سمية باستنطاق: أنك تعرف كل شيء،أليس كذلك؟
أشاح جمال بوجهه، فأمسكت ذقنه وجعلت وجهه يستقبل وجهها وسألت بغضب:إنك تعرف كل شيء،أليس كذالك؟
عاند فأقسمت فقال بمرارة:ومن لا يعرف حكاية جيني ألبرت، لقد أخبرتني باربرا أخت ميتشل كل شيء،ألم يكن سجانك ميتشل؟لقد كانت سجّانتي أخته؟
معتز مثل المسطول: أنا لا أفهم !إي أسر وأي سجان؟ من لويس !؟ من جيني!؟من أنت يا خالة سمية!؟
جمال بمرارة:إن جيني ألبرت هي سمية،إنها سراييفو في البوسنة والهرسك، إنها غروزني في الشيشان.
سمية بحزن:أخرج ما في صدرك؟
قال بنفس مضطرب:في صدري بركان،(سكت لحظة)عندما بدأت باربرا تسخر مني لأني عربي أمازيغي بربري، تصفني بالوحشية، تحرمني من الذهاب إلى المسجد، تحبسني، تقلل من حصة الطعام التي تخصني،كنت أقهرها بصمودي فإذا بها تقهرني وتخبرني كيف يعذبك أخوها في الأسر(وقف ثم بسط ذراعيه وتمايل مثل الطائر المذبوح ونادى بألم)إذا كنا نحن البربر وحوشا،ومنا الأكابر والأفاضل ومنا ابن كثير وابن بطوطة وعباس بن فرناس ومنا القائد العظيم يوسف بن تاشفين . فمن هم؟إن قاموس الوحشية لا يجد في مفرداته كلمة تصف همجيتهم وحقدهم.
معتز بذهول:وكيف يعذبها؟
تشبث جمال بقميص معتز وقال غاضبا: ألم تسمع!؟ ألم تفهم!؟ ألم تعقل!؟ أسيرة..وماذا يُفعل بأسيرة؟
صرخ محمود بـ (كفى) أما معتز جلس القرفصاء غطى وجهه بذراعيه وبكى وقال:لم كل هذا؟

جمال بحزن وألم: لأنها أمي المحامية الشهيرة الدكتورة جيني ألبرت، وابنة عائلة شهيرة بأنهم أساتذة القانون في فرنسا، التي أسلمت بعد أن تزوجت أبي(ضحك ساخرا)الذي نسي إسلامه، كانت تدافع عن قضايا المسلمين في منصة القضاء،تفتح ملفات نسيها الزمان، ملفات المذابح التي أركبت في الصين الشيوعية في عام 1954 تفتح ملف مذبحة أحمد أباد في الهند عام1970، المذابح في بنغلاديش عام1971 مذابح صبرا وشاتيلا في عام 1972 مذبحة الحرم الإبراهيمي في عام 1994 مذبحة سربرنيتشا في البوسنة و الهرسك عام 1995 قانا في جنوب لبنان 1996 ومذبحة أطفال بيسلان في الشيشان عام 2004و الكثير،الكثير، صوت الحق الذي كان يدافع عن المسلمين، في البوسنة والهرسك، في الشيشان، في فلسطين، في كشمير،مصيره أن يُكتم،ومصير من يفتح تلك الملفات ويدافع عنها بمنصات القضاء، أن يورد اسمه بملفات الإرهاب ذاك الطريق الذي مضت عليه سمية. كنت أرى صمودها في المحاكم تدافع عن المسلمين، المسلمين الذين لا يتقنون إلا السكوت والبكاء و الدعاء والقعود لانتظار عهد الخلافة الذي سيخلصهم.
نظر إلى معتز وقال بألم ليكمل فصول القصة المريرة:سجنت، تخلت عنها عائلتها، ومات أبوها كمداً، ثم تخلى عنّي أبي، فأنا ابن الإرهابية جيني ألبرت،وسيؤثر وجودي معه على مركز البروفيسور العلمي،فدفع المال لكونزالس ليتبناني، وبعد سنين، استيقظ أخوها لويس من غفلته فقام بمساعدتها ومساعدتي على الهرب، جاء بنا إلى هنا،استأجر لنا منزلا متواضعا، وترك لنا بعض النقود ورحل،فهو لا يقدر على مجابهة عمه القاضي الظالم الذي حكم على سمية بالسجن و القهر، وبعد عودته قُتل مسموما بعد أن أساؤوا لسمعته.

كانت سمية تجلس على الأريكة منهكة، تذرف الدموع وتستمع، محمود يجلس بجانبها، يحتضنها ويمسح دموعها، وفجأة...توقف بكائها، وأغمضت عينيها وفقدت وعيها، جلس جمال ومعتز عند قدميها بدأ الاثنان يناديان ويبكيان :أماه، استيقظي يا أماه.
أما محمود حملها نقلها إلى المستشفى مع جمال ومعتز.



