هاوية الضياع
كانت لا تسعها الفرحة عندما تقدم لها من يطلبها للزواج ، فهي فتاة شابة، تحلم بما تحلم به كل من في سنها، الزوج ، والإستقرار والأولاد ، والبنات ، والمنزل والكماليات .
وها هو حلمها قارب على أن يكون حقيقة ملموسة. فقد تقدم لها شاب يريد الزواج منها ووافق والدها، فقفز قلبها من شدة الفرح . وأقبل الجميع لتهنئتها ، وأخذ الشاب في تجهيز منزل الزوجية حتى انتهى من تجهيزه ثم حدد موعد الزفاف .
وزفت الفتاة إلى زوجها في فرحة عارمة، وعاشا العروسان حياة سعيدة هانئة، وأخذا يحلمان بإنجاب طفل صغيريملأ الدنيا عليهما سعادة وفرحة وسرورا ، وما هو إلا القليل وإذا بها تشعر بعلامات الحمل وهي غيرمصدقة، هل من الممكن أن يكون قد تحقق حلمها، هل ستصبح أما، هل ستأتي لزوجها بوليد يحمل اسمه ويسعده .
فذهبت إلى الطبيبة كي تتأكد حتى تتم فرحتها وحينئذ أخبرتها الطبيبة بأنها حامل وهنأتها وطارت الفتاة من الفرحة وعانقتها السعادة، فتمنت أن تكون كالبرق في سرعته حتى تصل هي ووالدها بسرعة فائقة إلى منزل الزوجية لتزف إلى زوجها هذه البشرى الندية .
وها هي تصل إلى المنزل ، وتقابل زوجها بفرحة شديدة، وزوجها يسأل : ما الخبر؟! فتجيب قائلة : قد من الله علينا بالذرية فأنا حامل ، فأحس بالسعادة تدق باب قلبه ، وهنأ زوجته وتساقطت دموع الفرحة من مقلتيه.
ظلت الزوجة تعد الأيام تلو الأيام ، وقامت بتجهيز ملابس المولود التي تبعث في النفس الفرحة والسرور، وتنتشلها من متاعب الحياة وكثرة الفتور.
فصممت على خياطة ملابس وليدها بنفسها فهو فلذة كبدها، ونور عينها، ونبض قلبها، وظلت تخيط له أحسن الملابس وتبحث له عن أحسن الأسماء حتى حان موعد المخاض .
فعانت الكثير من الآلام ، حتى أنجاها الله ومنّ عليها بمولود أسمته "هيثم ".
إزدادت فرحة الزوجة وزوجها ، وأنهالت عليهما التهاني من كل الأهل والأحباب وسعد الأبوان كثيرا بطفلهما، وظلت أمه ترضعه مع لبنها الحب والحنان فهو فرحة الحاضر وأمل المستقبل ، ونور الأيام.
وكانت فرحة الأبوين تكبر كلما كبر الابن وخاصة بعد أن أصبح طفلا جميلا يستطيع أن يسعد أبويه بحركاته الرشيقة، ومرحه البريء ، وصوته العذب .
لقد كان أبوه يحبه حبا شديدا ، ولا يطيق له فراقا فإذا ما خرج لعمله أخذ يعد الدقائق والساعات حتى يعود إلى فلذة الأكباد.
فإذا ما رآه تعلق به وأخذ يمرح معه ويلاعبه بلعبه الجميلة، وتزداد فرحة الأب كلما ازدادت فرحة الابن فهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها فالوالدان سعادتهما مستمدة من سعادة أبنائهما، يفرحان ويكونان في قمة السعادة إذا كان أبناؤهما يعيشون في كنف السعادة، ويحزنان أشد الحزن إذا عانى الأبناء شيئأ من الضرر.
ولكن كما هو الحال دائما، دوام الحال من المحال وكما قيل
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
لم تدم فرحة الزوجة كثيرا، فبعد أن عاشت سعيدة هنيئه بحياتها مع طفلها وزوجها إذا بالموت يخطف منها زوجها في تلك الليلة الحزينة .. فحزنت الزوجة حزنا شديدا على فقدها لزوجها وقدكان طفلها لا يزال صغيرا.
فعزفت عن الزواج من أجله ، ووهبت حياتها لتربيته وتعليمه ، حتى تحقق ما كان من حلم زوجها الذي طالما كان يحلم به .
