كيف تنجح الحيوانات في إنجاز هذا العمل ؟
تصوّروا إنسانا ليست لديه أية معرفة بالعمارة ولا عمل في قطاع البناء أبدا وليست لديه خبرة في تحضير المواد الأولية للبناء ولا عن كيفية البناء ومع هذا يقوم بإنشاء مسكن بكل براعة وإتقان, كيف يحصل هذا؟ هل يستطيع أن يفعل ذلك لوحده ! بالتأكيد لا، فالإنسان الذي يعتبر مخلوقا عاقلا وذا منطق من الصعوبة أن يسلك هذا السلوك .
إذن هل من الممكن أن تسلك هذه الحيوانات سلوكا يتطلب ذكاء وقابلية ؟ وكما أسلفنا القول في الصفحات السابقة إنّ أغلب الحيوانات لا فقط لا تملك مخا وإنما تفتقر إلى جهاز عصبي ولو بسيط ولكنّها مع ذلك تقوم بحسابات دقيقة جدا عند إنشائها لأعشاشها، وتطبق قوانين الفيزياء وتستخدم أساليب تتطلب مهارة خاصة بالنسيج والخياطة، إضافة إلى إيجادها حلولا أمام كلّ المشاكل التي تعترض سبيلها أو سبيل صغارها وبصورة عملية تماما. وتعد هذه الحيوانات لنفسها خلطة البناء بصورة طبيعية ومتقنة فضلا عن تركيبها وصفة خاصة لعزل عشها عن تأثيرات البيئة السلبية. ولكن هل يعرف الطير أو الدب القطبي معنى العازل الحراري؟ وهل يفكر هذا الحيوان أو ذاك بضرورة تدفئة عشه أو عرينه ؟ والواضح أن هذه الاستنتاجات الفكرية لا يمكن أن تصدر من هذه الحيوانات، إذن كيف اكتسبت هذه الحيوانات مثل هذه الخبرة والمهارات؟
و هذه الحيوانات تتّصف كذلك بأنها مثابرة وصبورة جدا في إنشائها لمساكنها على الرغم من أن هذه المساكن تكون في أغلب الأحيان محلاّ لسكن صغارها فقط.
هناك تفسير واحد لهذه العقلانية والمنطقية والتفاني في سلوك هذه الحيوانات, إنه الإلهام الإلهي. فالبارئ المصور خلقها بهذه الصورة الكاملة وألهمها هذا السلوك كي تحافظ على نسلها وعلّمها الدفاع عن النفس و الصّيد و التّكاثر كلّ بأسلوبه الخاص الذي يميّزه باعتباره نوعا حيوانياّ مختلف، هو الله الحافظ الرّحمان الذي رحمته وسعت كل شيء وبرحمته هذه علّم هذه الحيوانات كيفية بناء أعشاشها وفق تخطيط بارع و متقن، وما الكلام عن "التطور" و من أن " الطبيعة الأم" أو المصادفات هي التي علمت الكائنات الحية هذه الأنماط السلوكية سوى تخبط لا أساس له سواء فكريا أو علميا، وما سلوك الحيوانات هذا سوى إلا إلهام إلهي ورحمة واسعة من لدن الرحمن الرحيم .
ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر وممّا يعرشون " صدق الله العظيم . سورة النحل - الآية 68 .
إنه هو الذي ألهم النحل كيفية بناء الخلية وكذلك باقي الكائنات الحية ألهمت من قبله جلت قدرته كيفية بناء مساكنها وكيفية إعداد المواد اللاّزمة للبناء والأساليب المتّبعة لإنجاز تلك الأعمال و كذلك الحفاظ على النسل والتضحية في سبيل الحفاظ على حياة الصغار. إنّ الكثير من الكائنات الحية تبدي تفانيا محيّرا وتتحمل صعوبات كثيرة في سبيل التكاثر والحفاظ على بيضها أو صغارها المولودين حديثا، ويمكن مشاهدة نماذج في الطبيعة تضحي بحياتها في سبيل ذلك. فمثلا هناك أنواع من الحيوانات تقطع كيلومترات عديدة جدا في سبيل وضع البيض وأخرى تبذل جهدا شاقا ودؤوبا لإنشاء أعشاش آمنة، وأنواع أخرى تموت مباشرة بعد التكاثر ووضع البيض فضلا عن أنواع تحمل بيضها في فمها لمدة أسابيع دون أن تتغذى أو أنواع تحرس بيضها لمدة أسابيع أيضا دون كلل أو ملل.
