[دورة: كيفية الإيمان بالقدر]
الدرس: الرابع
س169: ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات ؟ مع بيان ذلك بالأدلة وضرب الأمثلة .
ج169: أقول : قبل الإجابة على هذا السؤال المهم أحب أن أنبهك على أمرين مهمين غاية الأهمية ، وهما :
الأول : اعلم أن القاعدة عند أهل السنة تقول : يجوز الاحتجاج بالقدر في المصائب لا المعائب ، ونعني بالمعائب أي المعاصي التي لا يزال يقارفها ، وقد شرحنا هذه القاعدة في القواعد المذاعة .
الثاني : اعلم أن أهل السنة - رحمهم الله تعالى - يقولون : إن الاحتجاج بالقدر حجة إبليسية التأصيل والتخطيط وآدمية التنفيذ ، فأساسها من كيد الشيطان الرجيم ، والمنفذ لها تطبيقًا عمليًا هم كثير من بني آدم ، والله أعلم .
ثم نقول : الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية وترك الواجب حجة داحضة باطلة كل البطلان نقلاً ، وعقلاً ، وحسًا ، وفطرة ، وبيان ذلك من وجوه عشرة :
الأول : أن القرآن أبطل هذه الحجة غاية الإبطال ولم يعتبرها شيئًا وسماها جهلاً وتخرصًا وظنًا كاذبًا ونفى أن تكون من العلم في شيء ، ووصفها بالزور والبهتان ، قال تعالى : }وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون{ ، وقال تعالى : }وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين{ ، وقال تعالى : }أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين{ ، وقال تعالى عن الذين عبدوا الملائكة أنهم قالوا : }وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون{ ، وأي إبطال بعد هذا الإبطال وما كان باطلاً فإنه لا يسوغ للعاقل أن يتمسك به .
الثاني : اتفاق السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة على عدم اعتبار ذلك حجة مقبولة ، فإنهم - رضي الله عنهم - لم يؤثر عن أحد منهم شيء من ذلك ، بل كانوا ينكرون على المخالف ويعاقبون من وقع فيما يقتضي العقاب من فعل محظور أو ترك مأمور بلا نظر في أن ذلك مقدرًا عليه ، ولاشك أن الإجماع ثابت ثبوتًا قطعيًا في هذه المسألة ، فعلى من نصح لنفسه وأرد لها النجاة باتباع هذا الإجماع فإنه من سبيل المؤمنين.
الثالث : أن الأدلة من الكتاب والسنة قد دلت الدلالة القاطعة الصريحة على أن حجة الله على عباده قد قامت بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، قال تعالى : }رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون على الله حجة بعد الرسل{ ، فلا حجة للعباد في ترك المأمور أو فعل المحظور ، فإن الله تعالى قد بين لنا طريق الخير من الشر فالحجة قد قامت والمحجة قد بانت فلم يبق لأحدٍ بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب حجة لمحتج .
الرابع : أن الاحتجاج بالقدر لو كان حجة مقبولة لأدى ذلك إلى إبطال الشرائع ؛ وذلك لأنه يسوغ لكل أحد ترك امتثال الأمر المشروع وارتكاب الشيء الممنوع أن يقول : الله قدره علي ، وكل الأشياء بقدر الله ، فلا داعي إذًا إلى الشرائع ولا إرسال الرسل ولا إلى خلق النار ولا إلى حساب وعذاب ، إذ كل أحدٍ سيحتج بالقدر ، فبان بذلك أنه حجة داحضة باطلة لأنها موصلة إلى هذه النتيجة الباطلة ، وما أدى إلى الباطل فهو باطل .
الخامس : أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي مع مخالفته للمنقول فهو أيضًا مناقض للمعقول ، وبيان ذلك أن الإنسان قبل فعل هذه المعصية هل كان يعلم أن الله قدرها عليه ؟ بالطبع لا ، فيكون هو الذي أقدم على فعلها اختيارًا منه لا اضطرارًا ، ولماذا لا يتركها ويقول : لم يقدرها الله علي ، بل لماذا لا يقبل على فعل الطاعة ويقول : الله قدر علي في هذا الوقت أن أفعل هذه الطاعة ، فإن هذا قليل فاعله ، أما أن يتقحم في المعاصي ويخالف أمر ربه ويتنكب عن الصراط المستقيم ويرتكب المحرمات وموبقات الآثام ، ويقول : الله قدرها علي ، فهذا خائب خاسر تائه ضائع لا حظ له في الآخرة ولا ينفعه ذلك يوم القيامة ؛ لأنه لم يكن يعلم ما قدر له حتى يقول : الله قدرها علي ، والله أعلم .
السادس : أن الاحتجاج بالقدر فيه تعطيل للأسباب التي جاءت الشريعة بإثباتها والأمر بها ، فإن الشريعة قد ربطت الآثار بأسبابها فمن أراد هذا الشيء فعليه بتحصيل سببه أما أن يريد آثار الأسباب من غير تحصيل للأسباب فإن هذا قدح في الشرع وعجز وكسل وخور فإن من أراد الولد فلا بد أن يحصل الزواج ؛ لأنه طريق الولد ، لكن من ترك الزواج وقال : إن كان الله قدر لي الولد فسيأتيني ولو لم أتزوج ، فهذا هو الحمق بعينه والجنون بعروقه .
