" ما لي وللدنيا..."
لم تكن قولا فقط .. وفعلا أيضا..
نام الحبيب على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقال له أصحابه" يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء. فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظلَّ تحت شجرة، ثم راح وتركها" [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، وقال: حديث صحيح]
عزف عن الدنيا وزهد في زخارفها
وكانت حياته مثالا لأصحابه وقدوة لأمته
ووصلت الرسالة واضحة المعاني..
** أن يا أيها المؤمن لا تنشغل بمفاتن هذه الدنيا ومباهجها، عن المهمة العظمى التي خُلقتَ من أجلها والرسالة المقدسة التي تَحمِلها**
صغيرة هذه الدنيا.. حقير شأنها.. سريع زوالها.. مُنقضٍ نعيمها..
هي دار سفر لا دار إقامة.. منزل عبور.. لا موطن حبور
إنها دار الغرور وفتنة الغافلين..
انشغل الناس بها وبنعيمها المنقضي عما خُلقوا له وهو عبادة الله الحق والسعي إلى رضاه
قال الله تعالى: {يا أيُّها الناسُ إنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌّ فلا تغُرَّنَّكُم الحياةُ الدنيا ولا يَغُرَّنَّكُم بالله الغَرورُ} [الروم: 60].
وقال أيضاً: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحيوانُ لو كانوا يعلمونَ} [العنكبوت: 64].
فخذ لهذا السفر زاداً يبلغك إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار
اجعلها جناح سفر.. وهيء زادك ومتاعك للرحيل المحتوم
فإن زهدتَ في الدنيا سَعيتَ إلى تخليص قلبك من حبها وشهواتها.. وتفريغه من بهرجها ومشاغلها.. سعيا منك إلى نيل حب الله ورضاه
أترغب في حب الله لك؟.. وحب الناس أيضا..
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس قال له: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك" [رواه ابن ماجه في كتاب الزهد].
ولكن الله جعل لنا هذه الدنيا زينة وبهرجها لنا بكل الممتعات وجملها لنا بكل المغريات
لماذا ؟.. إذا لم نكن لنستمتع بكل ما سخره الله لنا ؟
ابتلاءً واختبارًا..يجيب الحبيب المصطفى
ليعلم الله.. الساعي إلى الدنيا من الساعي إلى الآخرة
لينظر.. هل نتصرف فيها على نحو ما يرضيه أم لا ؟
يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" [أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وتمام الحديث "فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"].
هكذا عزفت نفسه عن الدنيا وزهد قلبه فيها
وكذا كان أصحابه والخلفاء من بعده
مرت بهم فترات من الفقر والشدائد والمحن فما ازدادوا إلا صبراً وتسليماً ورضاء بحكم الله تعالى، ثم جاءتهم الدنيا صاغرة، وألقت بين أيديهم خزائنها ومقاليدها فاتخذوها سُلَّماً للآخرة ووسيلة إلى رضوان الله تعالى، دون أن تشغل قلوبهم عن الله تعالى وطاعته.
فهاهو أبو بكر رضي الله عنه يخرج عن ماله كله في سبيل الله، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركتَ لأهلك ؟ قال: تركتُ الله ورسوله" [رواه أبو داود والترمذي]
وهاهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصبح وقد ضُرِبت به الأمثال في الزهد، وعن قتادة رضي الله عنه أنه أي عمر رضي الله عنه، أبطأ عن الناس يوم الجمعة، قال: ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه وقال: (إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يُغسل ولم يكن لي ثوب غيره) ["تاريخ عمر بن الخطاب" ص102].
وهذا عثمان رضي الله عنه يجهز جيش العسرة، وينفق عليه من ماله، غير مكترث بعظم هذه النفقات بجانب رضاء الله، ولبالغ تضحيته وإيثاره وعزوفه عن الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم" [رواه الترمذي في كتاب المناقب عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة].
وذاك ابن عمر رضي الله عنهما يقول من شدة زهده في هذه الدنيا: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق].
ومن بعده وأصحابه، ضُربت الأمثلة العجاب بالتابعين وتابعي التابعين وحتى الذين جاءوا من بعدهم في الزهد والعفة والطهر والاستقامة.
سُئِلَ الحسن البصري عن سر زهده في الدنيا فقال:
" أربعة أشياء،
علمت أن عملي لا يقوم به غيري، فاشتغلت به
وعلمت أن رزقي لا يذهب إلى غيري، فاطمأن قلبي
وعلمت أن الله مطلع علي، فاستحييت أن يراني على معصية
وعلمت أن الموت ينتظرني، فأعددت الزاد للقاء ربي "
...
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة".
وقال ابن القيم: "والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة "
فأين المرتحلون بقلوبهم إلى الله؟
أين الساعون إلى رضوان الله وجنات الرضوان؟
أين عشاق الفردوس الأعلى وطلاب صحبة الحبيب في جنات النعيم؟
لا أقول لك أترك عملك والسعيَ إلى رزقك، فسبحانه أمرنا بالفعل والعمل
أمرنا أن نسعى على أنفسنا وعلى رعيتنا ..ونهانا من أن نكون عالة على غيرنا
فسعينا إلى نيل رضاه ليس بتحريم الطيبات.. ولا بلبس المرقع من الثياب. ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات
فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله
ولكن أقول لك: لا تنسى غايتك الأساسية في هذه الدنيا وهي الفوز برضا الله سبحانه
فلا تشغل قلبك بهذه الدنيا ولا تجعلها غاية تسعى لها بكل إمكانياتك
وبالأحرى.. اجعلها مطية ووسيلة للتقرب إلى الله سبحانه
اجعلها جسرا تمر عليه بسلام إلى دار السلام
و...
