الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد :
فإن مهمة الرسل عليهم الصلاة السلام مهمة عظيمة شريفة ، يجب أن يعرفها الناس ويفقهوها ، ويعرفوا حقوق هؤلاء الرسل الكرام ويتخذوها منهاجاً ، يهتدون بهديه ، وبخاصة من نسب نفسه إلى الدعوة إلى الله تعالى، حيث يتعين عليه دراسة حياة رسل الله عز وجل ليترسم طريقهم إن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة .
_ولما كانت حياتهم عليهم الصلاة والسلام هي حياة الكمّل من الناس، الذين اختارهم الله عز وجل عن علم وحكمة ، واصطفاهم على البشر : كان لا بد أن نتعرف على هذه الحياة المباركة ، التي صُنعت على عين الله تبارك وتعالى .
_ كما كان لزاماً على من أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة فرداً كان أو جماعة أن يدرس هذه الحياة المباركة، وبخاصة في عصور الغربة والغرباء كعصرنا الحاضر
_علّها أن تكون نبراساً لحياتنا ، ونجاة لأمتنا مما هي فيه في من واقع أليم .
ويمكن إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من خلال أمور كثيرة ،
أهمها ما يلي :_
أولاً : لأننا مأمورون من الله عز وجل بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم :_
________________________________________
وفي ذلك طاعة لله سبحانه وعبادة له قبل كل شيء ، ومن هذه الآيات ما ذكره الله عز وجل في سورة الأنعام من شأن بعض أنبيائه ورسله، ثم ختم هذه الآيات بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهديهم، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ، قال الله تعالى : ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاًوَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَىصِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) [الأنعام : 83 90] .
*قال الطبري (رحمه الله تعالى) عند الآية الأخيرة :
((أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) : يقول الله : ((أُوْلَئِكَ)) هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين ، هم الذين هداهم الله لدين الحق ، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده ، واتباع حلاله وحرامه ، والعمل بما فيه من أمر الله ، والانتهاء عما فيه من نهيه ، فوفقهم (جل ثناؤه) لذلك، ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ))، يقول : تعالى: فبالعمل الذي عملوا ، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم ،والتوفيق الذي وفقناهم ((اقْتَدِهْ)) يا محمد ، أي : فاعمل وخذ به واسلكه ، فإنه عمل لله فيه رضاً ، ومنهاج من سلكه اهتدى) تفسير الطبري
_والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ، لقوله تعالى : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب : 21] .
_ومن الآيات التي ورد فيها أيضاً الأمر بالاقتداء بهدي الأنبياء : قوله تعالى : (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ )) [الممتحنة : 4] .
_ثانياً : لأن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي الحياة المعصومةخاصة فيما يتعلق بالعقيدة ، وما أُمروا بتبليغه ؛ ذلك لأن الله تعالى اجتباهم واصطفاهم عن علم وحكمة
___________________________
_ قال تعالى : ((وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا)) .
وقال سبحانه عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام : ((إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ )) [سورة ص : 46 ، 47] ، وقال عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام : ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )) [طه : 39] ، وقال عن علمه سبحانه بمن يختار من رسله : ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام : 124] .
وقال سبحانه : ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ )) [الحج : 75] ،
* والآيات في ذلك كثيرة ، والحاصل منها :
أن من اصطفاه الله عز وجل واجتباه لرسالته هم أولى بالاتباع والاقتداء ؛ وذلك لحفظ الله عز وجل لهم وعصمته لهم من الزلل والانحراف، ولو وقع منهم الخطأ لم يُقَرّوا على ذلك ، فحري بمن هذه صفاتهم أن يُقتدى بهم ، وتُدرس حياتهم، ويُتعرف على هديهم ؛ وذلك لضمان الاهتداء وعدم الانحراف، لهداية الله عز وجل لهم وعصمته لهم، فيتم الاقتداء من المقتدين وهم في غاية الاطمئنان على صحة ما يأخذونه ويقتدون به وسلامته من الانحراف .
♥ومن السنن التي يمكن التعرف عليها من خلال دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يلي :
_ثالثاً : في دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) أكبر العظات والعبر للدعاة إلى الله عز وجل في كل مكان وزمان.
*سواءً ما يتعلق بالإيمان العظيم والتوحيد الصادق الذي عليه أنبياء الله عز وجل
*أو فيما يتعلق بأخلاقهم وسلوكهم .
*أو بهديهم ومنهجهم .