والحقيقة أن هذه الأنماط السلوكية الفريدة تهدف إلى تحقيق غاية واحدة هي الحفاظ على النّسل لأن الصغار و هم ضعاف لا يستطيعون البقاء إلاّ برعاية الكبار البالغين الأقوياء، فلوترك غزال مولود حديثا وحده في العراء أو لو ترك بيض طير دون حماية لاشك أن حظهما في البقاء يكون ضئيلا جدا. والملاحظ في الطّبيعة أنّ الحيوانات البالغة تقوم برعاية صغارها دون ملل أو إهمال أو استنكاف وتتحمل مسؤولية الرعاية كاملة, كلّ ذلك استجابة للإلهام الإلهي.
والغريب أيضا في هذه المسألة هو كون الكائنات الحية التي تبدي تفانيا ودأبا في رعاية صغارها هي من أقل الكائنات الحية تكاثرا، ومثال على ذلك الطيور فهي تضع عددا محدودا من البيض كلّ سنة ولكنها تهتم بهذا العدد من البيض اهتماما بالغا. وهذا القول جائز في اللبائن أيضا والتي يمكن القول عنها أنها تلد مولودا واحدا أو مولودين ولكنها تستمر في الرّعاية و العناية مدة طويلة نسبيا، وهنا ك كائنات حية لا تبدي اهتماما ملحوظا بصغارها بالرغم من كونها تبيض أعدادا كبيرة من البيض تقدر بالآلاف مثل الأسماك والحشرات أو الفئران التي تلد أعدادا كبيرة في كل موسم تكاثري, ولكونها بهذا العدد الضخم ضمن العائلة الواحدة فإن الاحتمال عال باستمرار النّسل بالرغم من هلاك أعداد كبيرة من الصغار في المراحل الأولى من حياتها. ولو كانت هذه الحيوانات تهتم بصغارها بصورة كبيرة لكانت أعدادها تتزايد باطراد وبالتّالي يحدث خلل في التّوازن البيئي, ومثال على ذلك فئران الحشائش التي تتكاثر بصورة كبيرة جدا ولو حدث أن حافظت على أعدادها المتزايدة لملأت هذه الفئران وجه البسيطة(49). و المعلوم أنّ التكاثر يمكن اعتباره إحدى الوسائل الكفيلة بالحفاظ على التوازن البيئي إلا أن الكائنات الحية لا يمكن لها التحكم في خاصية "التكاثر" هذه من وحي علمها أو سلوكها المنطقي .
والمعلوم أيضا أن هذه الكائنات الحية مخلوقات غير عاقلة لذا فلا يمكن أن ننتظر منها سلوكا ضابطا للإيقاع التكاثري حفاظا على التوازن البيئي و لا حسابا مضبوطا لتحقيق ضرورة التكاثر من أجل استمرار النسل. وكل هذه الشواهد الحية تدل على وجود قوة تدير هذه السيمفونية الطبيعية، وهذه القوة تملي إرادتها على كل كائن حي على حدة ليمارس دوره المسيّر ( وليس المخيّر ) في ممارسة مهمّته في البيئة الطبيعية على أكمل وجه، أي أنّ الحقيقة تتمثل في عدم وجود أيّ كائن حي خارج السيطرة أو تحرّكه بشكل اعتباطي, فكل الكائنات الحية تنقاد وتخضع لله الواحد القهار .
ويقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المبين عن كيفية تكاثر الأحياء بإذنه جل جلاله وعن كيفية تقديره لحياتها ومماتها وهو الحي القيوم: " الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار " سورة الرعد - الآية 8 ويقول أيضا: " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الّذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون " سورة فصلت - الآية 47, أمّا في سورة الشورى-الآية 49-50 فيقول تعالى : " لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50) " صدق الله العظيم .
العناية الفائقة التي تخص بها الكائنات الحية بيضها وصغارها
الظاهرة المعروفة لدى الأحياء أنهّا تبذل جهدا كبيرا في العناية بالبيض والصغار وتتحمل في سبيل ذلك الصّعوبات الجمّة فهي تقوم بإخفائها عن عيون الأعداء وتحافظ عليها (البيض) من الكسر إضافة إلى تدفئتها بدرجة معقولة دون تعريضها إلى حرارة عالية، وتقوم الكائنات الحية بنقل بيضها إلى مكان آخر عند إحساسها بخطر يهددها وتظل تحرسها لعدة أسابيع متواصلة دون كلل أو ملل وحتى أن بعضها يقوم بحمل البيض بفمه. ويمكن لنا أن نلاحظ هذه الأنماط السلوكية المليئة رحمة ورأفة لدى الكثير من أنواع الأسماك والطيور والزواحف .
