15
طوال الأيام الباقية فى المهلة التى حددوها لى .. لم يبد على أمى أى تغيير .. لقد كانت متماسكة وتدفعنى دفعاً لتجهيز نفسى وحقائبى وكل ما سأصطحبه معى فى رحلة المجهول هذه .. لقد فاجأتنى حقاً .. لم أتخيل أنها ستتخذ هذا الموقف القوى فى مواجهة تلك التغييرات الجذرية فى حياتنا .. لا أصدق أنها بتلك القوة .. لقد ظننت طوال عمرى أننى أشبهها بالتأكيد وكنت أُرجع ضعفى فى مواجهة الآخرين لكونها وراثة منها .. ربما لكونى لا أذكر أبى كثيراً .. فقد توفاه الله وأنا صغيرة جداً .. وتكفلت أمى بتربيتى وحدها .. لقد واجهت الحياة وحيدة .. فكيف ظننتها ضعيفة .. يالى من حمقاء
تتوالى الوفود من الجيران وأهل الحى لتوديعى قبل السفر .. إن لى شعبية كاسحة بينهم دون شك .. وهم يحبوننى بصدق .. ترى هل سأقابل مثل تلك القلوب الطيبة هناك؟ .. لا أدرى لم أظن أن الطيبون قد جمعوهم جميعاً فى حيّنا بينما ينتشر الأشرار وخبيثى النفوس خارجه .. تفكير طفولى بحت .. حيث يتمثل الأمان فى البيت فقط .. بينما تنتظرنا كل الأشياء المخيفة ما أن نخطو بضعة خطوات إلى الخارج .. يبدو أننى لم أنضج بعد وأحتاج إلى من يدفعنى لأكبر وأنفصل عن تلك الطفلة التى تسكننى
ودعت إحدى الجارات على عتبة بيتنا وما أن ابتعدت حتى ظهر وجه حنين وهى تبتسم لى وتلوح بيدها
- حنين .. تعال يا حبيبتى
تعلقت برقبتى بيد واحدة وهى تقبلنى وتمسك بحرص علبة بيدها الأخرى
دعوتها للداخل وجلست معها فقد اشتقت للحديث معها
- كيف حالكِ يا حنين؟
- الحمد لله يا طنط فاتن .. وأنتِ؟
- أنا .... نعم أنا بخير حبيبتى
- هل ستسافرين غداً؟
- نعم سأسافر
- سأشتاق إليكِ
- وأنا أيضاً
مدت يدها بالعلبة نحوى وهى تبتسم
- ما هذه؟
- إنها هدية
نظرت لها فهزت رأسها وهى تدفع بالهدية بين يدى .. فتحتها ووجدت أنها لعبة موسيقية ما أن تفتح العلبة حتى تخرج منها دمية رقيقة ترقص على النغمات التى تخرج من العلبة
- إنها جميلة جداً
- حتى تذكرينى بها
- وهل يمكن أن أنساكِ يا حنين أنتِ صديقتى
- وأنتِ صديقتى أيضا
نظرت نحوها قليلا ثم توجهت لحجرتى وأنا أخبرها أن تنتظرنى .. ثم عدت لى وأنا أحمل عروستى المفضلة التى تلازمنى منذ طفولتى وأعطيتها لها
- تفضلى يا حنين
- ما هذه؟
- إنها هدية لكِ
- لى أنا .. لماذا؟
- حتى تذكرينى بها
ضحكت فى سعادة وهى تحتضن العروسة المكتنزة وتقول
- شكراً لكِ
قلت لها مداعبة
- انظرى كم أن عروستى مكتنزة وسمينة .. ودميتكِ تلك رشيقة ورقيقة جداً .. هل تريدين إثارة غيظى بتلك الدمية
- ربما عندما تكبر ستكون ...
- لا يا حنين لا أريدها أن تكون سمينة .. لن يمكنها الرقص على نغمات اللعبة مرة أخرى .. ستشعر بالخجل من نفسها كثيراً .. لن ترقص ثانية أبدا
- حسناً لن تكون سمينة
- هذا أفضل
قامت ومنحتنى حضن كبير وهى تقول
- سأفتقدكِ كثيراً
- وأنا أيضاً يا حنين
أوصلتها للباب وقبل أن تذهب استوقفتها
- حنين .. لا تنس زيارة أمى من وقت لآخر
- بالطبع .. لا تقلقى
لوّحت لها بيدى وأغلقت الباب .. حسنا لابد لى من النوم مبكراً كما فعلت أمى .. فلدى يوم طويل فى الغد .. نظرت بمقت لحقائب السفر التى تنتصب بجوار فراشى .. وتوجهت للحمام الذى يجاور غرفة أمى الموصدة .. كان من الممكن أن أصدق كل شىء تفعله أمى لو لم أسمع نحيبها الخافت من خلف الباب .. عدت لغرفتى واستلقيت فى فراشى وشاركتها وجبتنا الأخيرة من الدموع .. تلك التى تتناولها كلاً منا سراً وحدها
يُتبع
إن شاء الله
الروابط المفضلة