*وصبرهم في الدعوة، والصراع مع الباطل وأهله.
_ وإبراز هذه الجوانب من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو من أهم أغراض ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم ؛ حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية فقط ، وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم لله والدعوة إليه ، والتعزي بحياتهم وصبرهم وجهادهم ؛ حتى لا تفتر عزائم الدعاة ويضعف صبرهم ، فلهم في هذا السلف المبارك أكبر عزاء وقدوة في الثبات وشحذ الهمم .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
(وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم ؛ فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك ، ويعلموا أنه قد ابتلي به من هو خير منهم ، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتب المذنب ، ويقو إيمان المؤمنين ، فبها يصح الاتساء بالأنبياء) مجموع الفتاوى ،
رابعاً : وتأتي دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في عصرنا الحاضر:_
________________________________
ونحن في أشد الحاجة إلى دراستها من أي وقت مضى ؛ وذلك لما يشهده عصرنا من غربة في أحوال كثير من المسلمين وفرقة بين دعاة الحق ، وتسلط الأعداء ، وكيد المنافقين، وتخبط في بعض المناهج الدعوية ما بين يائس، ومداهن ، ومستعجل، وهذا يبرز أهمية التعرف على حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في واقعنا المعاصر؛
_ لعلّ في الدراسة المتجردة الواعية لهذه الحياة المباركة أن يقينا الله سبحانه بها من التخبط والانحراف ، وأن يهدينا بها إلى الصراط المستقيم الذي يوحد صفوفنا ، ويبطل كيد أعدائنا ، _ويوصلنا في النهاية إلى النصر والتمكين الذي نصر الله عز وجل به أنبياءه والمتبعين لهم بإحسان
خامساً : في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:_
____________________________________
تعرف على سنن الله عز وجل في التغيير،
وتعرف على سننه سبحانه في الدفع والمدافعة ،
كما أنها تكشف للدعاة إلى الله عز وجل ذلك الصراع الطويل المرير بين الحق والباطل ،
وفي هذا أكبر العزاء لأهل الحق ؛ وذلك لإيمانهم بحتمية هذا الصراع ،
وأن الدولة والعاقبة في نهاية الأمر للحق وأهله،
وهذا كله لا يبرز بوضوح كما يبرز في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصراعهم مع أقوامهم : بالحجة والبيان ، والهجرة، والجهاد ، حتى أتاهم الله تعالى بنصره وتمكينه ؛
قال تعالى : ((وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُوفَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )) [البقرة : 251] ،
وقال تعالى : ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) [الحج : 40] .
وقال تعالى : ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )) [آل عمران : 140] .
وقال سبحانه عن السنن : (( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ )) [آل عمران : 137] .
وإن في التعرف على هذه السنن الربانية لأعظم فائدة في تجنب الأخطاء وتوقي موارد الهلكة، ومعرفة أسباب النصر والتمكين .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا ، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها ؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره ؛ كالأمثال المضروبة في القرآن) [5].
1- سوء عاقبة المكذبين للرسل وإهلاكهم .
2- نصره سبحانه لعباده المؤمنين .
3- مداولة الأيام بين الناس من الشدة إلى الرخاء .
4- زوال الأمم بسبب الترف ، والفساد ، وفشو الظلم ، والتجبر على الناس .
5- أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في الخير والشر .
6- أن انهيار الأمم وهلاكها يكون بأجل .
7- أن الابتلاء للمؤمنين سنة جارية .
8- تقرير سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل .
سادساً : ولعل في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بصدق ورغبة في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة:_
_ولعل الله عز وجل أن يلحق من هذه نيته بركبهم الميمون ، وأن يحشره في زمرتهم ، فيصدق عليه قول الله تعالى : ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكََ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً )) [النساء : 69 ، 70].
نسأله سبحانه أن يفيض علينا رضاه وجنته ، وأن ينعم علينا باللحوق بهذه الصفوة المباركة باتباعنا لهم ، وحبنا إياهم ، وإن قصرت أعمالنا فعفو الله اوسع.
_فعن أنس رضي الله عنه : (( أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فقال : متى الساعة ؟ قال : (وما أعددت لها ؟) قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال : (أنت مع من أحببت) ، قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، وإن لم أعمل أعمالهم)) البخاري
انتهى الجزء الاول ويبدأ الجزء الثانى بقصة نبى الله آدم عليه السلام وبالله التوفيق
الروابط المفضلة