فأفعى " البايتون " مثلا تشكل تهديدا خطيرا لحياة الإنسان إلا أنها تسلك تجاه بيضها سلوكا ينطق عطفا ورأفة. فهذه اللأفعى تضع تقريبا 100 بيضة في كل مرة و تلتفّ حول هذا البيض, والهدف من هذا الالتفاف هو الحفاظ على البيض من درجة الحرارة العالية بالإضلال عليها والحفاظ عليها من البرودة عن طريق رفع جسمها و الانفصال عنها. ويضل هذا البيض بمنأى عن الأخطار طالما ظلت الأفعى الأم ملتفة حولها. و بفضل هذه العناية التي تبديها أنثى "اليايتون" يقل تأثير الأخطار على حياة الصغار وهم لا يزالون داخل البيض (50). وهنالك بعض أنواع الأسماك يسلك سلوكا غريبا في العناية بصغاره وهم لا يزالون داخل البيض إذ تقوم السّمكة الأم بجمع هذا البيض في تجويف فمها كوسيلة لحمايتها لذا تدعى هذه الأنواع بـ " الأسماك التي ترقد على بيضها بفمها ", و قسم من هذه الصغار سرعان ما يلوذ إلى فم أمه عندما يشعر بالخطر. وهذا السّلوك شائع لدى أسماك القط (الشبوط) أو (cat fish ) التي تستمرّ في السّباحة لمدّة أسابيع وفمها ملآن بالبيض الصغير الذي يقدر حجمه بحجم الكرات الفولاذية الصغيرة الموجودة في العجلات الميكانيكية، وتقوم السّمكة بخض فمها بين الحين والآخر لتحريك هذا البيض لإفساح المجال لغاز الأكسيجين المذاب في الماء للوصول إليها وعند فقس البيض عن صغار ضعاف يلجأون إلى فم أبيهم لعدة أسابيع تالية, وطيلة هذه الفترة لا يتغذى الذّكر أبدا ويستخدم مخزونه الدّهني في مواصلة فعالياته الحيوية ( 51).
وتعتبر الضفادع الكائن الحي الآخر الذي يحمل صغاره وبيضه في فمه, فضفدع "رينوديرما" تحمل أنثاه البيض داخل جسمها وعند حلول موسم التزاوج تضع الإناث بيضها على الأرض ويبدأ الذكور في الدّوران حول هذا البيض في حركة تعبر عن قدرته على حمايتها من الأعداء. وعندما تبدأ الأجنحة تتحرك داخل البيض للخروج منها تهجم الذّكور على هذه المجاميع لتلتقم أكبر كمية من هذا البيض التي تحاط بطبقة جيلاتينية شفافة ويقوم الذّكر بتجميع هذا البيض على جانبي فمه داخل أكياس الصوت, وبالتالي يبدو فمه منتفخا للغاية, وتبقى فترة داخل الفم إلى أوان اكتمال نموها, وفي النّهاية يبدأ الذّكر بالتجشؤ عدة مرات وينهي ذلك بأن يتثاءب فاغرا فمه بصورة واسعة ليفسح المجال للصّغار الذين اكتمل نموهم للخروج إلى الحياة ( 52).
وهناك نوع آخر من الضفادع يعيش في استراليا يقوم بازدراد بيضه ليحافظ عليها ليس في فمه و إنما في كيس موجود في معدته ويبدو للقارئ أن البيض في هذه الحالة معرض للهلاك نتيجة الإفرازات المعدية الهاضمة إلاّ أنّ الذي يحدث لدى هذه الحيوانات هو العكس تماما إذ تتوقف المعدة عن إفراز هذه الأنزيمات لحظة ابتلاع الأنثى لبيضها و بذلك لا يتعرض البيض لأي خطر (53). وهناك أنواع من الضفادع تتّبع أساليب متنوعة في الحفاظ على بيضها كضفدع " البيبا " الأسود الذي يقوم ذكره بتجميع البيض بواسطة سيقانه الزّعنفيّة ليلصقها إلى ظهر الأنثى ثمّ ينتفخ الجلد ليساعد على التصاق هذا البيض, ويتكون غلاف رقيق حافظ لهذا البيض، وبعد 30 ساعة يختفي هذا البيض تحت جلد ظهر الأنثى ويعود إلى شكله الأصلي, ويبدأ البيض في النمو تحت جلد الأنثى. وبعد 15 يوما تبدأ اليرقات في التّحرك داخل البيض والتي تجعل ظهر الأنثى تبدو و كأنها في حركة التوائية. وبعد مرور 20يوما تشرع الضّفادع الصّغيرة في الخروج عبر ثقوب تكون قد فتحتها في جلد الأم, وبعد خروجها تبدأ في البحث عن ملجئ آمن لها في الماء.
