‘‘ اعتبِرُوني قِطًّا :""
دخلَت عليه أُمُّه فجأةً، فوجدته نائِمًا وكِتابُه بجانبِهِ،
فصرَخَت وقالت: هل هذا وقتُ نومٍ؟! يبدو أنَّكَ لم تحفَظ السُّورة،
ولم تُكمِل مُذاكرتَكَ.
قام أحمد ذو الثَّماني سنواتٍ مفزوعًا، وقال: ماذا حَدَث؟!
فوقعَت عينُه على أُمِّهِ، فقام سريعًا، وأمسكَ بالمُصحفِ، وقال:
لقد حَفِظتُ السُّورةَ، وبَقِيَ أن أُراجِعَها.
قالت أُمُّه غاضِبةً: هكذا دائِمًا أنتَ في المُؤخِّرة. أبناءُ خالتِكِ ختموا القُرآنَ،
رغم أنَّهم أصغرُ مِنكَ سِنًّا، وأنتَ ما زِلتَ في الجُزءِ الخامِس.
إنَّهم أفضلُ مِنكَ. حتى دُرُوسُكَ تُذاكِرُها بعد ضغطٍ مِنَّا وضربٍ.
قال أحمد في نفسِهِ: وهذا سببُ تأخُّري، فليتكم تفهمون.
ثُمَّ أكملَت أُمُّه قائلةً: سأذهَبُ لإعدادِ العَشاءَ، وأعودُ لأرى ماذا صنعتَ.
إنْ لم أجِد حِفظَكَ للسُّورةِ مُتقنًا، وكذلك حِفظَكَ للدروس، سيكونُ عِقابُكَ شديدًا.
قال أحمد في نفسِهِ: لقد حَفِظتُ عِقابَكِ. وهل هناك أشَدُّ من الضربِ؟!
هذا عِقابُكم الوحيدُ الذي عرفتُه مذُ خرجتُ لهذه الدُّنيا.
انطلَقت الأُمُّ خارجةً من الحُجرة، وبينما هِيَ تُغلِقُ البابَ، إذ لَمَحَت ابنَها سارحًا
في التَّفكير، فرَفَعَت صوتَها قائِلةً: انظُر في كِتابِكَ، ولا تُضيِّع وقتَكَ.
أمسَكَ أحمد بكتابِهِ، وبدأ يُذاكِرُ، وكأنَّه يفعلُ شيئًا ثقيلاً على نفسِهِ،
لا يُحِبُّه ولا يرتضيه، لكنَّه مُجبَرٌ عليه.
وفي اليوم التَّالي، وبعد انتهاءِ اليومِ الدراسيٍّ، عاد أحمد من مدرستِهِ مُرهَقًا،
ومع ذلك فقد كان فَرِحًا لحُصولِهِ على درجةٍ مُرتفعةٍ في مادة اللغةِ العربيَّة.
دخل البيتَ، وأسرَعَ إلى والِدِه لِيُرِيَه ورقةَ الاختبارَ، ويُفرِحَه بنتيجتِهِ.
وقال: انظُر يا أبي، لقد حصلتُ على درجةٍ مُرتفعةٍ في مادةِ اللغةِ العربيَّةِ،
وقليلٌ من زُملائي حصلوا على هذه الدرجةِ.
أمسَكَ الأبُ بالورقةِ، وبدأ ينظُرُ إلى إجاباتِ ابنِهِ على الأسئلةِ،
ثُمَّ بدأ الغَضَبُ يَظهَرُ على وجهِهِ.
شعَرَ أحمد بتغيُّر وجهِ أبيه، فأراد أن ينصرفَ، فجَذَبَه أبوه وأخذ يَضربُه،
ويقولُ: هل هذه درجةٌ تحصلُ عليها؟! ما الذي أعاق حُصولَكَ على الدرجةِ
النِّهائيَّةِ؟! تنقُصُ درجةً كاملةً! يا لَكَ من فاشِلٍ! أخبِرني، هل حرمناكَ من شيءٍ؟!
