
موقفُ عابرَ أختزنتهُ بالذاكرة ، لنّ أنساه فقد وقع بالقلبّ عبرة وتذكرة ،
مُنذ حدوثِه والبوح يصر أن يترجمهُ هُنا فيضاً متفجراً من حادثة ذلكِ المساء
الممزوج بكومة فرح عظيم وحزن عابر يبور فأقدارُ الله لنّا خيرٌ رغم مرارتها ستحلو ،
ستعود الحروف حيث ذلك المساء حيثُ كُنتْ أسير فِي خُطوات متَقاربة أتخطف نظرات يمنة ويسرة ،
أبحثُ عن دورة مياه للنَساءْ لأغسلَ يدي لتناول طعام العشاءْ برفقة أحبتِي ،
حتى وقف بِي قدر الله ومشيئته لأشاهدَ مَشهداً لمْ أعهده ،
*
طِفل في الخامسة من عمره أو الرابعة شَدنِي إليه شُعورٌ في دَاخلي يدفعني لمراقبتِه ،
فجسده النحيل أضَعف من أن يستطيع أن يجر عربة التنظيف الثقيلة التِي تفوق حجمه ،
فكان يرجع للخلف ويجري راكضاً لدفعها قليلاً ليصل إلي ليقوم بالتنظيف من بعدي ،
جمدت أطراف جسدي عن الحراك أستعاباً لمَا يقومُ بِه !
وكأنَهُ كتَم أنَفاسَي ولجم لسانِي ،
*
فقال لِي : يا خاله هُناك مَنديلُ لتجففي يَداك ،
لم أرد عليه لإني لمْ أستطيع الحراك فأحضر لِي ذاكَ المنديل وهو يبتسم ،
فطأطأتُ برأسِي وتدنيتُ قليلاً لإشَكرهُ ،
فقال لي : إدعي لي أن ألعب بالكرة مع أمِي !
فرددتُ : ولمّاذا لا تعلبُ بالكرة وأيَن هي والدتكَ ؟!
فقال لي : الكرة تَطلبُ مِني مالاً فأعملُ هنا أنظَف حتى أقبض مالاً فالكرة غالية الثمن وكل شيء بمالَ وأمي ... - فصمتُ خيم عليه -
فشعرتُ أنِي طرحتُ عليه أوجاعاً الجمتَ حزنهَ ،
فقلت لهَ : يَا بُني قُل أمينّ فدعوت له فأبتسم كثيراً ،
وفر مني بعفوية وبراءة قائلا :
الآن يأتي السيد ويُبوخنِي " لماذا لا تعمل بإخلاص سأطردك في المرة القادمة " - بنبرة إستهزاء وضجر -
فراقبتُه قليلاً وتثاقلتُ خطواتِي لأخرج من هنا ،
*
تساؤولات تتساقط في رأسي لماذا يتمنى تلكِ الأمنية وأين هي أمهُ ؟
هل رحلتْ وودعته أم هِي في سفرٍ مُنقطعَ ؟
ماذا لو كَان أبنٌ لِي وقطعة من جسدي ولمحتُ مَصيرهُ هنا في الوقت المتأخر من الليل ؟
ماذا سأصنع ؟ هل سأتركهُ هُنا ؟
وماذا لو كانّ أخٌ لِي صغير ؟
وماذا لو كنتُ أنَا هُو ؟!
*
لربما تألمتْ وهتفتُ : رفقاً ، رفقاً بِضعفه ، رفقاً بطفولتِه ،
تتبعتُ الخطواتْ وكأن مشاعر غريبة تصتنعُ فِي !
وددت حقاً لو ضممتِه بقوة لأنتزع تلك النظرات البائسة !
وددت لو أنتزَعهُ من ذاك المكان غير الملائم لهَ !
تناولت الطعام سريعاً لأعود إليهْ فشيءٌ ما يشدني لأقدم أي شيءْ ،
فعدتُ إليه لإراهٌ يُلاعبُ طفلة مقاربة لسنه فرحاً بأجر عمله ، فأقتبستُ تطفلاً منِي عليهم حديثهُ لها
" سأعطي أمي المال لتشتري تذكرة سفر كي تعود لنا من قبرها ونذهب معاً للجنة "
أراهٌ طِفلٌ يَبكي بصمتْ ويواسي أوجاعهُ بأمنيات باهته ،
أراهٌ طِفل يضيعُ طفولتَه لإرجاعِ شيءٌ لا يقدرٌ بثمن لشيء لا يعود ولا يستبدل ،
لو سمعت أمه صوتَه لصرختْ : رفقاً بطفلي ، ولهمسة بإذنِه صبراً بني فالجنة موعدنا الأجملَ ،
*
وددت أن أفجر كل بكاءاتي لأخبرهُ فقط :
زادكَ وطاعتكَ لله بإذن الله ستمنحكَ تذكرة للعبور للجنة ،
ينتهي المشهد وتتابع مشاهدُ أخرى ،
فذاك طفل يعمل في حمل كومة كبيرة من الطحين والشعير ، لا يقوى جسدهُ على حملها
وذاك طفل يبيع طوال الشتاء بلا راحة وتوقف بلباس لا يقي من البرد ،
فرفقاً بطفلي !
موقف عابرٌ من الحياة
بقلمَ : هَنوف

تعليق