مأساة الأمير (جُم ) الإبن الأصغر للسلطان محمد الفاتح من أكبر المآسي في التاريخ العثماني



بدأت مأساته عندما ارتكب غلطة عمره , في وقفته أمام أخيه الأكبر السلطان بيازيد الثاني , وقف ينازعه السلطة ويعلن العصيان عليه بعد وفاة والدهما السلطان محمد الفاتح .


تقابل الأخوان في معركة بني شهر 1481 م
كسب الأخ الأكبر السلطان بيازيد المعركة .
وهرب الأمير جُم بعد اندحاره إلى مصر .
بعد أشهر ٍ من بقائه في مصر , أدى فريضة َ الحج , ثم ذهب إلى حلب , ومنها إلى تركيا مرة ً أخرى لعلّه يجد أنصارا ً له .. ولكنه لم يفلح , ولم تقبله أية مدينة فيها .
أدرك غلطته الكبيرة .. ولكن ! بعد فوات الأوان ..



أراد الرجوع إلى مصر َ بحرا ً عن طريق جزيرة رودس وبومها ارتكب غلطة عمره الثانية : لأن البحر الأبيض المتوسط كان يعجُّ بالقراصنة , فكان من الخطر على أمير ٍ مثله السفر بحرا ً دون حراسة ٍ كافية ..
وجاءت النتيجة أنْ أسره الفرسان الفرنسيون في عرض البحر ..
ولأنه كان في نظرهم صيدا ًثمينا فقد أتَوا به إلى فرنسا للمساومة عليه , وبيعه إلى الجهة التي تدفع مالا ً أكثر .
وهنا ابتدأت مأساته الحقيقية



أقام في فرنسا إقامة ً جبرية ً مدة ست سنوات : وحيدا ً بعيدا ً عن ابنه وزوجته الذين خلفهما في مصر .
قضى ست سنوات والفرسان الفرنسيون ينقلونه من قلعة إلى أخرى .
وابتدأت أربع دول بالضغط عليهم لتسليمه إليها :
فرنسا . والمجر , والبندقية , ومصر .
لم يستطع الفرسان تحمّل المزيد من الضغوط فأرسلوه . أو بالأحرى باعوه إلى البابا في روما سنة 1489 م

تمّ استقبال الأمير جُم في روما استقبالا ً حاشدا ً .
كان في استقباله ابن الأمبراطور , والكرادلة , ووجهاءُ المدينة , وجموع ٌحاشدة ٌ من الناس جاؤوا ليشاهدوا ابن السلطان محمد الفاتح الذي هز عرش روما .
وخصص قصر ُ سان أنجبلو لإقامته .
ما إن استقر الامير جُم في روما حتى أصبحت روما مركز ثقل ٍ في أوروبا .


في اليوم الثاني لوصول الأمير قام البابا باستقباله ..
استقبله البابا ومن حوله وقوفا ً .
كان البابا قد لبس تاجه وملابس الاستقبال وكأنه يستقبل سلطانا ً .


عندما اقترب الأمير من البابا لاحظ موظف التشريفات أنه لا يبدي أي علامة من علامات التوقير للبابا .
فاقترب منه وهمس في أذنه :
" أيها الأمير المبجل : إن الجميع َ وحتى الأمبراطور يبدون توقيرا ً وتعظيما ً كبيرين للبابا , ويقبلون رجله أو يده . فإن لم تقبل يده فعلى الأقل لو تنحني له عندما تقترب منه "
نزلت كلمات موظف التشريفات كالصاعقة على رأس الأمير ..
نظر بحدّة ٍ إليه .. شعر أنه يمثل السلطان العثماني وآل عثمان . وقال له بلهجة ٍ حازمة :
" إنني لم أنحن ِ إلا لله , ثم لوالدي السلطان محمد الفاتح . لم أنحن ِ لأحد ٍ غيرهما , ولن أنحني . "
ولكن موظف التشريفات لم يكف عن الإلحاح .. بدأ يستعمل أسلوب َ تهدبد ٍ خفي .
نفد صبرُ الأمير فدفع الموظف بيده وهو يقول :
" إنني أرضى بالموت ولكن لا أرضى بالانحناء أمام قسيس ٍ مسيحي .. هذا ذل ٌ لا أرضاه لنفسي "



ولما اقترب من البابا حياهُ تحية ً اعتيادية , وقام البابا باحتضانه وتقبيله , ثم رحّب به بحرارة ..
وكان هذا حسب العادات السائدة آنذاك تبجيلا ً كبيرا .



قلت ُ :
الله أكبر .. هذه هي عزة المسلم الذي يأبى أن يذل إلا لخالقه .
عزة ابن الإسلام وابن السلطان الذي تربى على الكرامة ..
صحيح أنه في موقف ضعف . ولكن القوة الكامنة في قلب المؤمن تجعله فوق كل ضعف وهوان .. إيمان يجعل المؤمن أقوى من قاهره .. ويجعل المغلوب أقوى من غالبه ..

قوة الإيمان هي التي دفعت ابن تيمية ليقول :كلمته المشهورة: "مايصنع أعدائي بي؟!! أنا جنتي وبستاني في صدري أنّى رحت، فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة" .

إن إيمان المسلم , وعزته وإباءه يجعله أقوى حتى من سجانيه وقاتليه .



عاش الامير جُم أيضا ًست سنوات ٍ في روما حتى عام 1495 م . قابل خلالها البابا عدة مرات . وكذلك البابا الجديد الذي خلفه .
ومع أنه كان يملك حرية الدخول والخروج والتجوال إلا أن أيامه كانت أياما ً صعبة .
كان وحيدا ً في بلد ٍ غريب ٍ عنه .... بعيدا ً عن ولده وزوجته ووالدته .
لم يكن له صديق يبثه أحزانه ولواعج فؤاده
كان شاعرا ً ينفُثُ آلام غربته شعرا ً رقيقا ً طافحا ً وجْدا ً وألما ً وحنينا .