أما الضفدع الأوروبي الأسود والمسمى بـالمولِّد أو القابلة فيقضي أغلب حياته على اليابسة القريبة من الماء ويتزاوج على اليابسة أيضا و لا تترك الأنثى بيضها على الأرض, ويلقي الذكر عليها حيامنه, وبعد نصف ساعة يقوم الذكر بلصق هذا البيض بعضه ببعض كأنما يقوم بترتيب حبات المسبحة على الخيط، ثمّ يلصق هذه السلسلة على سيقانه الخلفية وتبقى هكذا لمدة أسابيع عديدة يجرها معه أينما ذهب وعندما يبدأ هذا البيض في الفقس يلقي بها في الماء, ويبقي سيقانه في الماء حتى اكتمال خروج الصّغار من البيض. وعند اكتمال هذه العملية يرجع إلى مسكنه على اليابسة (54).
بعد هذا العرض للأمثلة العديدة تبرز أمامنا نقطة مهمة للغاية، وهي الإنسجام الكامل بين التكوين الخلقي لهذه الكائنات الحية والأنماط السّلوكية التي تمارسها. فالضّفدع الذي يملك تجويفا خاصا في جسمه يستخدمه للحفاظ على البيض ولكنه لا يعلم عن وجود هذا التجويف في جسمه إلا أنه مع ذلك يسلك سلوك العارف بوجود هذا التجويف، أما الضفدع الآخر الذي ورد ذكره في الأمثلة فإنه غير عاقل ولا يملك الإرادة أن يوقف إفراز الإنزيمات الهاضمة في معدته كي لا تصيب البيض بأي ضرر ، وعلى افتراض أنّ هذا النوع من الضفادع يملك القابلية على إيقاف إفراز الأنزيمات فإن هذا الفرض ينافي طبيعة الكائنات الحية التي لا تملك القابلية على التّحكم في الأفعال اللاّإرادية، وكذلك الحال بالنّسبة إلى الضفدع الذي يرعى صغاره تحت جلدة ظهره. كلّ هذه الشّواهد الحيّة من توافق بين التّركيبة الخلقيّة والأنماط السّلوكية لم تتشكّل بمحض أبدا الصّدفة.
وهذه الصّفات التي أوردناها كأمثلة تحمل في جوهرها تصميما وتخطيطا لا يمكن إنكارهما. والواضح للعيان أن هذه الكائنات الحية التي تمتلك خاصّية الانسجام بين التركيب الخلقي وأنماطها السلوكية هي كائنات مخلوقة من قبل المولى عز وجل وهو الذي أبدع صورتها وخلقها لأنه قادر على كلّ شيء. ولا يمكن ملاحظة مشاعر الأمومة والأبوة والرأفة المبثوثة إلى هذه المخلوقات بالأمثلة أعلاه فحسب بل فهناك أمثلة أخرى كالنّمل والنحل وغيرها من الأحياء التي تبذل اهتماما منقطع النّظير في الحفاظ على البيض وعلى اليرقات داخل الشرانق, فالعاملات تقوم بحمل البيض إلى غرف خاصّة داخل الخلية المنشأة تحت الأرض, وكذلك الأمر مع اليرقات داخل الشرانق، وتغير هذه العاملات مكان بيضها و مكان الشرانق أيضا حسب تغيّر درجة الحرارة والرطوبة داخل الخلية إضافة إلى سعيها الحثيث إلى الحفاظ على راحة البيض واليرقات بأن تحملها في فمها لتغيير مكانها في رحلات متواصلة بين الغرف داخل الخلية. وإن حدث أن داهم الخطر الخلية كلّها تقوم العاملات بحمل البيض والشرانق إلى مكان آمن خارج الخلية (55).
