أخذ مكانه في الطائرة التي ستنقله إلى معشوقته.. يطالع ساعته في معصمه بين دقيقة وأخرى.. ما به الوقت يمر بطيئاً هكذا؟!.. قلّب صفحات مذكرته التي ترافقه أينما ذهب علّه ينسى أمر هذا الوقت الذي تعمّد البطء.. صفحات كثيرة من مذكرته أسكن فيها العدّ التنازلي لسفره.. إنه لقاء الأحبة.. ومَن لا يعي لقاء الأحبة لا يعي ما يفكر فيه..
مرت ثمانية ساعات أخيراً؛ بينما قائد المركبة يعلن وصولهم! الفرحة تكسو محيّاه.. وأخيراً سيراها؟! كم من سنوات مضت كان يدّخر فيها القرش على القرش استعداداً لمثل هذا اللقاء.. حرم نفسه من ملذات الدنيا؛ فقط من أجل لقائها.. لا يهم.. فالمهم تحقيق الحلم..
استقل أول سيارة أجرة رآها.. تعمّد السائق استغلاله بعدما رأى تعجّله.. حسناً؛ لا يهم.. فكل أموال الدنيا تهون من أجلها.. سمع عنها كثيراً.. وقرأ عنها أكثر.. رسمها في مخيلته.. حسناء ترفل في ثياب لم يُرَ مثلها على وجه المعمورة.. الجميع يتحدث عنها وعن جمالها.. لكنهم لم يستطيعوا إيصال الصورة الكاملة لها في ذهنه.. كل ما يعرفه أنهم يسمّونها بطاح مكة ووديانها..
وصل إليها أخيراً.. يا إلهي؛ ما أوسع رحمتك.. أيعقل أنني سألقى حبيبتي أخيراً؟!.. تلفّت حوله.. يبحث هنا وهناك.. عن تلك الأرض التي ولد فيها سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – بحث عن تلك الأرض التي ولد فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي –رضوان الله عليهم أجمعين- أيعقل أنها هي؟! ما بها؟!! إنها ليست كالتي رآها ليالي كثيرة في أحلامه.. ما الذي حلّ بها؟! إنه لا يرى سوى نساء نسين عهد أمهاتهن فخرجن متبرجات أشبه بتبرج الجاهليات الأُوَل؟! ما بال الرجال لم يعودوا رجالاً؟! إنه لا يرى سوى قلة من أولئك الذين عرفوا حقّ رسالتهم؛ أما البقية ما بالهم غدَوْا أشباه رجال!!! ما هذا؟! قبعة يهودية تعتلي بيوت من يسكنون محبوبته!! أيعقل هذا؟! مساكن على اختلاف أشكالها وألوانها تعتمر تلك القبعات البغيضة؛ قبعة سوداء صنعتها أموال يهود وباركتها يد شيطان!! حتى البيوت القديمة وضعتها في الأعلى؟! لا يعقل ما يراه.. يا إلهي!!
اتخذ ركناً قصياً يحاول جمع شتات نفسه التي بعثرتها صدمة اللقاء الأول.. هذا اللقاء الذي رسم من أجله أبهى لوحات الدنيا.. ومع تلك الهمهمات؛ تسرّب إليه صوت رقيق عذب.. صوت ينقلك إلى عوالم أخرى.. بعيداً عن المتبرجات وأشباه الرجال والقبعات اليهودية.. وقف يبحث عن مصدر ذلك الصوت.. سار بعيداً متتبعاً انبعاث الصوت..
هاهي.. تقف شامخة ترفل في ثياب النور.. خلع حذاءه وسار إلى الداخل.. راحة لا يحسّ بها إلا من اشتاق لأحبته.. طمأنينة لا تعيشها إلا عندما تعيش في عالم تسوده العداوة.. قلّب ناظريه؛ لا يهم ما يراه من الناس.. فالمهم أن يصل إلى محبوبته.. أن يرتمي بين يديها.. أن يقبّل كل حجر فيها وكل ركن وزاوية..
صلى لخالقه صلاة أودع فيها كل خلجات فؤاده.. وصعدت روحه لخالقها..
صدى (ابنة الرجل)
الثلاثاء 21 -9- 2004
الروابط المفضلة