خلق الله لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، غير أن هذه العِشرة الطويلة بين الأنفس، قد تعتريها صعوبات، وتنغص على صفوها مشكلات الحياة وضغوطاتها، وعدم تفهم البعض لمشاعر شريك الحياة، وللوسائل المعينة على التقارب والتراحم.



وتشير الأبحاث والدراسات الاجتماعية المعاصرة إلى غياب مفاهيم أخلاقية وسلوكية كثيرة في تعامل الزوجين مع بعضهما البعض، وغياب مراعاة الله والاحترام المتبادل بين الزوجين، حتى صار "السكين" و"الأسلحة الحادة" هي الوسائل العملية في النقاش بينهما، وشهدت محاضر الشرطة، وصفحات الجرائد مشاهد كثيرة، هي في واقع الأمر أدلة على انتشار "العقوق بين الزوجين".

ولكن، الوضع يختلف إذا ما تدبر الزوجان في بداية حياتهما الزوجية، واتفقا على أن يكون التدين حبل الله المتين الذين يقرب بينهما، ويحمي الأسرة من شر التشرذم، ويرمم الود إذا ما غاب الحب، ويوجب الاحترام إذا ما تحتم الخلاف.



وتؤكد على قيمة حسن الخلق والتدين في جلب السعادة الزوجية؛ تلك البيوت التي طرقنا أبوابها، لنستقي منها نماذج في البر والرحمة، فقد وجدناها عامرة بذكر الرحمن، هادئة بآداب القرآن، تقف أمام الأزمات صامدة صمود الشجعان.

فقد وضع الكثير من الأزواج والزوجات؛ حسن الخلق والبر أمام عينيه قبل بداية الشراكة الزوجية. فاتفقت إيمان حسين مع زوجها د. مجدي وهبي- مصريان- قبل الزواج على منهج رباني في بناء الأسرة؛ لكي تعيش أسرتهم في سعادة حقيقية، وأن يتقي كل منهما الله في الآخر، ويلتزمان الوضوح والصراحة في كل الأحوال؛ من منطلق أن الصدق صفة من صفات المسلم.



الصبر على البلاء

وللإيمان دور هام في الرضا والصبر على البلاء بين الأزواج، وهو ما تمثله قصة طاما ـ مغربية ـ التي ابتلى الله تعالى زوجها بمرض بدا في أول وهلة مرضا طارئا، إلا أنه كان أخطر من ذلك بكثير؛ إنه السل القاتل.

ولكنها اعتبرت مرض زوجها ابتلاء وتمحيصا من الله، وعكفت على خدمته متفائلة بعودته إلى البيت ذات يوم معافى، غير أن الله عز وجل اختار للزوج نهاية أخرى، فقد توفاه الله وهو راضٍ عن زوجته؛ لما قامت به من بر عجيب نحوه، وما زالت بارة له حتى بعد موته.

وقد تعرضت زوجة أحمد ـ من المغرب ـ لحادثة، أدت إلى قطع رجلها، وإصابتها بشلل نصفي أقعدها بالفراش. فاحتسب ذلك لله وصبر؛ وعزم الزوج على أن يكون لها نعم الأب والزوج والأخ، وشمر عن ساعد الجد، وصار قائما بكل أغراض البيت.

وعندما يُسأل عن ذلك؛ كان الزوج البار يرد عن فوره: "إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم، العبرة والمثل، فقد كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، وكان في خدمة أهل بيته...".

وظل أحمد وفيا لزوجته المقعدة؛ إلى أن شاء الله أن تتشافى بعد عرضها على أطباء في فرنسا، وقد ابتاع كل ما يملك من أجل شفائها، ليضرب لنا بذلك أروع المثل، ويعزف لنا لحن الوفاء.



إصلاح بالإيمان

وقد يصلح بر أحد الزوجين سوء خلق الآخر، وهو ما تدلل عليه قصة خديجة – من المغرب-، فتذكر أن زوجها كان يعاملها معاملة سيئة، وكان رجلا سكيراً يكيل لها السباب والشتائم، ولا يحترم مشاعرها ولا مشاعر طفلتهما، وكانت تستعين في مواجهة ذلك بالدعاء والصبر.

وبعد أن مرت الأيام والشهور على هذا المنوال، تورط الزوج مظلوما في قضية جنائية، ولم تلقِ خديجة بالا لما يقال عنه، ولا بتحريض صديقاتها على طلب الطلاق والخلاص منه، بل وقفت بجواره، وكانت تزوره في السجن، وتحمل معها الأكل كما تحمل مشاعرها الرقيقة، وكانت نتيجة هذا البر بعد خروجه من السجن؛ أن حمل جميلها وبرها وأحسن معاملتها.

وفي نموذج الصبر على الزوجة سيئة الخلق؛ يضرب لنا "م. ع " - مصري- أروع مثال؛ لأنه تزوج من زوجة لا تصبر على الشدائد، وتنظر لما في يد غيرها، وكانت تكذب ولا تقدر ضغوط الحياة، وقد عاملها وفق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر".

وقد تعودت "دلال" – فلسطينية- على الحياة المرفهة في بيت أهلها، وظلت تنعم بالرفاهية في أولى أعوام زواجها، إلى أن فقد الزوج عمله، وشرع في البحث عن عملٍ آخر. وبرغم صعوبة الوضع الجديد؛ فقد منعها خُلقها ودينها من الشكوى، وابتغت مرضاة الله فصبرت، وما تزال صابرة، تعيش مع زوجها وأبنائها على القليل.