هل منعنا عنكَ شيئًا؟! لقد خيَّبَت أملَنا فيكَ، وضَيَّعتَ تعبَنا وسَهرنا لأجلِكَ.
اغرُب عن وجهي الآن، فقد ضايقتني وأزعجتني بهذه النتيجة السيئةِ.
ذَهَبَ أحمد إلى حُجرتِهِ، ودُمُوعُه على خَدِّه، وهو يتألَّمُ ويتأوَّه،
فقد أتعبَه ضربُ أبيه.
قالت أُمُّه لأبيه: لقد بالَغتَ اليومَ يا أبا أحمد في ضربِ ابنِنا.
قال: هذا من أنجح أساليب العِقاب في نظري، وإنْ لم أضربه،
سيفشل ويَضيعُ مُستقبلُه، وتسوءُ حياتُه.
نام أحمد على سريره مُتعَبًا باكيًا، وبدأ يُحدِّثُ نفسَه قائِلًا:
آهٍ يا قومِ لو تعلمون كم تُؤلِمونني بأفعالِكم! وكم تُتعِبونني بضربِكم وعِقابِكم!
ستكونون سببَ فشلي. أنتم عائِقٌ في طريق تقدُّمي. ليتكَ يا أبي تعتبِرُني قِطًّا،
فتكونُ رفيقًا بي لطيفًا معي، كما تفعلُ مع قِطِّك. وليتكِ يا أُمِّي تعتبرينني كأسًا
تحملينه برِفقٍ وتخشين انكسارَه، كما تفعلين مع الكؤوس التي نشربُ فيها
وتغسلينها بعِناية.
ليتكم تعتبرونني حيوانًا، وتُعامِلونني كما يُعامِلُ الكُفَّارُ الحيواناتِ في الخارج
ويعتنون بهم. لقد أبغضتُ القُرآنَ بسببكِ يا أُمِّي أنتِ وأبي، وكرهتُ الدُّروسَ
والمُذاكرة، ولولا ضربُكما وعِقابُكما الشديد لَمَا حَفِظتُ قُرآنًا ولا أمسكتُ كِتابًا.
لم تَدَعَا لي وقتًا لِلَّعِبِ أو الرَّاحة. تُريداني أن أحصُلَ على الدَّرجاتِ النِّهائيَّةِ،
وأن أكونَ مُتفوِّقًا في دراستي، وأن أدخُلَ الكُليَّةَ التي ترغبانها. أشعُرُ أنِّي أسيرٌ
في سِجنٍ لا أستطيعُ الخُروجَ منه، أو أنِّي مُقيَّدٌ بسلاسل من حديد.
أرى زُملائي يَمرحون ويَضحكون ويتحرَّكونَ بسَعادةٍ، وأنا لا أستطيعُ أن أبتسِمَ،
فكُلُّ لَحظةٍ أقضيها في هذا البيتِ تزيدُني تعاسةً وحُزنًا وألمًا.
ليتني أموتُ كي ترتاحا مِنِّي، وكي أرتاحَ من عِقابِكما الدائم،
وإشعارِكما لي بالفشل.
وفي هذه الأثناءِ، كان هُناك طَرْقٌ على باب البيت.
فَتَح الأبُ، فإذا هو خالُ أحمد. رَحَّبَ به وسلَّم عليه، وأدخلَه للبيتِ.
ثُمَّ جاءت أُمُّ أحمد، وسلَّمَت عليه، وجلَست تتحدَّثُ معه.
سأل الخالُ عن أحمد، فأخبرته الأُمُّ أنَّه في حُجرته، فدخل إليه،
فإذا به يرى الدُّموعَ في عينيه.
سأله عن سبب بُكائِهِ، فأخبره أحمد بما حَدَث. وقال: هكذا دائِمًا أُمِّي وأبي
يُعاقبانني على أيِّ شيءٍ وعلى كُلِّ شيءٍ، صغيرًا كان أو كبيرًا،
لدرجةِ أنَّني أصبحتُ أشعرُ بالاختناق عند وجودي في البيتِ،
وصِرتُ أتمنَّى المَوتَ.
