سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه
للعلامة: أبي الحسن الندوي
يشهد التاريخ الموثوق به أن الخلفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت ساذجة ، إنه كان يطعم الناس طعام الإمارة ، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت (1) ، وكان يصوم الدهر ويباشر أعماله بنفسه رُغماً من وجود الخدم ، فقد أخرج ابن سعد عن عبد الله الرومي ، قال : كان عثمان رضي الله عنه يلي وضوء الليل بنفسه قيل له : لو أمرت بعض الخدم فكفَوْك ، قال : لا ، الليل لهم يستريح من فيه (2) .
وكان له عبد فقال له : إني كنت عركت أذنك فاقتص مني ، فأخذ بأذنه ، ثم قال عثمان رضي الله عنه : اشدد ؛ يا حبذا ! قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة (3) .
وعن عبد الملك بن شداد بن الهاد قال : رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الجمعة على المنبر ، عليه إزار عدني غليظ ، ثمنه أربعة دراهم أو خمسة دراهم . وعن الحسن البصري قال: ((رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة. قال: ويقوم وأثر الحصى بجنبه ، قال : هذا أمير المؤمنين ، هذا أمير المؤمنين)) (4) .وكان يُسائل وهو على المنبر عن الأسعار والأخبار اهتماماً بأمر المسلمين . عن موسى بن طلحة قال : رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخرج يوم الجمعة وعليه ثوبان مُعَصفران ، فيجلس على المنبر فيؤذن المؤذن وهو يتحدث ، يسأل الناس عن أسعارهم وعن أخبارهم وعن مرضاهم (5) .
ولا أدل على إيثاره وإنكاره للذات ، من أنه لم يرض بقتال أعدائه الذين جاؤوا إليه من مصر وهاجموه ، رُغم تحقق وسائل الدفاع عنده ، كراهة أن يقاتل المسلم ويسفك دمه ، فاستشهد وهو في حال يتلو فيه القرآن الكريم ، كما أنه كره أن يتنازل عن الخلافة التي كان يعتبرها أمانة المسلمين ، وكتن مطلعاً على الغاية المتوخاة منها ، في ضوء الأحاديث والإشارات النبوية .
يقول أمير علي: ((ومن أكبر خصائصه ورعه وتقواه)) ويقول: ((وليم ميور)): ((كان رقيق ، ولو أنه كان قد أدرك الخلافة أيام الأمن لنال إعجاباً كبيراً من الناس)) ويقول ((ليفي دلافيدا)): في ((موسوعة الإسلام)): إنه قد تحدث (ويلهاسن) ، وكذلك ((كيتاني)) بتفصيل أكثر : ((إن عثمان نفذ سياسة عمر وأدخل فيها تحسينات)) (5) .
إن مدة خلافة عثمان التي تمتد إلى اثنى عشر عاماً تمت في خلالها فتوحات واسعة عظيمة بسرعة مدهشة ، يكاد يتعذر نظيرها في تاريخ سابق ، وقد اتسع نطاق المملكة الإسلامية في هذه الفترة اتساعاً ملحوظاً ، حتى إن حدود هذه المملكة قد امتدت من السند إلى الأندلس ، وقامت القوات الإسلامية في هذا العهد بمناورات بحرية ، عدا ما أسهمت في الحروب الكبرى ، وفتحت جزائر قبرص ورودس ، وأعدت أسطولاً بحرياً عظيماً ، مع أنها كانت لا تملك قبل ذلك سفينة واحدة ، لقد وصل الجيش الإسلامي في عام 32 هجرية إلى مضيق القسطنطينية (باسفورس) ، وفي عام 25 هجرية ، وتمَّ الزحف العسكري على طرابلس الغرب (ليبيا) وبعد عامين فقط فتحت تونس والجزائر ، والمغرب الأقصى ، وفي هذا العام نفسه حاصر عبد الله بن نافع الأندلس بعد ما عبر البحر ، حتى وصلت جيوش المسلمين إلى تفلس وإلى ساحل البحر الأسود ، وفي عام 30 هجرية زحفوا إلى أرض خراسان وطربستان ، وتم فتح جرجان وخراسان وطربستان ، وتقدم عبد الله بن عامر ، ففتح هرات وكابل ، وسجستان ونيسابور ، وأخضع ما والاها من مناطق للخلافة الإسلامية ، حتى تم فتح طخارستان ، وكرمان ، واتسعت حدود الخلافة الإسلامية إلى بحر خزر (قزوين) وجبل (قاف) ، وفي عهده أقبل المسلمون نحو الهند ووصلوا إلى المناطق الساحلية في ولاية غجرات بالهند (6) .
كما أزدهر في عهد خلافته كل شيء من الحضارة والمدنية والصناعة ، والحرف والتجارة ، والعلوم والثقافة ، وكثر الرخاء والثراء والرفاهية في عهده كذلك ، ومن أهم مآثره توسعة المسجد الحرام التي تمت على يده في عام 26 هجرية ، وفي عام 29 هجرية زاد في المسجد النبوي ، ووسعه ، وبناه بالحجارة المنقوشة ، وأمر ببناء المساجد في المناطق المفتوحة وتوسعة المساجد الموجودة فيها ، نظراً إلى توسيع نطاق الفتوحا البحرية .
وأجل مأثرة له جمع العالم الإسلامي كله على مصحف واحد وقراءة واحدة ، إن أمره بكتابة نسخ المصحف وتوزيعها في جميع الأقطار الإسلامية وتوحيدها على قراءة واحدة لأعظم مأثرة لخلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه .
(1)روى ذلك شرحبيل بن مسلم بسند صحيح ، راجع (حلية الأولياء) لأبي نعيم ج 1ص 60
(2)طبقات ابن سعد ج3 60
(3)الرياض النضرة في فضائل العشرة للمحب الطبري ، أخرجه ابن السمان في الموافقة عن أبي الفرات ورقة 205 (ب) رقم المخطوط 1784 مكتبة ندوة العلماء .
(4)حلية الأولياء ج1 ص 60
(5)طبقات ابن سعد ج3 ص 59
(6) نتيجة لهذه الفتوحات العظيمة الواسعة انتشر الإسلام عى أوسع نطاق ودخلت أمم بأسرها في دين الله ، ونستطيع أن نقدر ذلك بكل سهولة في ضوء شهادات التاريخ .
(7)اشتكى رجال من أهل الكوفة إلى علي رضي الله عنه من أن الخليفة سبقه جمع الناس على قراءة واحدة للقرآن ، فرد عليهم رضي الله عنه مغضباً ، اسكتوا فإن عثمان فعل ذلك برأي من كبار الصحابة لو كنت أنا في موضعه آنذاك لفعلت كما فعله عثمان .
الروابط المفضلة