في غاية الفساد والضعف من حيث العقائد والأخلاق والسلوك العام والخاص وكذلك كانت حال مكة والبلاد حولها عند بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بدأ الشيخ دعوته في نجد بدأها سرا وكان المؤمنون بها قلة لا تذكر ولاقوا من الضغط الشديد والعداء العنيد مما اضطر الشيخ إلى الهجرة من الحريملا إلى العيينة ثم إلى المدينة
عندما آمن بدعوة الشيخ الأمير محمد بن سعود وانتصر لها أصبحت الدرعية مركز الدعوة ومنطلقها و بدأ جهاد الشيخ المسلح من الدرعية وانتصرت دعوة الشيخ في نجد بعد معارك طويلة خاضها الشيخ وأتباعه على الحق وانتهت بتطهير البلاد النجدية من الشرك والخرافة والباطل والشر والفساد وسادها العلم والعدل وحل بها الأمن والرخاء بتكوين دولة آل سعود..
أسفار كثيرة و نهاية أليمة !!!
لقد كان القرن 18 قمة الانحطاط في العالم الإسلامي خاضعا للدولة العثمانية و للاحتلال الأوربي ..و في خضم هذه الأحداث ولد عبد الرحمن الكواكبي عام 1849 م لأسرة حلبية عريقة عمل في أرقى الوظائف في بداية حياته عُزل من منصبه و تلقى من الأذى ما جعله يلجأ إلى مصر و عاش بقية حياته يطلب الرزق الحلال بالتجارة ، ثم انطلق منها إلى السودان ثم سواحل افريقيا الشرقية حتى جزيرة زنجبار ثم سواحل آسيا الغربية حتى بلاد الهند مارا بجنوب الجزيرة العربية ناشرا دين الله داعيا إلى رفع الظلم عن الشعوب ثم عاد و استقر بمصر ..صرف عمره في البحث عن تشخيص داء الشرق و دوائه و وضع الكواكبي خلاصة تجاربه لداء الأمة و انتقاداته للحكم الإستبدادي في كتابان أحدهما " طبائع الإستبداد و مصارع الإستعباد"... كتاب ماتع جامع لم يقصد فيه ظالما بعينه و لا حكومة مخصوصة و إنما أراد بيان طبائع الإستبداد و عواقبه في ضوء ديننا الحنيف ...و دفع الكواكبي ثمنا غاليا لهذان الكتابان حيث توفي مسموما سنة 1902 و صودرت جميع أوراقه الخاصة بايعاز من السلطة!
تأملوا عزيمة الكواكبي في نشر دين الله ...جاب بلادا كثيرة و لم تجعله مناصبه الراقية في بداية حياته ينجر إلى التسلط و الانضمام إلى حكومة السلطان عبد الحميد الثاني ... بل لم يكن سبيل الدعوة سببا لتركه أسباب الرزق كما يفعل بعض من يدعون الدعوة في عصرنا !
نشر الوعي الديني سبيل الخلاص من الاحتلال!!!
نشر العقيدة الصحيحة الشعار الذي رفعه الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري في عهد الاحتلال الفرنسي التزمه طيلة حياته المحتشدة بالأحداث الجسام، والتحوُّلات العظيمة، والجهاد لعودة المجتمع الجزائري إلى ينابيعه الأصيلة...
وُلد الإمام محمد البشير طالب عام1889م في بيت علم ودين لحق بوالده الذي هاجر إلى المدينة المنورة هرباً من ويلات الاحتلال ، وقد مرَّ في طريقه إلى المدينة بمصر التقى خلالها عدداً من علمائها وحضر بعض دروس العلم في الأزهر الشريف.وعندما استقر في المدينة المنوَّرة، درس على كبار علمائها شتى علوم الدين فأصبح يلقي دروساً على طلبة العلم في الحرم ...ثم سافر إلى دمشق و مكث بها لتدريس الآداب العربية
عاد الإبراهيمي إلى بلده مرَّة أخرى و كان شغله الشاغل وجود حركة تحيي الإسلام في وطنه، وتنشر العلم فأسَّس والشيخ ابن باديس جمعية "العلماء المسلمين الجزائريين" وجاء شعار الجمعية صارخاً مدوِّياً ، راسماً طريق الخلاص من الإحتلال:"الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا".
