معجزة صنعها الإسلام ( بأقلامنا نسطر أمجادهم )

[بُدور]

::

::

كثيرون هم العظماء في تاريخنا الإسلامي .. حفلت كتبنا بهم ,, وتحدثت عن مآثرهم وإخلاصهم .

كثيرون هم الذين نبغوا من علمائنا الأفذاذ ,, وكثير ٌ منهم تركوا بصمات ٍ لا تزال إلى يومنا هذا .. ولكن !! قليلون هم الذين غيروا مجرى التاريخ .

وقليلون هم الذين غيروا نظاما ً متكاملا ً سادت فيه ممارسات خاطئة وكثيرة لسنوات طويلة حتى عمت الدولة من رأسها إلى ولاتها إلى موظفيها .. قد يحصل هذا التغيير عن طريق مجموعة من الرجال وخلال سنوات ....

أما أن يغير شخص واحد دولة مترامية الأطراف في ظرف عامين ونيف من الزمان .. فهنا تكمن المعجزة !!

معجزة ٌ صنعها الإسلام :

عمر بن عبد العزيز

كلنا نعرف قصة الفتاة التي رفضت مذق اللبن بالماء . فكان أن زوّجها عمر الفاروق رضي الله عنه لابنه عاصم .

لقد كانت لعمر فراسةٌ لاتكون إلا للمؤمنين . فال لولده : إذهب فتزوجها , فما أراها إلا مباركة , ولعلها تلد رجلا ً يسود العرب !!

تزوجت الورعة من عاصم فأنجبت فتاة ً أسمَوها ليلى وكنوها : أم عاصم .

تزوجت أم عاصم عبد العزيز بن مروان فأنجبت له عمر .

وهكذا صدقت نبوءة عمر في الفتاة المباركة . ذريةٌ بعضها من بعض .

وهناك نبوءة أخرى لعمر بن الخطاب :

نهض يوما ً من نومه متعجبا ً مستغربا ً من رؤيا رآها . فتساءل : مَنْ هذا الأشج ُ من بني أمية ؟ ومن ولَد عمر ؟ يسمى عمر ؟ يسير بسيرة عمر ويملأ الأرض عدلا ؟

تحققت هذه الرؤيا بعد حوالي أربعين عاماً .

كان عمر بن عبد العزيز صغيرا ً . دخل مرة إلى اصطبل أبيه فرفسه حصان ٌ في وجهه .. فلما رآه أبوه استبشر وقال قولته المفعمة بالرجاء والأمل :

" إن تكن أشج َبني أمية إنك إذن لسعيد " .

كان والده من خَيار بني أمية . وكان واليا ً لأخيه عبد الملك بن مروان على مصر ، فكان هدفه أن يهيئ ولده ليكون خليفةً لجده عمر .

أرسل ولده الصغير عمر إلى المدينة المنورة ليتعلم من علمائها وفقهائها .

كان أول مشايخه الفقيه العالم صالح بن كيسان . قال عن عمر :

" ما خبرت أحدا ً الله أعظم في صدره من هذا الغلام "

كان أعظم قدوة له : عبد الله بن عمر عم أمه . وكان بسميه خالي .

قال مرة لأمه : " تعرفين يا أماه !! لأكونن مثل خالي عبد الله بن عمر "

لله دره نظر إلى أشد الصحابة فقها ً وورعا ً وتقوى فاتخذه أسوة وقدوة !!

صلى وراءه أنس بن مالك فقال : " ماصليت ُ وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل " .

قال عنه التابعي الجليل مجاهد بن جبير الذي عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة : " أتينا عمر نعلمه فما رجعنا حتى تعلمنا منه "

صار واليا ً على المدينة وهو ابن 25 عاما ً . عاش في تلك المرحلة من حياته عيشة الرفاهية بكل أبعادها . كان بلبس أفخر وأنعم الملابس . ثم يقول للثوب :

" ما أنعمه ! لولا خشونة فيه ! " .

وإذا خرج في الطريق يفوح الطريق كله من طيبه .