فكانت كلما علمت بنجاح ابنها آخر العام ازداد فرحها، ونسيت مع هذا آلامها ، وبذلت قصارى جهدها في تحصيل أموالها حتى توفرله كل ما يطلبه ، فلا يكون هناك شيء ينقصه .
وكانت ترى أنها قد وفقت في تربية إبنها حيث جعلته لا يحتاج إى شيء .
وحينما أنهى الابن دراسته الإبتدائية والتحق بالإعدادية ، انشرح صدرها ، وقامت من فورها وأخذت تقبل ابنها ، وشجعته على كثرة المذاكرة حتى يتفوق ويحقق حلمها، وكان الابن لديه حافزكبيرعلى مواصلة الكفاح الطويل ، فأخذ يجد ويتعب لكي ينجح ، و أنهى دراسته الإعدادية بتفوق والتحق بالمرحلة الثا نوية .
وها هو قد أحس بالمسئولية، فيجب عليه الآن أن يضاعف من جهده حتى ينجح بتفوق في كل عام ، فلا يهدم ما بنته أمه من أحلام وآمال وانتقل الابن من عام إلى عام وهو سعيد وفرحان ، حتى حان موعد الامتحان !
وكان اختبار الثانوية العامة ، فضاعف جهده أكثر وأكثر، وازدادت ساعات مذ اكرته ، وواصل الليل بالنهار، حتى انتهى من الاختبار.
وترقب النتيجة في شوق شديد وتلهف كبيرحتى ظهرت النتيجة وفاز الفوز المبين ، وحمد رب العالمين .
وعانت الأم الكثي رمن أنواع المعاناة من أجل ابنها ، فأخذت تسهر على خياطة الملابس وتتحمل من التعب الكثيرخاصة بعد أن كبرولدها وازدادت مطالبه ، وهي لا تكل ، ولا تتوقف عن العمل . وأخذت الأم تنفق عليه خلال دراسته الطويلة حتى وفقت في أن تجعله يتفوق في دراسته ، ويلتحق بالجامعة، ففرحت لقرب تحقيق حلمها.
سعدت الأم بأن وفقت إلى مثل هذا، فقد كانت أمنيتها أن تصنع من ابنها رجلا ذا مركز مرموق ، يسعدها بطاعته لها وبعده عن العقوق ، ففرحت به كثيرا، ولكنها في هذه المرحلة كانت قد أكل الزمان منها وأثر عملها عليها، فاصبحت تعاني من آلام ظهرها من كثرة جلوسها على ماكينه الخياطة.
وذات مرة زارتها جارتها أم محمد، وعندما رأتها أشفقت عليها، وقالت لها: ارحمى نفسك يا أم هيثم وحافظي على صحتك فإن لبدنك عليك حقا .
أم هيثم : ماذا أفعل يا أم محمد؟ أما تعلمين أن هيثما يحتاج !لى كثيرمن المال هذه الأيام ، ولكي أوفر له ما يحتاجه لابد أن أضاعف من عملي. .
أم محمد: جزاك الله خيرا على ما تقومين به تجاه ابنك ، ولكن حذاري أن تعطيه الكثيرمن المال الزائد عن حاجته ، فألد أعداء الشاب في مثل هذا السن المال والفراغ ، ، فالمال سيف نفعاً وضراً.
أم هيثم : ولكنني أحسنت تربية ابني يا أم محمد وأنا مطمئنة عليه.
حينئذ طُرق الباب ، ففتحت أم هيثم الباب . . . أهلا ومرحبا بك يا أم علي . أشرقت الأنوار، وتبسمت الأزهار. . . تفضلي ادخلي .
ام علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، كيف حالك ياأم هيثم ؟ ، وكيف حالك يا أم محمد؟؟
أم محمد: الحمد لله رب العالمين .
أم هيثم : تفضلي أجلسي يا أم على وقولي لنا رأيك فيما نتحدث فيه .
أم علي : خيرا إن شاء الله فيما تتحدثان ؟! .
أم هيثم : أم محمد تحذرني من إعطاء هيثم مالا أكثر مما يحتاجه ، وتقول إن المال والفراغ ألد أعداء الشاب في مثل هذا السن.
أم على : نعم صدقت أم محمد، فأنا أعاني من ابني "علي " بسبب هذا الشيء ، لأنه كان يطلب مني الكثيرمن المال فأعطيه ، وألبي دائما جميع رغباته حتى غضب مني أبو علي وقال : هذا الأسلوب في التربية خطأ . فقلت له : لا يا أبا علي ، فعلي شاب ، ويجب ألا يكون أقل من أقرانه ، وسرت على هذا الأسلوب ، ولكنني أحزن هذه الأيام .