وعندما يبلغ به الحزن والضيقُ مبلغه , وتستبد به آلام الوحدة , كان يخرج فيتجوّل في شوارع روما .. فيزور أماكنها التاريخية .....
فإذا شاهد في طريقه عددا ً من البائسين والفقراء حزّ في نفسه فقرُهم وبؤسُهم فيعطف ُ عليهم , وينفحهم ببعض النقود .


وكانوا يراقبونه في أثناء نزهاته وتجواله ...
فرأَوا أنه لا يمر ّ ُبفقير ٍ إلا أعطاه شيئا ًمن النقود
استغربوا هذا التصرف منه : فكيف يكون لمسلمٍ أن يعطف َ على نصراني ؟


قلت ُ :
أنّى لهم أن يفهموا أن ديننا الحنيف يحثنا على حسن الخلق مع كل الناس بالنظر إلى إنسانيتهم أولا ً وليس بالنظرإلى أديانهم أو أشكالهم .
ولأنهم لا يعرفون الإسلام فقدكان التفسير المنطقي لعطف الأمير جُم أن قلبه مال إلى النصرانية !!!!!!!!!



اقتنعوا بهذا التفسير .. ! فأسرعوا إلى البابا يزفون له البشرى ! :
إن الأمير العثماني قد مال إلى النصرانية .. واقترحوا على البابا أن يفاتحه بالأمر ويُيدي ترحيبه بهدايته .. ويبشره بمكافأة كبيرة له , وبمنصب ٍ كبير ٍ إن أعلن على العالم أجمع , ولم يكتف ِ بالتنصر سرا ً .



كرروا هذا على مسمع البابا حتى أقنعوه أن الأمير َ جُم قاب قوسين أو أدنى من النصرانية .
فقرر البابا استدعاءه ومفاتحته بالأمر ولكن على مهل


تم اللقاء بين الأمير والبابا .
كان الأمير يظن أنه لقاء ً عاديا ً كبقية اللقاءات السابقة . باستثناء أن البابا كان يكرمه أكثر من السابق .
وأخيرا ً فاتحه البابا بالأمر . قال :
" يا سمو الامير ! إن رغبت َ جلَبْنا لك أهلك َ من مصر , وكم نفرحُ لو أعلنت َ دخولك في ديننا ,, إذن لَ قلّدناك َ أرفع َمنصب ٍ هنا بين الكرادلة "



كانت مفاجأة لم يتوقعها الأمير .
بقي لحظات ٍ صامتا ً , وقد عقدت الدهشة لسانه .
ولما استفسر عن سبب ظنهم ,, وعرف السبب .
قال للبابا :
" يا حضرة َالبابا ! لو قمتم بإعطائي الدنيا كلها وليس منصب الكاردينالية أو منصب البابوية ! لو قمتم بإعطائي الدنيا كلها لي فلن أبدّل َ ديني أبدا ً ..
إن العطف َ على المسلمين وعلى غير المسلمين أيضا ًأمرٌ من أوامر ديننا ومن آدابه .. نحن لا نفرق في هذا الأمر بين المسلمين وغير المسلمين "

قلت ُ :
رحمه الله ! كم كان قويا ً وعزيزا !

هذا هو المسلم الحق الذي لا تخرجه من دينه أعظم إغراءات الأرض . لا مال ُ ولاجاه ٌ ولا منصب .
هذا هو موقف حبيبنا المصطفى صلوات ربي عليه يتجدد أمامنا حبن عرضت عليه قريش أن تزوجه خيرة بناتها وأن تعطيه الملك والسلطان ويترك هذا الدين فيأتي الجوابُ صاعقةً تحرقهم : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهر أو أهلك دونه ""
يتلمّس الأمير جُم في موقفه موقفَ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم : لاتغره الدنيا ولا زيفها .. لا يغره ذهب الأرض ولا كرسي الملك .. فالدين أولا ً وأخيرا .



دُهِشَ البابا من كلام الأمير جُم واعتذر منه , وهنّأه على ثباته على دينه وعلى قوة عقيدته .


هذا ماكان من أمر الأمير مع البابا .



أما نهاية هذا الأمير البائس المحزنة فكانت :

عندما دخل ملك فرنسا ( جارلس الثامن ) إيطاليا طالب البابا بتسليم الأمير العثماني إليه . ولم يستطع البابا التمنع فَ سلّمه الأمير
ولكن !!
لكي لا يكون الأمير ُ أداة ً بيد فرنسا ,, فقد دس َّ له السم .
وهكذا مات هذا الامير البائس في عام 1495 م بعد وصوله مع ملك فرنسا من روما إلى نابولي . حيث دُفِن َ هناك .



أُعلِن الحداد في عاصمة الدولة العثمانية لمدة ثلاثة أيام بعد وصول نبإ الوفاة .
وأقيمت عليه صلاة الميت للغائب .. وتُلي َ القرآن الكريم على روحه , ووزعَت الصدقات على الفقراء والمساكين .

وبعد أربع سنوات نُقِل َ جثمانه من نابولي إلى تركيا حيث دُفِن َ في مدينة بورصة .



وبذلك أُسدِل َ الستار ُ على مأساة أمير ٍ عثماني شاب .
كان عمره عند وفاته 35 سنة وثلاثة أشهر .
قضى في الغربة منها أكثر من أربع عشرة سنة .

رحمه الله .. وعوضه في جناته .