::
::
إن الإسلام هو الدين الخالد ,, وشريعته هي الشريعة الخالدة .
ولأن الله أتمّ الدين وأكمله فلا يحتاج إلى رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان آخر الرسل والأنبياء وخاتمهم .
إلا أن الله سبحانه قد قيض لهذا الدين رجالا ً ينوبون عن الأنبياء , يحملون على كاهلهم حمل حماية الدين , والذود عن هذا القرآن الذي تعهد الله بحفظه .
هم رجال ٌ في الشكل والجسم . إلا أنهم جبال راسيات شامخات في البأس والعزيمة والإيمان والعقيدة .
وكلما ازدادت الرقعة الإسلامية امتدادا ً, وزاد عدد المنتمين للإسلام , وكلما ابتعد العهد عن النبوة والرسالة كلما احتاج الدين إلى حُماة يذودون عن حياضه .
ابدأت أول هزة بحروب الردة . فقيض الله لها أبا بكر رضي الله عنه ..
واجهها بصلابة دهش منها حتى كبار الصحابة . في وقت كان فيه جيش أسامة قد أُنفِذَ إلى بلاد الشام .
وعنها قال أبو بكر كلمته الخالدة :
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه .
فقال عمر بن الخطاب : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
وبذلك حفظ الله الإسلام بأبي بكر من ثلمة منع الزكاة ولو إلى حين
وتمضي الأيام والإسلام في علو وثبات وفتوح .
ولم يزل الناس في عهد السلف الصالح يؤمنون بالله وكتبه ويعتقدون أن القرآن كتاب الله وكلامه إلى أن ظهرت فتنة المعتزلة بزعامة بشر المريسي .
قام هارون الرشيد رحمه الله يحارب كل من قال بخلق القرآن . وقال قولته الشهيرة :
" بلغني أن بشرا ً المريسي زعم أن القرآن مخلوق . عليّ إن أظفرني الله به لأقتلنّه قتلة ً ماقتلتها أحدا ً قط "
فكان بشر ُ متواريا ً من الرشيد من عام 170 حتى 193هجرية
فلما مات الرشيد وبعده الأمين . ظهر المريسي بأفكاره الضالة وأطلّت الفتنة برأسها .
ولي المأمون فخالط المعتزلة وحسّنوا له الأمر فقال بخلق القرآن .
ثم قوي عزمه فبدأ يحمل الناس على القول به , ويمتحنهم في ذلك : فمن قال به
تركه , ومن أبى عذبه !
ثم اشتد الأمر فأمر المأمون بضرب رقبة كل من رفض .
وأجاب الجميع مابين خائف ٍ .. ومتملق ٍ .. ومقتنعًٍ .. ومجتهد .
وبقي أربعة :
أحمد بن حنبل .. وسجادة ( الحسن بن حماد ) .. والقواريري .. ومحمد بن نوح .
أمر بهم الوالي فشدوا في الحديد .
ثم اعترف سجادة بخلق القرآن فأطلق سراحه .
بعده بيوم أجابهم القواريري .
وبقي : أحمد ومحمد بن نوح . فشدهما الوالي بالحديد إلى الرقة حيث المأمون .
في الطريق يقضي الله أن يموت محمد بن نوح . صلى عليه أحمد ودفنه .
وبقيت الأمة وعقيدتها, شيوخها , علماؤها , فقهاؤها , عامتها , مختزلة ً جميعها في شخص رجل واحد قوله فقط يحمي الدين والقرآن :
إنه أحمد بن حنبل .
وحتى نكون في الصورة تماما ً ونفهم موقف أحمد . كان لابد لنا أن نفهم معنى القول بخلق القرآن .
قال المعتزلة بالقول بخلق القرآن لأنهم يرون أن الله وحده هو القديم . وكل ما عداه فهو محدث مخلوق . وهذا كلام فلسفي عدا عن أنه مخالف . فقد أرادوا أن يدخلوا الناس بمتاهة الفلسفة والعقل والتحاكم إلى المنطق . وعامة الناس لاتفهم ذلك . فكان الهدف إدخال الناس في بلبلة الكلام في القرآن .
أما العلماء والفقهاء فقد استشنعوا أن يسموه مخلوقا ً . وقالوا : القرآن كلام الله لا نقول مخلوق ولاغير مخلوق, وإثارة هذا بدعة .
لقد كانوا يعتقدون أن الكلام في هذا لايصح .. وأنه لا يصح أن يصل إلى العامة فتنزع قداسة القرآن من نفوسهم ويؤدي إلى ضعف العقيدة .
وأصر المعتزلة أن هذا القول محتم لايصح العدول عنه , ولا ينبغي التساهل فيه ...
ولان المأمون دان بهذا القول وقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد , ومعهم أصحاب المناصب . فلم يبق َ إلا أن يحملوا الناس عليه قهرا ً وجبرا ً . حسبوا الأمر هين ,, ولم يخطر ببالهم أن أمامهم عقبة كؤود ستحول بينهم وبين أطماعهم الخبيثة .
