"بين الأنانية و العطاء "
سيطرت على الغرب بعد الثورة الفرنسية فلسفات مادية
تدعي أن كل إنسان عليه بأن يهتم بشكل أساسي بمنفعة نفسة ولو على حساب الغير
ومنها ما يعرف بالنفعية
التي انتقلت إلينا كما انتقلت الكثير من القيم الهشة باسم الحضارة !
فأصبحنا نرى من الأنانية ما لم نعهده في مجتمعاتنا العربية
التي طالما كان الكرم فيها صفة
يتغنى بها الشعراء
و يسود بها الأسياد
و تخلد بها الأسماء .
و الأنانية ليست حب الذات إنما هى التمركز حول الذات
بمعنى أن تجعل نفسك هى محور اهتمامك
و ليس الاهتمام هنا من الناحية المادية فقط
و لكن من الناحية النفسيه و العاطفية أيضاً .
وهي في الحقيقة أقصر الطرق للتعاسة .
إذاً فالأنانية نوعان : أنانية مادية و أنانية عاطفية
و ليس بالضرورة أن يكون الشخص الأناني مادياً أناني عاطفياً و لا العكس، و قد يتواجدا معاً فتكون تمام التعاسة .
و الأنانية المادية معروفة للجميع وهى أن يؤثر الإنسان نفسه بكل ما هو طيب من ملذات الدنيا
و يرى دوماً أن من حقه الأفضل و الأطيب و يطمح أن يستكثر دوماً من الخير بكل السبل .
و يصحبها البخل و الطمع و الحسد،
ولا شك أن الإنسان خلق و في طبعه شيء من الأنانية
قال الله تعالى عن الإنسان
" و إنه لحب الخير لشديد "العاديات 8
و قال صلى الله عليه و سلم
"لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنّى أن يكون له واديان ولا يملأ عين بن آدم إلا التراب "صححه الألباني
و لكن شرعنا الحنيف استغل الأنانية الفطرية في الإنسان في ترغيبه في الجنة و الثواب
و أمرنا بمدافعة ما نجده في أنفسنا من حسد أو طمع أو بخل .
و لكن النوع الخفي من الأنانية و هو الأوسع انتشاراً
هو الأنانية العاطفية ،فماذا نعني بها ؟
تجد في الحياة أناساً لا يملون الشكوى ،دائمي البكاء شديدي الحزن
يتهمون من حولهم دوماً بالتقصير في معاملاتهم ، و لا يرون سوى واجبات الناس نحوهم
بل إنهم يطالبون من حولهم بما ليس حقاً عليهم أصلاً .
و إذا نظرت في حالهم وجدتهم لا يهتموا لأمر أحد، و لا يعطون كل ذي حق حقه ،
و هذه الفئة كثيرة تعالوا نتعرف على بعضهم .
هذه فتاة تبكي حالها
فهي ليست مدللة مثل صديقتها فلانة
بل إنها أخت لسبعة إخوة ،أبواها طيبان و لكنهما لا يوصلانها يومياً للمدرسة و يتركوها للباص
ولا ينادونها باسم الدلع !
و تراها بين صديقاتها دوماً حزينة فهن لا يسألن عنها يومياً بالهاتف
و تراها بين إخوتها بائسة ملولة لا يعجبها العجب .
و هذه زوجة حزينة
لأن زوجها ليس رومانسياً لا يغدق عليها كلمات الحب ليل نهار
و تشتاط غضباً إذا ما تفوه بعبارة حنان و تقدير لأمه
و كأن من حقها و حدها هذا الحب و الحنان .
وهذا زوج دائم التقريع لزوجته
لأنها لا تمتلك من فنون الدلال ما تملكه متبرجات التلفاز
و كأنه لابد أن يحصل على كافة المميزات
زوجة على خلق و دين
و كهؤلاء المتبرجات إن لزم الأمر .
