إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.. أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ الأمةَ، وكشف الله به الغمة ، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصلى اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين...

أما بعد


حياكم الله جميعاً وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنى وإياكم في الدنيا دائما وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته.
إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شىء قدير..
» لا تقنطوا من رحمة الله «

هذا هو عنوان موضوعى في هذا اليوم المبارك أسأل الله جل وعلا أن يذلل لى ولكم الصعاب، وأن ييسر لى ولكم الأسباب وأن يفتح لي ولكم الأبواب إنه الحليم الكريم الوهاب.
ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف ينتظم حديثى مع أخواتى في العناصر التالية:

أولاً: الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار.
ثانياً: خطر الذنوب والمعاصى.
ثالثاً:نداء علوى رقيق.
وأخيراً: فهل من توبة.

فأعيرونى القلوب والأسماع. فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان.

أولا: الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار

أيتهاالاخت الكريمة. من يوم أن وجدت فى هذه الدنيا وأنت مبتلى، وأنت مختبر، إن مَنَّ الله عليك بالمال فأنت في بوتقة اختبار، إن مَنَّ الله عليك بالعافية والصحة فأنت مبتلى .. إن ابتلاك الله بالشك والضيق فأنت مبتلى.
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ([1]) هذه الدنيا دار إبتلاء وبوتقة اختبار ليست دار قرار وإنما هي دار بلاء ودار زوال.
اسمع إلى الكبير المتعال جل جلاله وهو يقول:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ([2])
هذا حكم الله جل وعلا على هذه الدار.

فانتبهى أيتها الحبيبة.. ولقد تعمدت أن أبدأ الموضوع بهذا العنصر لتنتبه كل غافلة ولتستعد كل ظالمة.. ولتنتبه كل مسوفة للتوبة ظنا منه أن هذه الدنيا دار إقامة.. ، ودار قرار.. كلا إن الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختيار.. ومهما طالت فهي قصيرة.. ومهما عَظُمَت فهي حقيرة، لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.

استمعى إلى حبيبك المصطفى وهو يبين لنا حقيقة هذه الدار في هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة :
يقول الحبيب ( إِنَّ ثَلاَثَةً نَفُرِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى الَّذِى قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ([3]).فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِىَ لَوْناً حَسَناً وَجِلْداً حَسَناً قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الإِبِلُ - فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَال:َ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا الَّذِى قَذِرَنِى النَّاسُ.َ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِىَ شَعَراً حَسَناً.قَالَ: فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ.فَأُعْطِىَ بَقَرَةً حَامِلاً وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قَالَ: فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْك؟َ قَال:َ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِى، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاس. فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ .قَال:َ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ . فَأُعْطِىَ شَاةً وَالِداً فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا - قَالَ - فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ»
اسمع أيها الحبيب : فأرسل الله جل وعلا المَلَك إليهم مرة أخرى لكن الملك ذهب إلى كل واحد منهم على صورته التي كان عليها من قبل فذهب الملك في صورة رجل أبرص إلى الرجل الأول.

يقول المصطفى : « ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِىَ الْحِبَالُ ([4]) فِى سَفَرِى فَلاَ بَلاَغَ لِىَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِى أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيراً أَتَبَلَّغُ به([5]) فِى سَفَرِى . فَقَالَ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ . فَقَالَ: لَهُ كَأَنِّى أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟! فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ!!»
استمعى إينها الحبيبة: ألم أقل لك أن الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار .. لما أعطاه الله المال نسى أصله ونسى فقره وعجزه وحين ينسى الإنسان أصله.. تعالى..، وتكبر..، واستعلى.. إذا نسى الإنسان أنه كان شىء لا يذكر
أَصْلُك يا ابن آدم من تراب.. وفصلُكَ يا ابن آدم من النطفة..!!
وأصْلُك يوطأ بالأقدام.. وفصلُكَ تطهر منه الأبدان..!!
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ([6])
ورد في مسند الإمام أحمد بسند حسن من حديث بُسر بن جُحاش القرشى أن رسول الله بصق يوماً في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال : قال الله عز وجل :« يا ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْت:َ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ »([7]).
حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ([8])
أحبتى في الله نعود إلى الحديث : يقول الملك :
ألم تك أبرص يقذرك الناس ، فقيرا فأغناك الله؟!
فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر !! كلمتان كانت السبب في محو هذه النعمة وفي زوال هذا الخير..يقول له الملك : «إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت »
يعلق الحافظ ابن حجر في الفتح ويقول : وجاء في النص النبوي إن الله عز وجل قد فعل به ورده إلى ما كان إليه أول مرة.
ثم ذهب الملك إلى الرجل الثانى وقال لما مثل ما قال للرجل الأول فرد عليه مثل مارد عليه الرجل الأول فقال له الرجل الأول فقال الملك: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت فصار إلى ما كان كما قال الحافظ ابن حجر، ثم ذهب الملك إلى الرجل الثالث وهو الأعمى فقال:« رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي؟ فَقَال:َ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ ([9]) الْيَوْمَ بشئ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ عز وجل
فَقَالَ الملك: أَمْسِكْ عليك مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ الله عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ ([10])
ألم أقل لك أيها الحبيب بأن الدنيا دار ابتلاء.. ألم أقل لك أيها الحبيب بأن الدنيا دار اختبار.
َاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ([11])

أيتها الحبيبة الكريمة : قال لقمان الحكيم لولده: أى بنى إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا، واستقبلت الآخرة، فأنت على دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها.

.. أيتها الأخت الكريمة الفاضلة :

.. الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار، وليست دار قرار ، وإنما دار القرار هي الجنة، جنة الكبير المتعال أسأل الله أن يجعلنى وإياكم من أهلها.
هذا بإيجاز عن العنصر الأولى حتى أُعَرِّج على بقية عناصر الموضوع إن شاء الله جل وعلا.

تابعوا معى