كما قرب الدين بين قلب مهند – فلسطيني- وزوجته؛ بعدما كادت تستحيل الحياة بينهما في بداية الزواج، ولكن ميثاق الله الغليظ قد عضد من علاقتهما، ووقف بالمرصاد أمام همزات الشيطان، حتى عادت سفينة الحب إلى شط الأمان.



التدين.. ضمان


حول أهمية التدين في نجاح الزواج؛ يشير د. محمد علي الزغول- عميد كلية الشريعة بجامعة مؤتة بالأردن- إلى أن هناك قاعدة أثبتتها الحياة وهي أن: "التدين ضمانة السعادة الزوجية". إذ يجلب الدينُ السكينة؛ يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

ويشير الزغول إلى نجاح العلاقات الزوجية التي يحكمها حسن الخلق، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم"، موضحاً أن حسن الخلق له أيادٍ على العلاقات الزوجية، وصاحب الخلق إذا كره من زوجته خلقا، رضي منها آخر.

ويزخر التاريخ الإسلامي بنماذج خالدة لبر الزوجين، وهذا ما ذكره د. الزغول عن قصة الصحابية التي مرض أبوها، وكانت تريد استئذان زوجها لزيارة أبيها؛ ولكنه لم يكن موجودا.

ورغم أنها علمت أن المرض قد اشتد بأبيها، لكنها لم تخرج لأن زوجها غير موجود ولم يأذن لها، فبلغها بعد ذلك أن والدها قد توفى -رغم جواز خروجها شرعا- فكان هذا من باب البر بالزوج.

ويقص د. الزغول قصة الصحابية أم طلحة الأنصارية؛ فعن ثابت، عن أنس. قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم. فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه. قال فجاء فقربت إليه عشاء. فأكل وشرب. فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك. فوقع بها.

فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. قال فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني! فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبره بما كان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكما في غابر ليلتكما". (صحيح مسلم).

ويصف د. الزغول "روشتة" الأخلاق الصالحة التي ينبغي أن يتعامل بها الزوج في التعامل مع شريك حياته:

1 – التناصح: فإذا رأى أحدهما من الآخر سلوكا غير مناسب؛ فعليه أن ينصح الطرف الآخر ويذكره بما ينبغي أن يكون عليه المسلم في البيت المسلم.

2 - محاولة إظهار المحاسن الفردية للطرف الآخر: ومن ذلك تحذير أم لابنتها عند زواجها، من أن تقع عينيه على قبيح.

3 - تقويم السلوك بشكل لطيف: فإذا بدر من الزوج أمورا تسوء المرأة؛ لا بد أن تحاول أن تقومه، والعكس صحيح.

4 - النظر إلى العلاقة الزوجية على أنها شراكة وليس تمكينا: بمعنى أن يكون هناك تحديد من الذي يقود الأسرة. والتدين يقتضي أن يكون هناك مجال واسع في مبادلة القيادة والمشاركة فيها؛ لأن الرسول لم يكن مع أهل بيته مستبدا برأيه.



خشية الله.. اللبنة الأولى

ويلتقط أطراف الحديث د. أحمد العسال- مستشار رئيس الجامعة الإسلامية بباكستان؛ موضحا أن خشية الله عز وجل يجب أن تكون في قلب الزوجين، وتظهر في التعاملات بينهما؛ لأن الإنسان إذا خشي الله استقام، وحافظ على حقوق من معه، فعن مُعَاذٍ "أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ أو أَيْنَمَا كُنْتَ. قَالَ زِدْنِي قَالَ: أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا. قَالَ زِدْنِي. قَالَ: خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".

وينبه د. العسال إلى عدد من الصفات التي ذكرها القرآن الكريم حتى يكون الزوج- أو الزوجة- على خلق قويم مع شريك حياته، أولها الاهتمام بتكامل الشخصية، وتنمية السلوك الإيماني، ومراعاة الله في الكلمة والنظرة، وتحقيق صفة المؤمنين في قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

ولا تخلو الرؤية الإسلامية من مقومات أساسية للبيت المسلم الناجح، وفي هذا يبين د. العسال أن أهمها: قيام الزوجين برعاية البيت ماديا ومعنويا؛ من خلال المودة والرحمة المتبادلة، وأن تكون هناك نوع من الشراكة بينهما لسد احتياجات البيت.

كما يعد التدين سياج أمان بين الزوجين ضد تطور الخلاف بينهما؛ حيث يؤكد د. العسال أن المؤمن الصادق دائما يغفر السيئة ويعفو عن المظلمة، وبالتالي في نطاق الزوجية يصفح سريعا، وينهي خلافاته بشكل يرضي الله ورسوله.



حب الله كفيل

وتعرفنا د. سهير عبد العزيز- عميدة كلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر سابقا- على أثر التدين في الحياة الزوجية؛ مبينة أن الإيمان بالله يكسب الإنسان إنسانية التعامل مع الآخرين، ويوجه علاقاته معهم، ومنها العلاقة الزوجية. إذ تقوم علاقة المؤمن مع شريك حياته على الأخلاق العليا؛ والتي تزيد من المحبة والقرب بين الطرفين.

وتذكر د. سهير أن بريق المودة والرحمة الذي قد ينطفئ مع التعود والعشرة، ما يلبث أن يتجدد مع الأزواج المتدينين؛ لأن الطامع في رضا الله لا يسيء إلى شريك حياته. وهناك بعض الدراسات التي أثبتت استقرار الأسر التي يحفها الإيمان؛ عن الأسر التي يسكنها الشيطان. فالحب في الله كفيل بحفظ علاقتنا مع أهلينا وذوينا، والقلب الذي يسكنه الحب، لا يقبل الخصام، ولا يرضى للمحبين الهجر أو القسوة".


منقووووول