و إن كانت أحلام وطموحات هؤلاء مشروعة مثلاً : أن يدللني والدي أكثر
أو أحصل على زوج متيم بي
أو زوجة فنانة في كل شيء .
إلا أنها ليست واجبات على الطرف الآخر
و حتى لو كانت كذلك فإن التفكير الدائم في حقي الضائع
الذي لا أملك أن أغير واقعة لن ينفعني ،
كما أن التفكير الدائم فيما يجب لي و نسيان ما يجب علي
يجعلني إنساناً أنانياً لا أفكر إلا في نفسي .
والسر الكامن وراء تعاسة الأنانيين
هو أن الإنسان خلق بطبعه يسعى وراء هدف متحرككما يقول علماء الإقتصاد
و بذلك فإنه لن يصل أبداً لإشباع تام لرغباته
و هذا كفيل بجعلهم دائمي الحسرة و الأسى .
و على الجانب الآخر
ترى أصحاب المذهب النفعي يقفون عاجزين أمام تفسير ما يغمر الإنسان من سعادة و نشوة حقيقية
كلما أعطى عطاءً ما
نفسياً كان أو مادياً ،
و العطاء هو ضد الأنانية ،
فترى الكريم مشغولاً بمن حوله و بطلباتهم
و كيفية إسعادهم
لدرجة قد ينسى فيها حق نفسه لفرط ما وجده من سعادة بسبب إسعاد الآخرين،
و الكرم هو العطاء المادي المعروف للجميع
و منه إكرام الضيف
و كثرة الصدقات و الهدايا ، وهو يطهر النفس من آفات كثيرة
كالبخل و الطمع و الحسد ، فلما كان الكرم مطهرة للنفس
شرعها الشارع كفارات للذنوب
و زكاة مكتوبة
و صدقات للاستزادة من الخير
فالعبادات شرعت أساساً لترقية النفس
فما يريده الله منا هو القلب
وكما قال عز و جل "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم "حج37
أما عن العطاء العاطفي
فترى صاحبه دوماً مشغولاً بإسعاد من حوله بالكلمة الطيبة
و البسمة الجميلة
و حتى النظرة الحانية ، تجده دوماً رقيق القلب ، يرى من حوله أهلاً للإحسان ،مجاملاً في المناسبات سعيدها و حزينها
سباقاً بالإحسان ،لين الحديث ذو شخصية محبوبة جداً و جذابة .
فإن اجتمع العطاء و الكرم
كان من أوسع طرق السعادة للانسان المعطي نفسه
بل و يتعدى نفعه من حوله فيكون سبباً في إسعادهم ،
و ليس العطاء فقط علاجاً نفسياً ناجحاً لطالما استخدمه الأطباء
ولكن بالفعل اختصر علماء النفس علامات الصحة النفسية في القدرة على العطاء .
فإذا تجاوز الإنسان نفسه و وسع دائرة إهتماماته لتشمل أغلب من حوله
و استطاع أن يتخلص من قيود رغباته اللامتناهية
حاز علاقات اجتماعية من شأنها أن ترفع من معنوياته بشكل عالي
و كان دليلاً واضحاً على تمتعه بشخصية قوية .
وختاماً إلى كل من يغمرها الحزن و الأسى ، أنسي يوماً ما يجب لك
فنحن لن نحاسب على تقصير الآخرين في حقنا
و لكننا سنحاسب على تقصيرنا نحن في حق الآ’خرين .
و إن كانت كل واجباتك على ما يرام ، حاولي أن تنسي همومك يوماً و تهتمي بالآخرين
كأن تعدي بعض الهدايا الجميلة و تذهبي لزيارة أيتام
أو السؤال عن قريبة مسنة مهجورة في العائلة
أو حتى الاستماع لشكوى صديقة
حاولي أن تساعديها في حل مشاكلها و مساندتها في الأوقات العصيبة التي تمر بها ،
و أخبرينا عن نفسيتك بعدها .
و دمتم بصحة و سعادة .
الروابط المفضلة