ولو قال قائل : أنا لن أذهب للعمل وإذا كان الله قد قدر لي حصول الراتب آخر كل شهر فسيأتي الراتب ولو لم أسع لتحصيله ، فبالله عليك هل هذا الكلام يمكن أن يصدر من عاقل يعرف ما يقول ؟
ولو قال قائل : أنا لن أذاكر ولن أجتهد في حفظ الدرس وفهمه ولو قدر الله لي النجاح فسأنجح ولو لم أبذل سببًا ، فقل لي بالله عليك ما رأيك بهذا الكلام فإني أدع الجواب لعقلك وقلبك ، وهذا يبين أن الأشياء قد ربطت بأسبابها والتفريق بين الآثار وأسبابها قدح في الشرع وخبل في العقل فنقول : وكذلك أيضًا الهداية ودخول الجنة فإنها قد ربطت بأسبابها ، ففي الحديث : ((فاستهدوني أهدكم)) ، وفي الحديث الآخر : ((اعقلها وتوكل)) ، فمن أراد الهداية فعليه بسلوك سبب تحصيلها ومن أراد الجنة فعليه بسلوك سبب تحصيلها من فعل المأمورات وترك المحظورات مع الإخلاص والمتابعة ، ويوضح ذلك أكثر أن نقول : اعلم يا من تحتج بالقدر أنك لا تحتج به إلا في ترك أمور الطاعة وفعل الحرام فقط ، أما في أمور الدنيا فلا نراك تحتج بالقدر على ترك أسبابها ، بل تفني نفسك ووقتك في تحصيل أسبابها ، ونقول : لابد من الأخذ بالأسباب ، وأما أمور الطاعة والأخذ بأسباب دخول الجنة من تحصيل الهداية والاستقامة فإنك تقول : إذا شاء الله أن يهديني فستحصل الهداية ، وإذا أراد الله أن يدخلني الجنة فسيحصل ذلك ، وهذا عين التناقض ، فبالله عليك كيف تأخذ بتحصيل أسباب الرزق وقد تكفل الله به وتترك تحصيل أسباب الجنة التي ما خلقت أصلاً إلا للعمل لتحصيلها ، فهذا والله لا يسوغ عند العقلاء ، وهذا دليل من الحس ، والله أعلم .
السابع : أن العبد مأمور بالإيمان بالقدر واتباع الشريعة بفعل المأمور واجتناب المحظور ، فلا تناقض بين القدر والشرع ، فالمحتج بالقدر على ترك المأمور أو فعل المحظور هو في حقيقته مؤمن بوجود التناقض بين قدر الله وشرعه وهذا فيه قدح كبير في علم الله وحكمته ، بل يجب عليك أن تعلم أن من لم يؤمن بالشرع فإنه مكذب بالقدر لأن شرع الله من جملة قدره ، ومن لم يؤمن بالقدر فإنه مكذب للشرع ، ولذلك قال ابن عباس : القدر نظام التوحيد ، فمن اعتقد أن هناك تعارضًا بين القدر والشرع فهو زنديق ، ولا يصل العبد إلى ذلك إلا بالاحتجاج بالقدر على ترك الشرع ، فاحذر من ذلك يا رعاك الله .
الثامن : أن العباد مطالبون بالنظر فيما أمروا به فيفعلونه وفيما نهوا عنه فيتركونه ، هذا هو الذي تعبدنا الله تعالى به وهو الذي سنسأل عنه يوم القيامة ولسنا مأمورين بالنظر فيما قدر لنا ؛ لأن هذا أصلاً في علم الغيب ولا يستطاع العلم به ، بل قد نهينا عن الخوض في القدر بلا علم أو برهان ، فنحن مطالبون بالاجتهاد في العمل لا في مطالعة الأقدار ، فالمحتج بالقدر ترك ما هو مأمور به من العمل ونظر فيما لم يؤمر به من مطالعة القدر ، فأشغل نفسه في مطالعة ما لا يعود عليه بالنفع لا العاجل ولا الآجل ، بل أشغل نفسه فيما يعود عليه بالضرر ؛ لأن الهدى والصلاح والبر والتقوى إنما هي في متابعة الرسول e لا في مجرد النظر فيما قدر لنا ، والله المستعان .
التاسع : أن العبد مأمور بالتوبة إذا وقع منه الزلل أمر إيجاب ، قال تعالى : }وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم ترحمون{ ، وقال تعالى : }يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا{ ، والاحتجاج بالقدر على فعل المعصية قاتل لانبعاث التوبة في القلب ، وبيان ذلك أنه قد سوغ لنفسه الاستمرار على هذه المعصية بأن الله قدرها عليه فلا يفكر أن يتوب منها لأنه وإن رآها خطأ إلا أنه يرى أنه معذور في فعلها لأنها مما قدر وكتب عليه ، فتراه مستمرًا عليها لا ينزجر عن فعلها ولا يرعوي عن مقارفتها ، والتوبة أمر مقصود شرعًا والاحتجاج بالقدر يدفع هذا المقصود الشرعي ، وما دافع المقصود الشرعي فإنه باطل .
