سمية مسحت دمعها ولم تتدخل بل نظرت إلى محمود وهزت رأسها، كأن محمود سأل و كأنها أجابته! معتز مسح الدم عن وجهه، ومشى بخطوات ثابته إلى غرفته، أما جمال فكان مهزوز الخطى ..مضطرب الوجدان..ذليلا تعصف فيه الأفكار يفكر متألماً: لا بد أنه سيبطش ولن يرحمني لأني قد آذيت أبنه، سيسد لي الصاع صاعين..فأنا في بيته، و تحت رعايته..إلى أين أهرب من قبضته..إلى كونزالس..والله لو أن محمود مزقني أو بقيت عبدا له طوال حياتي فلن أرجع إليه..أم إلى أبي الذي تخلى عني..أم إلى مؤسسة الأيتام..(ودعا وتضرع).يا رب..ارحم ضعف قوتي و قلة حيلتي.





دخلت سمية إلى غرفة معتز وبدأت تطبب جروح وجهه، وملامحها غاضبة, نظر إليها معتز فتألم من غضبها وقال:أنا آسف..
سمية مقاطعة غاضبة:لقد ارتكبت خطا جسيما يا معتز...ما كان عليك أن تتصنت علينا.
معتز:لم أتصنت..كنت مارا فسمعت جمال يقول أنه سيضلل أبي فطار صوابي.
سمية تهز رأسها بالنفي: ما قصد أباك أيها المتهور..وما كان حتى ليفكر بما تقول.
معتز بدهشة:فمن كان يقصد؟
سمية بغضب:فليكن من يكن.. المهم أنك سمعت نصف الكلام ولم تتحقق منه..ثم آذيته و أسأت إليه.
معتز:لم أحتمل رؤيتك تتألمين.
سمية بغيض:فزدت ألمي يا معتز.
معتز وقد أمسك بيد سمية يقبلها، يبكي ويعتذر:أنا آسف يا أمي..لقد أخطأت...أرجوكِ سامحيني يا أماه، سأذهب إليه وأعتذر .
وقف وأراد أن يتوجه إلى جمال، فقالت سمية:ارجع..لعل محمود يقدر عليه ، فيعود إلى رشده.