" لا تنظرنَّ إلى القصور العامرة ~ واذكر عظامك حين تُمسِي ناخرة
وإذا ذكرتَ زخارف الدنيا فقل ~ لبيكَ إنَّ العيش عيش الآخرة "
و...
" اعلم أن الزهد في هذه الدنيا الفانية لم ولن يمنعكـَ شيئاً كُتب لك
وأن حرصكـَ عليها لم ولن يجلب لكـَ ما لم يُقضَ لكـَ منها
فما أصابك لم يكن ليخطئكـ وما أخطأكـَ لم يكن ليصيبك"
كن من الزاهدين يحببك الله والناس، كما قال لك رسولك صلى الله عليه وسلم
ويعطيك الله المقام الرفيع في الدنيا والآخرة
وتكون من زمرة من قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (عليك بالزهد، فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على الناهد) ["فيض القدير شرح الجامع الصغير" ج4/ص73].
أو ممن قال في حقهم الإمام النووي رحمه الله:
" إنَّ لله عباداً فُطَنَا ~ طلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنَا
نظروا فيها فلما علموا ~ أنها ليس لحيٌّ سَكنا
جعلوها لُجَّةً واتخذوا ~ صالح الأعمال فيها سُفنا "
["رياض الصالحين" للإمام النووي ص3].
أنا.. أنتَ.. أنتِ.. هوَ.. هيَ...
ليتنا نكون من بين هؤلاء..
من بين الكثيرين ممن امتلكوا الدنيا بأيديهم بعد أن أخرجوها من قلوبهم.. وآثروا الآخرة على الحياة الدنيا
فكانوا أسوة وقدوة للمسلمين الذين جاءوا من بعدهم
* عمر بن عبد العزيز،
مر ذات ليلة على بناته ليسلم عليهن كعادته،
فلما أَحْسَسْنَهُ، وضعن أيديهن على أفواههن، ثم تبادرن الباب ( خرجن من الباب مسرعات)
فقال للحاضنة: ما شأنهن ؟
قالت : إنه لم يكن عندهن شيء يتعشينه إلا عدس وبصل ، فكرهن أن تشم ذلك من أفواههن .
فبكى عمر ، ثم قال لهن : يا بناتي ما ينفعكن أن تعشّيْن الألوان ( أصناف الطعام ) ويُمَرُّ بأبيكُن إلى النار .
قال : فبكين حتى علت أصواتهن ، ثم انصرف .
( سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم )
*إبراهيم بن أدهم،
سمع نداء التوبة من خلفه يقول له " يا ابراهيم، ليس لذا خُلِقت، ولا بذا أُمِرت"
فنظر يمينه وشماله فلم ير أحدا، فأوقف فرسه ثم قال:
" والله لا عصيت الله بعد يومي هذا، ما عصمني ربي"
وترك حياة الترف والنعيم، ورحل إلى بلاد الله الواسعة طلبا للعلم، وليعيش حياة الزهد والورع والتقرب إلى الله سبحانه
ومع هذا، سُمي بالزاهد العامل لأنه كان لا يأكل إلا من عمل يده
جاءه أهل البصرة يوما يسألونه أن يعضهم في عدم استجابة الله لدعائهم، فقال:
"عرفتم الله، ولم تؤدوا حقه.. وقرأتم كتابه، ولم تعملوا به.. وادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركتم سنته.. وادعيتم عداوة الشيطان، ووَافقتُمُوه.. وقلتم نحب الجنة، ولم تعملوا لها.. وقلتم نخاف النار، ورهنتم أنفسكم بها.. وقلتم إن الموت حق، ولم تستعدوا له.. وانشغلتم بعيوب إخوانكم، ونبذتم عيوبكم.. وأكلتم نعمة ربكم، ولم تشكروها.. ودفنتم موتاكم، ولم تعتبروا"
وكان أكثر دعائه: "اللهم أنقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك"
*عبد الله ابن المبارك،
صاحب الذاكرة المعجزة في قوتها، والتجارة الوافرة، العالِمُ بالله البكاءُ من خشيته
كلما ازدادت معرفته بالله، كلما ازداد زهدا وبكاء
يستعين بنعمة المال لينفق على طلاب العلم والفقراء والمساكين
اجتمع نفر يوما يعدون خصاله، فأجهدهم العد
فقد جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، والفصاحة، والزهد، والورع، والإنصاف، وقيام الليل، والعبادة، والفروسية، والشجاعة، والشدة في بدنه، وترك الكلام في ما لا يعنيه...
*الفضيل بن عياض،
قاطع الطريق التائب، الذي لُقب فيما بعد بـ "شيخ الحرم المكي" لحبه الإقامة قرب الحرم المكي
سمع ليلة وهو متسور منزلا يريد سرقته صوتا يتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) الحديد/ آية 16
فقال: " بلى يا رب، قد آن "
عُرِفَ عنه البكاء الطويل من خشية الله
سأله هارون الرشيد: " ما صفات المؤمن أيها الزاهد ؟ "
فقال له الفضيل: "صبر كثير ونعيم طويل، وعجلة قليلة وندامة طويلة "
عجت صفحات العبر على مدى التاريخ الإسلامي بأمثال هؤلاء..
رجالا ونساء وشيوخا و.. أطفالا
وجدوا السعادة الحقيقية فيها..
وجدوا حسن الدنيا والآخرة فيها..
وجدوا عزة النفس وثمرات رضا الله فيها..
فقالوها.. من الأعماق:
" ما لي وللدنيا..."
*************
** بـ قـلـــــمـي **
*************
قصص الزهاد (بتصرف) والأقوال...
من هنــــــــــــــــــــــــــــا وهنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــاك
الروابط المفضلة