محاضرة
خصوصية اللهجة العراقية.
قدمت في مؤتمر اللغة العربية (جامعة دي بول) في شيكاغو ١٣ حزيران ٠٨
٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٨ ، بقلم محمود سعيد
الحية والخلود
يعتقد كثير من العراقيين حتى الآن بأن الحية لا تموت. وأنها تغير جلدها بدل الموت، وأن من يريد قتلها يجب عليه أن يسحق رأسها وإلا نمت من جديد وعادت فانتقمت منه. والتقيت شاعراً هندياً في دبي سنة 1995 أكد وجود الأسطورة نفسها عن الحية في الهند. ولست أدري إن كان هناك شعوب أخرى تقول بذلك أم لا. فمن أين جاءت الأسطورة؟
جاءت الأسطورة من ملحمة الخليقة السومرية المعروفة بملحمة كلكامش. أو قلقميش كما يصر بعض دارسي الآثار على تسميتها. فقد دفع الحزن قلقميش على البحث عن سر الحياة بعد رؤية صديقه أنكيدو يموت أمام عينيه من دون أن يستطيع تقديم العون إليه. فقرر أن يبحث عن سرّ الحياة ليجنّب الأحبة الفناء. ترك ملكه وعزه وسافر وتعب وجاع وكاد يموت عدة مرات فأثار عطف الآلهة فدلّته على مكان عشبة الخلود، وحينما غطس واقتلع العشبة من قاع الهور، وخرج تعباً أدركه النعاس، فغفا. ثم استيقظ على صوت غريب، وعندما فتح عينيه شاهد الأفعى تلتهم عشبة الخلود وتهرب. ولذا أصبحت الأفعى خالدة لا تموت، وربما دعا ذلك الأطباء ليبحثوا في سمّها عن دواء يشفي من الفناء العاجل فتوصلوا إلى استخلاص ترياق من ذلك السمّ القاتل يشفي بعض الأمراض وبذلك حققوا شيئاً من معنى الأسطورة فتركوا علامتها لتدل على الدواء الشافي وعلقوه على محلات الصيدليات في جميع أنحاء العالم، ليكون شاهداً على فاعلية الأسطورة البابلية الخالد. مضى على هذه الأسطورة أكثر من سبعة آلاف عام، لكن بعض العراقيين ما زالوا متمسكين بها. فلماذا؟
فرقة أم علي البصرية.
من أبرز وأثمن الآثار السومرية في المتحف العراقي قيثارة من العاج يعلوها رأس ثور من الذهب مطعماً بالأحجار الكريمة، ولست أدري أسرق هذا الأثر بعد الاحتلال أم لا. وفي السبعينات من القرن الفارط شاهدت فرقة أم علي الشعبية الرائعة، وكنت آنئذ في البصرة، وفرقتها متكونة من مجموعة من النساء يغطين وجوههن بأقنعة أشبه بأقنعة المصارعين في الولايات المتحدة، فلا يبدو من وجه عضو الفرقة الغنائية سوى العينين وأرنبة الأنف والفم وهذا هو المهم لأن الفرقة غنائية. لكن الملاحظ أن أهم آلة عزف عند فرقة أم علي الشعبية الغنائية هي القيثارة. وعندما أمعنت النظر فيها رأيتها نسخة مشوهة عن الأصل السومري، إذ لم تكن من العاج، كما لم يكن رأس الثور من الذهب. كانت كلها من الخشب المصبوغ بألوان فاقعة زاهية. ثم وفق الله أم علي فانتقلت إلى الكويت، تفرعت من هناك إلى بضعة أفرع شملت معظم دول الخليج. وفي التسعينات رأيت في دبي فرقة شعبية عراقية ربما تكون هي فرقة أم علي أو إحدى أفرعها. ولم أفاجأ حينما رأيت القيثارة السومرية نفسها مازالت أبرز آلات أم علي الموسيقية.
فكيف واصلت الفرق الشعبية العراقية إبقاء آلة موسيقية مستعملة مدة سبعة آلاف سنة بينما تخلت الفرق الموسيقية المحلية الرسمية عن تلك الآلة، ونبذتها، ولم تعترف بها قط؟ فاحترمها الغربيون واقتبسوها وطوّروها وجعلوا منها أحجاما عدة كالكيتار والهارب وو. ودربوا الكثير على العزف بها فبرح بها خبراء موسيقيون فيها يشار إليه بالبنان. لم أستطيع أن أجد أي تفسير لهذا السلوك العدواني لرمز من رموز حضارتنا القديم.
يتبع
الروابط المفضلة