لم تقدر قدما جمال أن تحمله ..فجلس منهكاً..دخل محمود وقال غاضباً:لم أسمح لك بالجلوس.
فنهض مفزوعاً..وطأطأ رأسه وقال بصوت مرتجف:آسف لأني ضربت معتز...
محمود بحزم:أنس أمر معتز الآن ..وأنظر إلى وجهي.
ارتجف جمال وقد اشتد خوفه ثم قال بصوت متقطع: لا..لا أقدر.
محمود بحزم: لماذا تخاف مني؟ لماذا تبتعد عني كلما اقتربت منك؟ هل ضربتك يوماً؟
جمال: لــ... لـــ... لا .
محمود:هل قمت بسبك وأسأت إليك؟
جمال: لــ... لـــ... لا .
صرخ محمود فيه فخلع قلبه:هل سجنتك؟ هل ذبحتك؟هل كنت أعطي ابني وأحرمك؟ هل حرمتك من دراستك؟هل حرمتك من أمك؟
جمال بخوف:لا لم تفعل..
محمود: هل جعلتك عبدا لي؟
سكت جمال، وأشاح بوجهه فأمسك ذقنه بقوة نظر إلى عينيه الحائرتين..وسأل بغضب: تكلم هل جعلتك عبدا لي؟
جمال بحزن: إجل( ثم قال) هل تذكر أول يوم في المدرسة..أمسكت بذراعي بقوة ...و صرخت آمرا" لا تملك الإرادة".. أليس العبد هو من لا يملك الإرادة؟
محمود بهدوء:هكذا إذن؟؟فلم لم تحارب لأجل حريتك؟ لو طلبتها لكنت أعطيتك إياها، إنك يا هذا لم تكن عبدا لي... بل كنت عبدا لضعفك...(تنهد بحسرة) ياااه كنت أظنك أكبر من هذا بكثير..
لم يرد جمال، طأطأ رأسه خجلا من نفسه فأكمل محمود وهو يفتح النافذة وينظر من خلالها:إذن اسمع ما سأقوله ...( وسكت لحظة ثم أكمل )عندما كنت بعمرك ، مات أبي و ترك لي إرثاً ثقيلا..ترك لي أم مريضة وترك أخي راشد وقد كان صغيراً هو وسائدة.. كنت أنا الأكبر وأنا المسئول عن عائلتي فكان علي أن أكافح لأجلهم..صرت أدرس أول النهار، لأني أحب العلم مثلك وحلمت بأن أصبح طبيباً (سكت برهه وأكمل)ثم... أعمل بعد المدرسة...و بسبب دراستي قصرت في عملي فأغضبت سيد العمل..فجاء يشكو لأمي المريضة..وهددني بالطرد أمامها ..فكافحته ..أمسك بذراعي بقوة وهزني وقال بقسوة :إما العمل وإما المدرسة..عليك أن تختار..حينها خافت سائدة واختبأت خلف راشد الذي كان يرتجف خوفا هو الآخر..ورأيت دموع أمي..شعرت بالضعف، تخليت عن المدرسة وتخليت عن حلمي .. فظل الندم يطاردني..
ثم أردف بعد أن نظر إلى كفيه: عندما وقفتً ذاك الموقف..أمام ذاك المدير المتعجرف، وقررت أن تتخلى عن أحلامك، أثرت الذكريات في قلبي فهزت كياني .. أمسكت بذراعيك ..( وأمسك بذراعي جمال وهزه بهدوء)وكانت أعماقي تصرخ وتناديك ..إنك لا تملك الإرادة ..لا تخطئ الخطأ الذي ارتكبته أنا..حتى لا تندم مثلما ندمت أنا .
رفع جمال رأسه ونظر إلى محمود الذي قال:أنا آسف ....قد كنت طوال تلك الشهور، أحاول الاقتراب منك، لأحتضنك وأعتذر(وبسط ذراعيه وتركها مبسوطة) ولكن كلما حاولت الاقتراب..ابتعدت.
ولم يقترب جمال فهزه برفق وقال:إنك بين عائلة تحبك وتقدرك، فلماذا تفوت النعمة التي رزقك الله إياها،لماذا هذا الضعف وهذه الفجوة ،استيقظ أيها الصقر وكفاك سباتا،كفاك ضعفا( وهزه بعنف أكبر وقال)استيقظ يا ابن الصامدة سمية؟
كانت الجملة الأخيرة قد هزت كيان جمال،فرمى جسده على صدر عمه وبدأ يبكي بحزن ومرارة، يبكي بصوت عالٍ وأنين أليم.
قال محمود:ابكي يا جمال وأخرج أحزانك،ابكي يا ولدي وارمي آلامك خلف ظهرك،ابكي يا جمال وإنسَ الماضي يا ولدي، ولا تفوت الحاضر الجميل الذي يحتويك، فنحن نحبك يا ولدي، عد صقرا كما كنت، فنحن ننتظر تحليقك.
قال جمال وهو يبكي ويشهق:حاضر يا عمّ ...سأنسى الماضي الذي أسأت إلى عائلتي بسببه..سامحني يا عم..سامحني..سأعود كما كنت..سأعود كما كنت...لأجلكم ولأجل أمي.
فعانقه محمود وبدأ يمسح على ظهره، وكان محمود أيضا من بكي.
ثم ترك ذراعي جمال وقال: أبق هنا فكر إلى حين الغداء.. اختر طريقك..إما العمل معي أو أي مكان تريده،أو المدرسة ..أنت حر في قرارك.
جمال وقد ابتسم غبطة:عن أي قرار تتكلم..إن قراري أن أحمد الله على عائلتي التي أكرمني الله بوجودي بينها، وأن أعمل على اسعادها (ثم نظر إلى النافذة، فكر وابتسم) وقررت أن أدافع عنها حتى لو قُتلت دون ذلك.
دخل معتز وقال:جئت أعتذر لجمال،فأنا من بدأت وآذيته.
محمود:بل هو من سيعتذر.. لقد أدمى وجهك ..والآن يا جمال قّبل جبين أخيك وقال له آسف يا أخي الحبيب.
أقترب جمال من معتز..قبل جبينه وقال:آسف.. يا أخي الحبيب.





فاجتمعت العائلة حول محمود، وكان الصمت يخيم على المكان، أراد معتز أن يخرق الصمت كعادته فقال لجمال: لا تفكر أبدا وتحت أي ضغط ، أن تقول لي يا أخي الحبيب.
نظر جمال مستغرباً:ولم؟
معتز مازحاً: لقد حسبتك بصقت في وجهي وأنت تلفظ البيب التي في الحبيب.
لم يعجب محمود بهذا التعليق لكن جمال قال بعد أن هز كتفيه بجدية:يا أخي.. كان بودّي..ولكني خفت من أبيك.
همّ معتز بأن يرمي وسادة على وجه جمال..لكن جمال أنفجر ضاحكا فصرخ معتز: يا قوم ..ضحك جمال، هذا يوم تاريخي.


::
::
::



كان جمال يدرس في ساعة متأخرة من الليل فسمع صوت معتز يناديه و يقول:بست ..بست..يا نور الدين زنكي.
رفع جمال رأسه مستغرباً وقال:هل تناديني؟ أنا لست نور الدين زنكي.
معتز:صح آسف نسيت بأن نور الدين زنكي لم يكن من حكام الأندلس..المهم أطفئ النور أريد أن أنام .
أمسك كتابه و رج من الغرفة ثم همس وهو يضغط على مفتاح النور ليضيء غرفة الصالة :أنا لست نور الدين محمود زنكي..ذاك أبوك.