لقراءة الموضوع بالألوان تفضل هنا ...
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا سؤال سأله الإمام ابن القيم للإمام ابن تيمية رحمهما الله حول حديث ( اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) , وإليكم السؤال والجواب عليه .
----
سألت - أي ابن القيم - شيخَ الإسلام(1) عن معنى دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم ( اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) .
كيف يطهر الخطايا بذلك ؟ وما فائدة التخيصيص بذلك ؟ وقوله في لفظ آخر ( والماء البارد ) والحار أبلغ في الإنقاء ؟
فقال : الخطايا توجب للقلب حرارةً ونجاسةً وضعفاً , فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه , فإن الخطايا والذنوب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه , والماءُ يَغْسِلُ الخبثُ ويطفئُ النارَ , فإن كان بارداً أورث الجسم صلابةً وقوة , فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته , فكان أذهب لأثر الخطايا . هذا معنى كلامه وهو محتاج إلى مزيد من الشرح .
فاعلم أن ههنا أربعة أمور : أمران حسيان , وأمران معنويان : فالنجاسةُ التي تزولُ بالماء هي ومزيلها حسيان , وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان , وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا . قذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل شطرٍ قسماً نبه به على القسم الآخر . فتضمن كلامه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار , وحسن البيان .كما في حديث الدعاء بعد الوضوء ( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين )
فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة : ومن كمال بيانه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم , وتحقيقه لما يخبر به , ويأمر به : تمثيله الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس . وهذا كثير في كلامه كقوله في حديث علي بن أبي طالب (سل الله الهدى والسداد . واذكر بالهدى هدايتك الطريق , وبالسداد سداد السهم )
هذا من أبلغ التعليم والنصح , حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلأى الطريق رضاه وجنته : كونه مسافراً , وقد ضل الطريق وفلا يدري أين يتوجه , فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها , فسأله أن يدله على الطريق , فهكذا شأن الطريق الآخرة تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر , وحاجة المسافر إلى الله سبحانه وتعالى : إلى أن يهديه تلك الطريق , أعظم من حاجة المسافر إلأى بلد من يدله على الطريق الموصل إليها . وكذلك السداد , وهو إصابة القصد قولاً وعملاً , فمثله مثل رامي السهم , إذا وقع سهمه في نفسالشيء الذي رماه , فقد سدد سهمه وأصاب ولم يقع باطلاً فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه , وكثيراً ما يقرن في القرآن هذا وهذا , فمنه قوله تتعالى ( ...وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ...)البقرة197
أمر الحاج بأن يتزودوا لسفرهم , ولا يسافروا بغير زاد , ثم نبههم على زاد سفر الآخرة , وهو التقوى . فكما أنه لايصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه , فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزادٍ من التقوى , فجمع بين الزادين ومنه قوله تعالى ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ... )الأعراف26.
فجمع بين الزينتين " زينة البدن باللباس , زينة القلب بالتقوى , زينة الظاهر والباطن , وكمال الظاهر والباطن . ومنه قوله تعالى ( ...فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى )طه123 .
فنفى عنه الضلال , الذي هو عذاب القلب والروح , والشقاء الذي هو عذاب البدن والروح أيضاً , فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح , ومنه قوله امرأة العزيزِ عن يوسف عليه السلام لما أرته النسوة اللائمات لها في حبه (...فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ...يوسف32 , فأرتهن جماله الظاهر . ثم قالت (...وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَِ ...يوسف32
فأخبرت عن جماله الباطن بعفته , فأخبرتهن بجمال باطنه , وأرتهن جمال ظاهره فنبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله ( اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) .
على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما وببردهما ويقويهما , وضتمن دعاؤه شؤال هذا وهذا . والله تعالى أعلم
وقريب من هذا : أنه صلى الله تعالى وآله وسلم ( كان إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك ) .
وفي هذا من السر والله أعلم . أن النجو يُثقل البدن ويؤذيه باحتباسه , والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسهما فيه , فهما مؤذيان مضران للبدن والقلب , فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه , وخفة البدن وراحته , وسأل أن يخصله من المؤذي الآخر ويريح قلبه ويخففه .
وأسرار كلماته وأدعيته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فوق ما يخطر بالبال (2) .
-------------
(1) هو أحمد بم عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني شيخ الإمام ابن قيم الجوزية .
(2) من كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ج1 ص52-54
والسلام عليكم ورحمة الله
الروابط المفضلة