نسوا رجلا ُ واحدا ً لم يحسبوا حسابه : أحمد بن حنبل .
طاش الناس . وعظم البلاء .. واشتدت المحنة
وصار المسلمون بحاجة شديدة إلى إمام يثقون بدينه , وأمانته , وفقهه , يعارض هذا التيار , ويقف في وجه الخليفة والقاضي والأعيان مدافعا ً عن السنة . جاهرا ً بالحق ,, محتملا ُ للأذى ,, صابرا ً على البلاء .. ولابد أن تكون شخصية معروفة , قوية تتمتع بالإجلال والتقدير.
فكانت هذه الشخصية إمامنا النبيل أحمد بن حنبل حامل لواء السنة .
كان أحمد من أعلم النس بالسنة , وكأنه قد جُمِع َ له علم الأولين والآخرين .
ماكان يقال لأحمد : من أين قلت ؟؟
كان عدد الذين يستمعون إلى دروسه نحو خمسة آلاف , كان يكتب منهم خمس مائة .
قال معاصروه : انهم لم يروا أفقه ولا أورع منه .
كان شديد الزهد والنقوى والورع . عازفا ً عن الدنيا وبهارجها , لم يقبل في حياته جائزة ولا هبة ولاعطية .
هذا هو الرجل الذي هيأه الله ليكون رجل الهزة الثانية .
في الطريق محمولا ً إلى المأمون بلغهم أن المأمون توفي في الرقة . فأعادوه إلى بغداد . حيث أصبح المعتصم هو الخليفة الجديد . وهو الذي كان الامتحان على يده .
لقي أعرابي أحمد في الطريق فقال :
يا أحمد ! إن يقتلك الحق مت َّ شهيدا ً , وإن عشت َ عشت َ حميدا . قال أحمد : فقوي قلبي .
حُبِسَ في بغداد في سجن العامة ثمانية وعشرين شهرا ً .
وها نحن نستمع إليك يا ناصر السنة وأنت تحكي لنا حكاية الثبات والصمود . نستمع بآذان صاغية , وقلوب تخفق خفقا ً لملحمتك التي سطرتها لنا بدمائك وآلامك وصبرك العجيب .. من فمك الطاهر .. نسمع الحكاية :
ناظره المعتصم طويلا ً وهو لا يجيبه إلى طلبه .
ثم ناظره علماء البلاط يكلموه فلم يجب . وهو يقول : أعطوني شيئا ً من كتاب الله أو سنة رسوله . قال له المعتصم : ماكنت َ تعرف صالح الرشيدي ؟ قال أحمد : سمعت ُ به . قال المعتصم : كان مؤدبي , وكان في ذلك الموضع جالسا ً ـ وأشار إلى ناحية من الدار ـفسألته عن القرآن فخالفني , فأمرت ُ به فوطِئ َ وسُحب . قلت :أعطوني شيئا ً من كتاب الله أو سنة رسوله .
قال المعتصم : خذوه واسحبوه واخلعوه . قال : فسُحبت ُ . أو خلعت .
ثم قدم رضي الله عنه للجلد وتقدم السياطون : قال المعتصم : تقدموا . قال احمد : فجعل يتقدم إلي ّ الرجل منهم فيضربني سوطين . فيقول له : شد قطع الله يدك .
فلما ضربت ُ تسعة عشر سوطا ً قام إلي ّوقال :
يا أحمد ّ علام َ تقتل نفسك ؟ إني والله عليك مشفق !
قال : فجعل عجيف ( السياف ) ينخسني بقائمة سيفه ويقول : أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم ؟؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك !! الخليفة على رأسك قائم !!! وبعضهم يقول : يا أمير المؤمنين ! دمه في عنقي ! أُقتله ! ويقولون : يا أمير المؤمنين أنت صائم وفي الشمس قائم .. فيقول المعتصم : ويحك يا أحمد ! ما تقول ؟؟ فأقول : أعطوني شيئا ً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول به .
فرجع وجلس وقال للجلاد : تقدم وأوجع قطع الله يدك !
وتتكرر الصورة مرات ومرات .. وأغمي عليه مرة وهو صائم لايفطر فحمل إلى دار إسحق بن إبراهيم.. وحضرت صلاة الظهر , وتقدم ابن سماعة للصلاة فصلى وصلى أحمد . فلما انفتل ابن سماعة من صلاته قال لأحمد : صليت َ والدم يسيل في ثوبك ! فقال أحمد :
قد صلى عمر وثوبه يثعبُ دما ً .
كان يُضَرب حتى يُغمى عليه فيرفع الضرب .
وعندما أخرج من السجن .. جيئ برجل ممن يبصر الضرب والعلاج . فنظر إلى ضربه فقال :
" قد رأيت ُ من ضرب ألف سوط ما رأيت ضربا ً مثل هذا . لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثم أُخذ َميلا ً فأدخله في بعض تلك الجراحات " وجعل يأتيه ويعالجه .