وفي أثناء إعداده للشباب والرجال، لم ينس الإبراهيمي الفتيات والنساء، فكان يقول:"المرأة المسلمة موضوع ذو شعب: جهلها، تربيتها، تعليمها، حجابها، وظيفتها في البيت... وإنَّ المرأة إذا تعطَّلت عطَّلت الرجل، وإذا تأخَّرت أخَّرته، ولا سبب لانحطاط المرأة عندنا إلا هذا الضلال الذي شوَّه الدين وقضى على المرأة بالخمول، فقضت على الرجل بالفشل، وكانت نكبة على المسلمين".
و أذكر له في هذا المقام موقفا مؤثرا اتجاه إخواننا في فلسطين ... طلب من الشعب أن يصوم أسبوعا في الشهر و يرسل ما يدخره إلى فلسطين ...رغم البأس والفقر!!!
شهد الإبراهيمي استقلال بلده ...و لن أبالغ إن قلت أن بأمثاله استقلت الجزائر و ليس بغيرهم !
تركيا حبلى و ستلد الالحاد و أوربا حبلى و ستلد الإسلام !
هذه المقولة الشهيرة تترد على الألسنة و يجهل الكثيرين صاحبها الشيخ العالم المجاهد سعيد النورسي المعروف بـ : بديع الزمان النورسي ، ولد في قرية نورس شرقي الأناضول في تركيا عام 1877 م ، نشأ على تعاليم الدين الإسلامي و بدأ طريقه في الدعوة منذ الصغر ..و أذكر له في هذا المقام موقفا عويصا مر به في مجال الدعوة و ما أكثرها من مواقف كان يواجه فيها السلطان عبد الحميد طلبا منه قبول إنشاء الجامعة الإسلامية التي يحلم بها منذ الصغر و ينتقد استبداده و ترك الناس في جهلهم ...كان لا يخاف في الله لومة لائم... في أحد هذه المواقف سافر إلى استانبول مرة أخرى عام 1907 م وقابل السلطان... فأثار عليه حاشيته ، وأحالوه إلى محكمة عسكرية.
وكان النورسي في منتهى الشجاعة في التعبير عن رأيه أمام القضاة العسكريين، الأمر الذي جعل رئيس المحكمة يحيله إلى الأطباء النفسانيين، للتأكد من سلامة قواه العقلية !!! وكانت لجنة الأطباء المؤلفة من طبيب تركي، وآخر أرمني، وثالث رومي ومن طبيبين يهوديين !!! قررت وضعه في مستشفى للمجانين!!! يضعون أعقل رجل مع فاقدي العقل !!!
وعندما حضر طبيب نفساني إلى المستشفى، لفحص قواه العقلية، بادره النورسي بحديث رائع عميق يأخذ بالألباب، فما كان من الطبيب إلا أن يكتب في تقريره:
" لو كانت هناك ذرّة واحدة من الجنون عند بديع الزمان، لما وُجد عاقل واحد على وجه الأرض"!!!!.
و استمر بديع الزمان في دعوته بدون فتور و لا انقطاع و واصل نضاله من أجل دين الله حتى توفي سنة 1960 م في 25 من شهر رمضان المبارك فكان بديع الزمان السبب في عودة الصحوة الإسلامية إلى تركيا بعد أن كادت تغط في سبات الإلحاد بقاطبتها!
و خلاصة كلامنا عن كل هؤلاء الدعاة هي ذكر سر نجاحهم في الدعوة و أخذ العبرة من سيرهم و نلخصها في النقاط التالية :
1- العلم والمعرفة والرسوخ في ذلك الأمر الذي يمكن الداعي من إظهار الحجج ومقاومة الباطل وإظهار زيف التضليل مهما طلى وحسن ونمق.
2- قوة الصلة بالله تعالى وذلك بالإكثار من القربات وفعل الطاعات.
3- الترفع عن الدنيا والزهد في حطامها الفاني و شهواتها، وعدم الالتفات إلى ملاذها.
4- الإخلاص في الدعوة إلى الله تعالى، وعدم نسوبها بأمة شرك ما.
5- الصبر والتحمل وعدم الكلل أو الملل بأي حال من الأحوال.
6- توطين النفس على الجهاد وخوض معاركه عندما يحين وقته ويتعين القيام به.
الروابط المفضلة