أول مافعله في المدينة أنه اختار عشرة من أئمة العلم والفقه والورع والفضل فجعلهم في مجلس شوراه .

وهنا يظهر صلاحه في اختياره أهل الصلاح للشورى .

كان الأمويون قد أطلقوا يد الحجاج بن يوسف الثقفي . فكان كثير السفك والقتل وكأن سيفه يقطر دما . فكرهه عمر كراهة ً شديدة .

وفي أحد مواسم الحج طلب عمر من الخليفة الوليد أن لا يمر الحجاج على المدينة . فكتب الوليد للحجاج :

" إن عمر بن عبد العزيز كتب إلي ّ يستعفيني من ممرك عليه بالمدينة , فلا عليك ألا تمر بمن يكرهك , فنح ِ نفسك عن المدينة ".

انتقم منه الحجاج , إذ وشى به للخليفة الوليد بن عبد الملك . وقال : إنه يؤوي الخارجين عن القانون من العراقيين الذين يفرون من بطش الحجاج .

فلم ينف ِ التهمة عن نفسه , وناقش الوليد في ظلم الأمويين وغياب العدل وتفشي القهر . وقال قولته الشهيرة :

" لو جاءت كل أمة بخطاياها يوم القيامة وجئنا نحن بالحجاج لرجحناها جميعا " .

فكانت النتيجة أن عزله الوليد عن ولاية المدينة والحجاز بعد أن مكث فيها ستة أعوام ملأ البلاد خلالها أمنا ً وعدلا ورخاء وبهجة .

غادر المدينة إلى الشام ولم يحب بلدا ً قدر حبه لها .

في الشام لم تنم عينه عن الظلم الذي كان يراه .

مات الخليفة الوليد . وصار سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين .

كان سليمان يحب عمر كثيرا ً , ويجلّه ، ولكنه آثر أن يخافه واليا ً ! فكان له أخا ً وصديقا ً ..... وإن زاد .. فَ ناصحا ً . !

اصطحبه مرة لزيارة أحد المعسكرات . ثم سأله سليمان في زهو : ما تقول في هذا الذي ترى يا عمر ؟

وسرعان ما جاءه الجواب كالصاعقة : " أرى دنيا يأكل بعضُها بعضا ً وأنت َ المسؤول عنها والمأخوذ بها " .

بهت الخليفة لهذا الجواب وقال : ما أعجبك !!

أجاب عمر : " بل ما أعجب من عرف الله فعصاه , وعرف الشيطان فاتبعه , وعرف الدنيا فركن إليها . !

ويموت سليمان .. وفي قصة عجيبة ... وبتقدير الله سبحانه تؤول الخلافة لعمر بن عبد العزيز الهارب منها ..

بينما هي تهرب من أولاد عبد الملك الذين تشرئب أعناقهم وقلوبهم إليها .

وعندما سمع اسمه بالخلافة ورجاء بن حيوة يقرأ الوصية كاد يغمى عليه .

دخل المسجد فوجده مليئا ً بالآلاف من الناس فخلع نفسه وقال : " وإني أخلع بيعة من بايعني فاختاروا لأنفسكم "

فانطلقت الحناجر صائحة صادحة : " بل إباك نختار يا أمير المؤمنين " .

فما كان منه إلا أن أجهش بالبكاء .

نحن الآن أمام رجل انقلب انقلابا ً مفاجئا ً . فقد انقلبت المسؤولية التي هرب منها عليه . وصار وجها ً لوجه أمام الاختبار الأعظم والأقوى : الخلافة .

يقول المؤرخون : " ثم بويع عمر بن عبد العزيز فقعد للناس على الأرض " .

لقد حركته منذ اللحظة الأولى تبعات المسؤولية , ولم تحركه روح الخلافة .

لقد أشعره ثقل المسؤولية أن يكون هو بين يدي الناس , وليسوا هم الذين بين يديه ... فكان أن جسّد قعوده على الأرض حقيقة أن السلطة خضوع كامل لحقوق الناس .

يُـتبع ~