طال الانتظار..كانت سائدة عند الباب تنتظر بلهفة حتى تطمئن على سمية، أما جمال ومعتز ومحمود، كانوا أبعد، وقف معتز فجأة وقال باكيا: ليتني ما سألت..كم أنا غبي..(ثم تضرع بصوت عالٍ وقال)يا الله،لا تجعلني أفقد أمي مرتين.
كان جمال واقف ينظر من خلال النافذة فانتفض بسبب الفكرة السوداء التي قد اشتعل دخانها في رأس معتز،قال مفزوعا:لا تقل هكذا! إن حدث هذا فلن أخسر أمي فقط ، بل سأخسركم!
معتز وهو يمسح دموعه: ماذا تعني؟
جمال يهذي: سأعود متشردا كما بدأت!إلى أي مؤسسة دار أيتام سأعود إليها!
محمود بحزم: لا تقل هكذا!
جمال بهستيرية:وما الذي يربطني بكم؟ كيف لي أن أعيش بينكم إن ماتت أمي وتزوجت غيرها.
فزع محمود للفكرة أكثر وقال بغضب: كفى يا بني!
بكى جمال وقال بانهيار: أنا لست ابنك..أما آن لنا أن نستيقظ ..لقد خدعنا أنفسنا كثيرا!كيف لي أن أجلس حول أمي ومحمود أثناء تناول الغداء، كيف لي أن أجلس حول أمي ومحمود في غرفة المعيشة...وفي آخر الليل حينما أنام فوق كتبي كيف...
لطمه محمود على وجهه وصرخ:كف عن العويل...ستكون أمك بخير.
جمال بكي وتضرع: يا ربي لا تحرمني من أمي ، ومن أبي محمود ومن أخي معتز..
عانق محمود جمال، وعانق معتز أباه وجمال، وبدأ جمال ومعتز يبكيان على صدر محمود.
وإذا بسائدة تصفق ثلاث مرات،فانتبه لها الثلاثة وقالت مستنكرة:لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، جنّ أبناء أخي!
مسح الثلاثة دموعهم فقالت:لقد خرجت الطبيبة للتو..
وسكتت! أمسك محمود ذراعيها وقال بحزم: كيف حال الحبيبة؟ هل هي بخير؟
سائدة مازحة: إيه الحبيبة! ألا ليتني سمية!
قال محمود بحزم: كفي يا سائدة ليس هذا وقت مزاحك، كيف حال سمية؟
سائدة تبتسم:إيه يا عاشق سمية، كل الحكاية أن سمية أرهقت نفسها في الفترة الأخيرة ونسيت أنها حُبلى.
الثلاثة بدهشة: حُبلى!
سائدة تبتسم:هي لم تكن تعلم..إنها تحمل طفله في أحشائها.
قام محمود واحتضن سائدة فعصرها،لقد كانت أمنيته أن يرزق منذ زمن طويل ببنت من سمية ، ركض إلى زوجته،فقالت سائدة ضاحكة: كأنها المولودة الأولى.
أما معتز أمسك وجهها بكفيه وبدأ يقبل خدها فضايقها، نفضته وقالت مازحة:أف..ماذا تطعمكم لتحبوها؟
معتز مازحاً: رأب الصدع!
ضحك جمال، ثم عدّل نظارته وتأمل سائدة، إن معتز يحمل خفة الظل من عمته، بل يشبهها في ملامحها،أمسك معتز بيد جمال ليدخله وقال مازحا: كفاك تتأمل عمتك كأنك تراها لأول مرة!




تحلّقت العائلة حول سمية في غرفة نومها فقال محمود: هيا لنختار اسم البنت،لنسأل الأخ الأكبر جمال أولاَ؟
جمال يبتسم وقد أعجبته الأخ الأكبر: ميس...ميس أخت ميسون رحمها الله.
معتز بتأثر:أجل، ميس ستكون مثل أختها ميسون!
محمود بفرح وغبطة:ميس!هل ستكون مثل أختها المشاكسة ميسون؟
ابتسمت سمية وقالت: بلى ميس،ستحمل رقة محمود،وستحمل قلب جمال،وستحمل طيبة معتز(نظرت من خلال النافذة)وشجاعة خالها لويس.
الثلاثة:نريد أن تكون سمية.
جمال بغبطة وقد عدل نظارته فتأمل، سرح ونسي نفسه فقال:ميس! إنها الحب الذي طال انتظاره سيربط حب محمود بسمية، وستكون أختي التي تربطني أكثر مع عائلة محمود،ستكون أختي وأخت معتز، سأناديها يا أختي، ويناديها معتز يا أختي،ستكون لي أخت تنادي محمود يا أبت.
ثم سجد لله شاكرا، أما معتز فقال مازحا:الله! الله! الله!شاعرية منقطعة النظير(ثم نظر إلى سمية وقال) أتعلمين يا أمي؟ حينما صار جمال يبكي ويولول في المستشفى وينادي(جعل صوته حادا) ما الذي سيربطني بكم،ما الذي سيجعلني أعيش بينكم...ساعتها!.. تمنيت لو أن جمال،ابن الفرنسية جيني ألبرت، كان بنتاً واسمها جميلة لأتزوجها،أخ.. ما كنت أفلتها من قبضتي.
مد جمال ذراعيه شاكرا لله وصرخ: أحمدك يا رب، جعلتني جمالا ولم تجعلني جميلة، أنقذتني من قبضة معتز.
ضحك الجميع، وعندما رجع جمال إلى غرفته أحرق المجلة...
وبعد أيام حينما دلف محمود إلى منزله،أحس بأن شيئا مميزا في غرفة الجلوس قد تغير، كانت الأريكة التي جلس عليها في المحل التجاري تنتظره في المنزل،وأخرى لسمية، أريكة محمود،هدية من جمال،وأريكة سمية، هدية من معتز.

ثم وصلت الهدية التي رزق الله عائلة محمود بها..ميس الجميلة.