بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب(وحي الرساله...للكاتب/أحمدحسن الزيات...رحمه الله........
مذهبــــــــــي فــــــــــي الحيــــــــــاة
مذهبي في الحياة يتميز بالإستقامة والوضوح . وبفضل هاتين الميزتين بلغت الغاية التي قصدتها منذ وعيت ، لم أبلغ عليه الثراء الضخم ، ولا الجاه العريض ، ولكني بلغت عليه العيش الرخي ، والبال الرضي ، والذكر الحسن . والسعادة الحق أقرب إلى الرضا والسكينة منها إلى المال والمنصب .
حرصت على أن يكون مذهبي مستقيماً ، حتى كانت العقبة الضخمة تعترضني فأقف دونها طويلاً ، أفتتها بمعولي الصغير حصاةً حصاةً إلى أن تذل وتزول . وحرصت على أن يكون مذهبي واضحاً ، حتى كانت المشكلة الصعبة تعرض لي ، فيكون حلها يسيراً بشيء من النفاق ، وقليل من المصانعة ، ولكني كنت أنفر من ذلك كله ، وأحاول أن أعالجها بالصدق والصبر والصراحة ، فتنحل بعد أن تترك في النفس من الأثر ما يتركه الجرح في الجسد من الندوب . ولكن هذه الندوب ستظل على الزمن مثاراً للذةٍ من لذات الروح تشيع فيها العزة والحرية والكرامة .
نهج لي هذا المذهب وألزمني إياه طبع حر مسالم ، فانا منذ حملت نصيبي من عبء الحياة أحاول أن أستقل في عملي عن إرادة الغير ، وأستغني بقدرتي عن معونة الناس ، فلم أضع يدي ولا عنقي في أغلال الوظائف الحكومية ، ولم أصعد صعود العليق على أكتاف الطوال من ذوي السلطان والحكم ، وإنما أضطربت في مجالي الحيوي طليقاً من كل قيد إلا قيد الخلق ، مستقلاً عن كل عون إلا عون الله .
بذلك سلمت نفسي من رذائل الوظيفة ، فلا جبن ولا رياء ولا ملق ، وبرئت حياتي من نقائص التبعية ، فلا خضوع ولا إغضاء ولا ذلة .
من مذهبي أن أدع الخلق للخالق ، فلا أنتقد ولا أعترض ، ولا أمد عيني وراء الحجب ، ولا أرهق أذني خلف الجدر ، ولا أدس أنفي بين الوجوه ، ولا أزحم بمنكبي من يمشي عن يميني أو عن يساري ما دام الطريق مفتوحاً أمامي إلى الوجه الذي أقصده . لذلك عشت لين الجانب ، سليم الصدر ، لا أدخل في جدلٍ ، ولا أشارك في مراءٍ ، ولا ألج في منافسةٍ ، وكان من جدوى ذلك علي أن الله وقاني عذاب الحسد ، وكفاني شر العداوة ، وجعل ما بيني وبين الناس قائماً على المجاملة والمساهلة والود . ومن مذهبي أن أسقط الماضي من حساب الحاضر فور انقطاعه ؛ فلا أحزن على ما فاتني فيه ، ولا آلم لما ساءني منه ، وتصيبني الخسارة فلا أجزع ، إنما أطرحها من ربح الصحة والنجاح والأمن ، ثم أدبر أمري على اعتبار أنها لم تكن . ويسوءني الصديق فلا أبتئس ، إنما أحمل إساءته على حيوانيته وأثرته ، فإذا عاد إلى الإحسان لا أعاتبه على ما كان ، ولا أذكره بما فعل ، وأي نفع أرتجيه من تعكير ما راق ، وإشعال ما خمد ؟ إني لا أصادق إلا من أحب ، واللذة التي اجدها في حب الإنسان ، تعوضني عن الألم الذي أجده في لؤم الحيوان .
وللإيثار جانب عظيم من مذهبي في الحياة ؛ فأنا أؤثر صاحبي على نفسي في المجلس والحديث والهوى ، وقد أؤثره أحياناً بالمنفعة ؛ لأن شعوري بأن أدخل السرور عليه ، أو أجلب السعادة إليه أجمل في نفسي من شعوري بأن أتصدر في الجلوس ، أو أنفرد بالكلام ، أو أتغلب في الإرادة ، أو أختص بالفائدة .
ومن مذهبي أن أكره الظهور ، وأمقت الدعوى ، وأجتنب الفضول ؛ فأنا أعيش في عزلة ، وأعمل في صمت ، وأمشي في قصدٍ . وهذه الخلال قد تعوق عن الوصول في عصر كهذا العصر ، أعماله تظاهر ، وأقواله هتاف ، ووسائله إعلان ، وغاياته شهوة ، ولكن الذين يندفعون إلى الإمام بهذه الدوافع لا يلبثون أن يفقدوا الأجنحة المصنوعة والمحركات المستعارة ، فيقفوا حتى يفوتهم أولئك الذين يسيرون هوناً على أقدامهم الطبيعية ، أو على مراكبهم الخاصة من غير أن ينالهم خزي ، أو يمسهم لغوب . ومن أجل ذلك لم أدخل في حزب ولم أقف على منصة ، ولم أظهر في جريدة .
ومن مذهبي أن أجعل الجمال سبيلاً إلى الخير ، ودليلاً على الحق ؛ فأنا أتوخاه في اللباس ، والطعام والمسكن والأثاث ، كما أتوخاه في النفس ، والفن ، والطبيعة .
والمذهب طريق تذهب فيه ، فإذا لم يكن له من الجمال شجر يحنو على جوانبه بالظل ، وزهر ينسم على أفيائه بالعطر ، وحادٍ يرفه على سالكيه بالنغم ، كانت الحياة بأساء من غير نعيم ، وصحراء من غير واحة .
هذا مذهبي سننته على هدى الفطرة التي فطرني الله عليها ، وسلكته منذ ابتدأت حياتي ، وسأسلكه إلى أن تنتهي . ولو كان في الإمكان أن أورثه ولدي لسعدت به حياً وميتاً ، ورضيت عنه دنيا وأخرى .....