أمّا اهتمام الطّيور ببيضها فيأخذ أشكالا متنوعة تثير الحيرة والدهشة في آن واحد. فنحن نجد مثلا طير "المطر" الصّغير الذي يضع أربع بيضات في حفرة بالأرض، وإن حدث أن ارتفعت درجة الحرارة يقوم هذا الطير بغمس صدره في الماء حتى تبتل ريشه الأماميّ ثم يرقد على البيض و يلامس البيض بريشه المبتلّ, وهكذا يستطيع أن يخفّف من تأثير الحرارة العالية (56).
و مما نشاهده في عالم الأحياء أنّ الكائنات الحية البيوضة تقوم بتهيئة وسط ملائم من ناحية درجة الحرارة لاكتمال نمو الأجنحة داخل البيض, فالطّيور الغطّاسة على سبيل المثال تبني أعشاشها من الطّحالب الطافية على الماء وتقوم هذه الطيور بتغطية بيضها بهذه الطّحالب, وهذه العملية توفر نوعا من التكييف الحراري داخل العش. أمّا البجع فيرقد على البيض لتوفير الدّفء اللاّزم لنموّ الأجنحة ويغير من وضع رقاده بين الحين والآخر لتوفير دفء متساو لجميع البيض (58).
أما الطائر الرّملي فيستخدم أسلوبا آخر في توفير الدّفء لبيضه، فبعد أن تضع الأنثى بيضها في العشّ يتولّى الذّكر الاهتمام بهذا البيض فيرقد عليه وينتف ريشه الذي يغطي منطقة الصّدر ويفرشه في أنحاء العش وتمتلئ الأوعية الدّموية الموجودة في صدره بكمية زائدة من الدم، وحرارة هذا الدم تكون كافية لتوفير الدّفء اللاّزم للبيض طيلة أكثر من ثلاثة أسابيع. وعندما يخرج الصّغار بعد فقس البيض يستمر الذّكر في رعاية الصغار أكثر من أسبوع ونصف ومن ثم يتناوب مع الأنثى في أداء هذه الوظيفة المهمة 59.
إنّ الاهتمام بالحفاظ على درجة الحرارة داخل العش بمستوى محدود ومقبول يعتبر أمرا ذا أهمية قصوى لكافة الكائنات الحية. والمثير للدّهشة أن الحيوانات تتبع أساليب مختلفة ومتنوعة في إنجاز هذه العمليّة الحياتيّة المهمّة وتبدي حساسية بالغة تجاهها. وهنا تبدو أمامنا استحالة إدراك الطير أو الأفعى أو النحل لأهمية الحفاظ على الحرارة بمستوى دقيق وبالتالي اتباعها أسلوبا مثيرا للدّهشة في إنجاز هذه العملية من تلقاء ذاتها. ومصدر هذه المعرفة و الإدراك هو الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذه الكائنات و أودع فيها هذه الخصائص الحياتية ليضرب بها الأمثال للإنسان المتفكر. و هذه الكائنات الحية وهي تسلك سلوكا من وحي إلهام إلهي تنشط نشاطا دؤوبا لا يعرف الكلل ولا الملل. فمثلا تبني بعض الطيور عدة أعشاش يكون أحدها لرعاية الصّغار وتنشئتهم والأخرى لوضع البيض والرّقود عليه. ويتصف بهذه الصّفات كلا من طائر " المطر"الصّغير والطيور الغطّاسة إذ يتناوب الذّكر والأنثى في عملية الاهتمام بالصغار والرقود على البيض.
والأغرب من هذا مساعدة الفراخ الموجودة في العش الأول للفراخ الموجودة في العش الثاني, وهذا النموذج يمكن رؤيته لدى طائر "دجاج الماء "و"خطاف الشّباك"حتى أن أزواج الطّيور تساعد أزواجا أخرى في العمل مثلما هو موجود لدى طائر النحل. وهذا النّوع من التعاون والتكافل شائع لدى الطيور عامة 60. وهناك عامل مهمّ في نسف نظرية التّطور من الأساس, وهذا العامل يتلخّص في الرأفة التي تبديها الحيوانات ليس فقط تجاه صغارها بل تجاه صغار حيوانات أخرى. وحسب ادّعاء دعاة التّطور يكون من المستحيل رؤية هذه الأنماط من السّلوك لدى الكائنات الحيّة في حين أنّ ما يصدر عنها من سلوك هو مثال في ا الرّأفة والتّضحية ومن المستحيل أن تكون قد تشكلت بالصّدفة. وهناك أمثلة لا تحصى في الطبيعة على التعاون والتكافل بين الأحياء. وهذا دليل واضح على أنّ الطّبيعة ليست وليدة الصّدفة و العبث كما يدّعي المادّيون .
الروابط المفضلة