قال الخالُ: لا يا أحمد، لا تتمنَّى المَوتَ يا بُنيَّ، فإنَّ نبيَّنا مُحمدًّا- صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم- نَهَى عن ذلك. وأبشِر يا ولدي، فإنَّ الأمورَ ستُصبِحُ أجمل،
ووالِدَاكَ سيتغيَّران بإذن الله. واعلَم أنَّهما يُحِبَّانِكَ، ويُريدان مصلحتَكَ،
فأنتَ فلذة كبدهما، وابنهما الغالي عليهما.
ثُمَّ خرج الخالُ من الحُجرة، وأقبل إلى والِديْ أحمد، وقال: يا أبا أحمد،
يا أُمَّ أحمد، لماذا تُعاملان ابنكما بهذه القسوة؟! أشعرُ بالحُزن يملأ قلبَه،
والسَّعادة لا تعرفُ له طريقًا.
أُمُّ أحمد: ما الذي تقولُه يا أبا فاطمة؟! ابنُنا بخيرٍ وللهِ الحَمد، وحالُه أفضلُ
بكثيرٍ من غيره من الأطفال، ونحنُ لا نحرمُه من شيءٍ أبدًا.
الخالُ: بل تحرمانه من أشياء كثيرةٍ مُهِمَّة.
أبو أحمد: ومِن أيِّ شيءٍ نحرمُه إذا كُنَّا نشتري له كُلَّ ما يَحتاجُه من ملابس
وأدواتٍ مدرسيَّة وكُلّ ما يَلزمُه ويَطلبُه، ونُعطيه مَصروفًا يوميًّا؟!
ابنُنا هو أغلى شيءٍ نملكُه، فكيف تقولُ هذا الكلامَ؟!
الخالُ: هذا في نظركما. وهل التربيةُ مُجرَّد توفير احتياجاتٍ مادِيَّةٍ فقط؟!
أنتما تُعاقبان ابنكما عِقابًا بدنيًّا لا يَقوَى على تحمُّله. تضربانه وهو ما زال
زهرةً صغيرةً يانعةً رائعةً. بأسلوبكما هذا ستُحوِّلانه إلى شوكةٍ لا نفعَ فيها،
بل ستُؤذِي وتجرحُ كُلَّ مَن يقتربُ منها.
أساليبُ العِقاب كثيرة، والضربُ واحِدٌ منها، فلا يُستخدَمُ مع طِفلٍ في هذا العُمُر.
هل فكَّرتُما يومًا كم من المُشكلاتِ قد تحدُثُ لابنكما بسبب الضرب والعِقاب
المُؤلِم؟! هل تظُنَّانِ أنَّه بهذه الطريقةِ يَحفظُ ويُذاكِرُ لأجل أن يُصبِحَ له شأنٌ
في الحَياة؟! هل تظُنَّانِ أنَّه يَحفظُ القُرآنَ لأجل أن يَشفَعَ له يومَ القيامةِ أو لأجل
أن يَرتفعَ به في درجات الجنَّة؟! لا؛ لأنَّه مُجبَرٌ على ذلك، يَحفظُ ويُذاكِرُ لأجلكما
فقط، ولأجل أن يتجنَّبَ غضبَكما وعِقابَكما.
حكمتُما عليه بالفشل لتأخُّره في الحِفظ وخَتم كتاب الله، وقارنتُماه بغيره،
ونسيتُما أنَّ هناك فُروقًا فرديَّةً بين البشر، وأنَّ كُلَّ إنسانٍ يفعلُ ما يَستطيعُه
ويَقدرُ عليه حسب قُدرته وطاقته.
لقد بنيتُما بداخله جبلًا من الخوفِ والألم، لن يزولَ بمُرور الأيَّامِ،
إلَّا أن تُغيِّرا من طريقتكما في التَّعامُلِ مع هذا الطفل الرقيق، وتستبدلا هذا
الجبل بجبلٍ من العَطفِ والحُبِّ والحَنان.