كان قد أصاب وجهه غير ضربة ... ولبث منكبا ً على وجهه كم شاء الله !
كان الطبيب يلف اللحم المهترئ على حديدة ثم يقطعه بالسكين ,, وهو صابر ٌ يحمد الله .
فبرئ منه , ولم يزل يتوجع من بعض المواضع .
وهكذا رفع الله شأن أحمد .. وارتفع ذكره , وعظم عند الناس .
لقد أدخل أحمد الكير فخرج ذهبا ً خالصا ً
ومن الغريب أن هذا الرجل النقي الطاهر جعل المعتصم في حل ٍ مما عمل به عندما سمع فتحه لعمورية .. وقيل أحله يوم سمع بفتحه لعاصمة بابك الخرمي المارق من الإسلام الذي أراد أن يقيم دولة الفرس المجوس بعد مقتل أبي مسلم فقضى المعتصم على دعوته .
قال أحمد :
" كل من ذكرني في حلًٍ إلا مبتدعا . وقد جعلت أبا إسحق ـ يعني المعتصم ـ في حل ! ورأيت ُ الله يقول لي : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ,, وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم بسببك ؟ "
لله درك يا أبا عبد الله !! حملت َ بين جنبيك نفسا ً لا تعرف غلا ً ولا حقدا !! حملت َ الطهر والصفاء والنقاء . ..حملت َ لواء المسامحة والعفو .. لم تعرف معنىً للعتبِ ولم تحمل أحقاد القلب ِ .
ولي الواثق بعد المعتصم فمشى بسيرة أبيه وضيق على الناس ..حتى ولي َ المتوكل جعفر فأظهر السنة , وفرج عن الناس .
أحبه المتوكل فأمر أن يكون معه في المعسكر في سامراء وهو ضعيفٌ واهنُ الجسم فكان يصوم ولايأكل من طعامهم .
وبلغ أمَّ المتوكل خبُره فقالت لابنها : أشتهي أن أرى هذا الرجل .فلما دخل أحمد . قال يحيي بن خاقان :
أخبرني بعض الخدم أن المتوكل كان قاعدا ً وراء ستر فقال :" يا أمه !! قد أنارت الدار ."
قلت ُ : وما أنارت به دار المتوكل فقط . بل أنارت به قلوبنا . وأنارت به صفحات التاريخ التي شرُفت ْبرواية ملاحم بطولته وإيمانه وصموده .
إن سر روعة ما قدمه أحمد كان في دفاعه عن عقيدة من عقائد الإسلام وانتصاره لها . فقد وقف سدا ً منيعا ً في اتجاه هذه الأمة إلى التفكير الفلسفي المتهور الذي لو سيطر على هذه الأمة لانقطعت صلتها بالتدريج عن منابع الدين الأول , وعن النبوة المحمدية , وخضعت الامة للفلسفات ,, وأصبحت عرضة للآراء والقياسات .
خرج أحمد من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء , والبدر من الظلماء ,, ولم يزل في صعود واعتلاء .. وأصبح حبه شعار أهل السنة والصلاح .
قال قتيبة :" إذا رأيت ً الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة "
وقال أحمد بن ابراهيم الدورقي :
" من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام "
وكفاه شرفا ً وعظمة أنه قرن بأبي بكر الصديق رضي الله عنه .
قال علي بن المديني أحد أئمة الحديث في عصره وأحد شيوخ البخاري :
" إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة .... وبأحمد بن حنبل يوم المحنة "
مرض أحمد تسعة أيام يصلي قاعدا ً ومضطجعا لا يفتر .
أدخلوا الطست تحته فخرج بوله دما ً عبيطا لابول فيه . فقال الطبيب : هذا رجل ٌ قد فتت الحزن ُ والغم ُّ جوفه .
اجتمع الناس على بابه حتى ملؤوا السكك والشوارع , وأرسل له الوالي الشرطة تقف على بابه .
قبض صدر النهار . وخرجت جنازته بعد صلاة الجمعة .
حُزر من حضر جنازته من الرجال ثمانمائة ألف رجل ,, وبعضهم قال ألف ألف . ومن النساء ستون ألف امرأة . سوى من كانوا في السفن في الماء .
أما بشر المريسي فلم يحضر جنازته إلا القليلون جدا ً من طائفته .
والحارث المحاسبي لم يصل ِ عليه إلا ثلاثة ٌ أو أربعة ٌ من الناس .. صلوا عليه ليلا ً ودفنوه .
واما قاضي القضاة المعتزلي بن دؤاد فلم يشيعه إلا القليل من أعوان السلطان !!
وبهذا الاحتشاد العظيم في جنازة أحمد تحقق ما أنبأ به بقوله :
" قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز "
رحمه الله ورضي عنه
إنه أهلٌ لأن نسطّر مجده بأقلامنا .
أختكم / بدور
الروابط المفضلة