العاشر : أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية لو كان حجة مقبولة لبادر بها إبليس لـمَّا تخلف عن السجود ولقال يا رب أنت قدرتها علي ، لكن علم في قرارة نفسه أنها لا تنفعه لأنها في الحقيقة ليست عذرًا مقبولاً ، فإبليس بهذا مثله كمثل من يروج المخدرات وهو لا يستعملها فهو يروج لهذه البضاعة - أعني الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية - وهو عالم كل العلم أنها ليست مما ينفع ، ولذلك عدل عنها .
فهذه بعض الأوجه في كشف زيف هذه الحجة ولعلها تكون كافية إن شاء الله تعالى ، والله أعلى وأعلم .
* * *
س170: ما المشروع عند نزول المصائب ؟ مع بيان الدليل .
ج170: المشروع عند نزول المصائب من الموت والأمراض والعاهات والحوادث والكوارث ، ونحو ذلك عدة أمور :
الأول : أن يعلم أنها مما سبق به القلم وطويت عليه الصحف ، قال تعالى : }ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير{ ، وأنه لا دافع لقضائه ولا معقب لحكمه جل وعلا .
الثاني : أن يؤمن إيمانًا جازمًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه .
الثالث : وجوب الصبر وعدم فعل أو قول شيء فيه جزع وتسخط على ما نزل من القدر ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) . وقال أبو موسى : ((إن رسول الله e بريء من الصالقة والحالقة والشاقة)) . الصالقة : هي ترفع صوتها عند المصيبة ، والحالقة : التي تحلق شعرها أو تنتفه عند المصيبة ، والشاقة : هي التي تشق جيبها عند المصائب . وقال - عليه الصلاة والسلام - : ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) ، وكل هذه الأحاديث في الصحيح .
ومن ذلك قول ( لو ) كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ((وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)) ، فالصبر عند المصائب معناه حبس اللسان والجوارح عن قول وفعل ما لا يليق مما فيه منافاة لما يجب منه ، نسأل الله تعالى أن يعيننا وإياك على الصبر عند حلول المصائب .
الرابع : أن يعلم العبد أن هذه الحوادث والكوارث إنما سببها ما كسبت يداه من الذنوب والآثام ، قال تعالى : }ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون{ ، وقال تعالى : }وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير{ ، لأن العبد إذا استشعر ذلك أحدث له توبة واعترافًا وانكسارًا وخضوعًا لربه جل وعلا واستغفارًا على سابق هذا الذنب وهذا أمر مقصود شرعًا.
الخامس : الرضى والتسليم لقضاء الله وقدره ، قال تعالى : }ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه { ، قال علقمة : ((هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم)) .
وقد اختلف العلماء في حكم الرضى على قولين ، والأرجح أنه مستحب ، وهو اختيار الشيخ تقي الدين وتلميذه ، وكثير من المحققين .
السادس : شكر الله وحمده على ما قضاه وقدره ، وأن يحدث العبد عند ذلك عبودية الشكر والحمد وهذا مقام العارفين وهو سنة لكنه حالة كاملة عالية فاضلة صعبة المنال إلا على من يسرها الله عليه ، فإن العبد قد يشكر ويحمد بلسانه فقط وفي قلبه ما فيه ، أما أن يكون الشكر والحمد مصدره القلب واللسان معبرٌ عنه فهذا لا يستطيعه إلا أهل العبادات وصفاء النفوس ، جعلنا الله وإياك منهم .
السابع : التسلي بقول الأوراد الشرعية الثابتة في ذلك ، كقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، قال تعالى : }الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون{ .
وكقول : ( قدر الله وما شاء فعل ) ، كما ورد معنا في الحديث قبل قليل .
وكقول : ( اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها ) ، كما في حديث أم سلمة لما مات أبو سلمة أمرها النبي e أن تقول ذلك ، فأبدلها الله برسول الله e .
وكقول الإنسان لأخيه عند نزول مصيبة الموت بأحد أهله : ( اصبر واحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى ) ، كما في الحديث الصحيح : ((مرها فلتصبر ولتحتسب ... )) إلخ . وكقول الإنسان عند زيارة المريض : ((لا بأس عليك كفارة طهور إن شاء الله تعالى )) كما في الحديث ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
______________________________________
الأسئلة التطبيقية:
س1: ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات ؟ "اذكري ثلاثة فقط"
س2: ما المشروع عند نزول المصائب ؟ مع بيان الدليل . "اذكري ثلاثة فقط"
***
وفقكم الله ورعاكم..
اعتذر.. على اطالة الدرس..لأن السؤالين مرتبطين ببعض..فجمعتهما معا..
نكمل بإذن الله تعالى دروسنا..يوم الخميس بعد القادم..
*
*
الروابط المفضلة