لتعلَما أنَّ ابنكما ليس أنتُما، ولا يُمكنُ أن يتربَّى بالطريقةِ التي تربَّيتما عليها.
بل إنَّكما وأنتما صغيران لم تكونا تُحِبَّان العِقابَ، رغم أنَّكما كُنتما تُخطِئان،
فلماذا تُحِبَّانه الآن لابنكما؟! رَبِّيا ابنكما على الإسلام، وارسما له الطريقَ
الصحيحَ، ووَجِّهاه وأرشِداه، ثُمَّ اتركا له الاختيارَ الذي يُناسِبُه ويَميلُ إليه
ويُحِبُّه.
أبو أحمد: وهل الضربُ حرامٌ يا أبا فاطمة؟! أرى في كلامِكَ مُبالغةً شديدةً.
الخالُ: ليست مُبالَغةً يا أبا أحمد، فهذا واقِعٌ لا تلمسُه أنتَ؛ لأنَّكَ أنتَ المُعاقِب
لا المُعاقَب. والضربُ ليس حرامًا، لكنَّه وسيلةُ تأديبٍ لا تعذيبٍ، ولا يُستخدَمُ إلَّا
بضوابط مُعينة، ولا يكونُ أوَّلَ ما يُلجَأُ إليه في حالةِ الخطأ، كما أنَّه لا يُستخدَم
إلَّا مع الخطأ العَمد. وإذا ضربتَ، فلا بُدَّ أن تعرِفَ مَن الذي يَستحِقُّ الضربَ؟
ولماذا تضرِبُ؟ وكيف تضربُ؟ وأين تضربُ؟ ومتى تضربُ؟
أُمُّ أحمد: وهل عندنا أغلى من ابنِنا، ثمرة فؤادِنا، وزَهرة حياتِنا، وقُرَّة عينِنا؟!
الخالُ: لذا حافِظا عليه، فهو أمانةٌ عندكما ستُحاسَبان عليها في الآخِرة.
وانظُرا كم من الآباءِ فَقَدُوا أبناءَهم بسبب الضربِ! وكم من الآباءِ عَقَّهم أبناؤهم
عند كِبرهم بسبب العِقاب الدائم والمُقارنةِ وسُوءِ المُعاملَة! وكم من الآباءِ مَرِضَ
أبناؤهم بسبب عِقابِهم، فجلسوا بجانبهم في المُستشفياتِ نادمين على أفعالِهم،
مُتمنِّين شِفاءَ أبنائِهم ولو كان ذلك على حِساب تفوُّقِهم في دِراستِهم، وتقدُّمِهم
في حِفظِهم!
الضربُ والعِقابُ البدنيُّ المُؤلِمُ قد ينتُجُ عنه طفلٌ عُدوانيٌّ عنيفٌ، لا يُحِبُّ الآخَرين،
بل قد لا يُحِبُّ نفسَه، انطوائيٌّ، كارهٌ للتَّعليم.
لقد وَصَّى اللهُ تعالى الأبناءَ بالآباءِ في أكثر من آيةٍ من القرآن الكريم،
ولم يُوصِ الآباءَ بالأبناءِ؛ لأنَّه من الطبيعيِّ أنَّ الآباءَ يُحِبُّونَ أبناءَهم،
ويَحنون عليهم، فهذا شيءٌ فِطريٌّ جُبِلوا عليه، فلا يَحتاجون
لِمَن يُوصيهم بأبنائِهم.
أبو أحمد: صدقتَ يا أبا فاطمة.
أُمُّ أحمد: لا بُدَّ أن نُغيِّرَ من طريقتِنا في التَّعامُل مع ابنِنا؛
حتى لا نندمَ على خطئنا في تربيتِهِ بعد سنواتٍ.
ثُمَّ اتَّجَهَت إلى ابنِها، فوجدته نائِمًا، فقبَّلت جبينَه، وخرَجَت.
**
كتبه: بسمـة
جُمادَى الآخِرة 1435 هـ
أبريل 2014 م
الروابط المفضلة