أم محمد: لماذا يا أم علي ؟!
أم علي : لأنني أشعر أن علياً أصبح لا يشعر بالمسئولية، ويتأخر كثيراً بالليل .
أم هيثم : لا يقلقك هذا الشيء يا أم علي ، فهيثم يتأخركذلك لأنه يذاكر دروسه مع أصحابه ، فيجب ألا نقلق على أبنائنا ، فقد أحسنا تربيتهم ، ووفرنا لهم كل ما يحتاجون .
أم محمد: يا أم هيثم ليس معنى هذا أن تترك الأم ابنها يخرج ، ويسهر دون مراقبه ، فحق الولد على والديه لا ينحصر في توفير المال اللازم له ، أوتوفير الطعام والشراب له ، ولكن من حق الأبناء على الآباء أن يقوموا بأنفسهم على تربيتهم التربية الدينية الصحيحة، مع بذل النصيحة لهم من آن لآخر، يراقبوهم المراقبة السليمة، ولا يتركوا لهم الحرية الكاملة، لأن الأبناء ليس لديهم خبرة كالآباء ، ولا يفرقون بين الخطأ والصواب في كثيرمن الأحيان ، فخبرتهم قليلة ، وعقولهم صغيرة ، ولكن هذه مسئوليتنا نحن ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها. . . . " .
أم هيثم : ولكنني كما تعلمين يا أم محمد مشغولة ليل نهارعلى خياطة ملابس الجيران . .
أم محمد: أسال الله أن يهبك العافية يا أم هيثم ، ولكن إلى جانب هذا تفقدي أحوال ابنك دائما حتى يصبح شابا صالحا إن شاء الله ، فيسعدك الله به في الدنيا والآخرة، لأنه إذا أحسن الآباء تربية الأبناء، وربوهم على الإسلام ، وطاعة الله ، فسوف يسعدون بهم في الحياة وبعد الممات .
أم هيثم : كيف ينفعونهم بعد الممات ؟؟
أم محمد : في الحياة الدنيا يسعدونهم ، ويكونون زينة لهم قال تعالى : (( المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) . وبعد الممات سوف ينفع الله بهم آباءهم كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له.
أم علي : أسال الله أن يجعل أولادنا صالحين ، ولا يجعلهم طالحين ، فكم يحزنني حال أم حسين ، وما فعله حسين معها.
أم هيثم : خيرا إن شاء الله . ماذا فعل حسين ، فانا لا أعلم عنه إلا كل خيرمنذ أن سكنا هذا الحي .
أم على : نعم يا أم محمد قد كان هكذا قبل أن يتعرف على أصدقائه الجدد ، الذين غيروا مجرى حياته . فالآن تغيرحاله ، وأصبح يسيء معاملة أمه المسكينة .
أم محمد : لا حول ولا قوة إلا بالله . أدعو الله أن يهديه ويبعده عن صحبة الأشرار ويرزقه صحبة الأخيار، فهذا خيرله من الضياع والدمار. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : "مثل الجليس الصالح ، والجليس السوء ، كحامل المسك ، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن ينفث ، أو تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكيرإما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة" .
والإنسان يا أم علي إذا خالط رفقاء السوء سرعان ما انقاد لهم ، وصنع صنيعهم كما قيل : فاحذر مؤاخاة الدنيء فإنه يعدي كما يعدى السليم الأجرب .
أم محمد: يا إلهي قد أخذنا الحديث هيا يا أم علي نستأذن السلام عليكم يا أم هيثم .
أم هيثم : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
وبعد أن ودعتهما أم هيثم ، وأغلقت الباب ، هجمت عليها جيوش الهواجس ، فأخذت تفكر في كلام أم محمد، فتخشى أن يصاحب ابنها رفقة سيئة، ولكنها سرعان ما طمأنت نفسها، وقالت أنني أحسنت تربية ابني ، فلا يستطيع أحد أن يفسد أخلاقه .
حينئذ طرق الباب ففتحه ، فإذا هو هيثم ، فحضنته في لهفة، وقالت له ، لماذا تأخرت ياهيثم ؟؟ قد قلقت عليك .
الروابط المفضلة