العهدة العمرية والفتح العمري
يقول الله عز من قائل: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [8] .التوبة
يا بن الخطاب ..
العهدة ما زالت تلهب نبض خلايانا
تتساقط أنجمها شهبا .. تتخلق فى كينونتنا
تبعث أشلاء ضحايانا
تتشظى أحرفها ..
تتناثر فوق رماد بقايانا
رحلتنا معكم اليوم ليست كأي رحلة وليست كأي جولة، إنها رحلة الأمنيات والتكبيرات والفتوحات،
وجولة تزدهي بعزة الإسلام ورفعة المسلمين وسماحة الدين وتواضع القائد العظيم،
فيها من الدروس والعبر الكثيرة، وفيها من مكارم الأخلاق الرفيعة.
إنها رحلة فتح بيت المقدس نصحبكم فيها معنا في جولة تاريخية بهية رائعة تنجلى فيها طبيعة العلاقة بين المسلمين والنصارى
في بيت المقدس وتترسخ من خلالها لدينا تلك الحقبة التاريخية القوية التي عاشتها القدس في ظل الإسلام ومع المسلمين.
كيف فتحت القدس وبيت المقدس ؟
أوعز عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد فتح الشام إلى أبي عبيدة أن يزحف إلى القدس ، فلبى أبو عبيدة أمر الخليفة،
واستدعى سبعة مقاديم الجيش ، فعقد لكل منهم راية ، ضاماً إليه خمسة آلاف مقاتل ، وأمرهم بالمسير إلى البيت المقدس . ولما وصل أبو عبيدة إلى الأردن،
بعث الرسل إلى أهل "إيلياء" ، وبعث معهم برقية لأهلها في عام 15هـ – 636 م .
وأمر جيشه بالمسير إلى البيت المقدس ، فحاصروها شهوراً إلى أن تقدم مسؤول المدينة البطريرك "طفرونيوس" بنداء للمسلمين
يعلن فيه استعداده لتسليم المدينة على شرط حضور خليفة المسلمين لتسليم مفاتيحها وذلك لعلم النصارى بصفات الرجل الذي سيفتحها ،
وفعلاً دخلها الفاروق سنة 15 هـ فاتحاً بعد توقيع الاتفاقية المعروفة بالعهدة العمرية.
كيف تمت العهدة العمرية؟
بعد أن أدرك النصارى في بيت المقدس أن لا مَفَرَّ من التسليم طلبوا من أبي عبيدة بن الجراح أن يصالحهم على مثل ما صالح أهل مدن الشام،
وأن يكون المتولي للعقد معهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نفسه فأجابهم، وأعطاهم الأمان بما تسمى بالعهدة العمرية والتي فيها :
"هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم .....".
استخلف عمر عليا بن أبي طالب على المدينة وخرج زاهدا متقشفا على بعير أحمر ، وخرج معه نفر من الصحابة.
وأخيرا لقد حضر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب للمدينة المقدسة.
كان الفاروق امير المؤمنين عمر رضي الله عنه يلبس مرقعة من صوف فيها 14 رقعة جزء منها من أدم الجلد وركب بعيره .
فأشار عليه المسلمون تبديل بعيره بجواد ولبس اللباس الأبيض ففعل ثم عاد وطلب منهم لباسه القديم .
وعندما قارب على الوصول إلى المدينة المقدسة قال : " اللهم افتح لنا فتحا يسيرا ، وأجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا " [16] .
وعند وصوله إلى موقع أبي عبيدة نصبت له خيمة من شعر وجلس فيها على التراب فصلى أربع ركعات ، وعند وصوله هتف المسلمون بصوت عال ،
فجلجلت ضجة عظيمة جنبات بيت المقدس سمعها أهل المدينة المقدسة . وفي اليوم التالي طلب عمر من أبي عبيدة التقدم للقوم في المدينة المقدسة
داخل أسوار لإعلامهم بمجيء الخليفة أمير المؤمنين . فاتفق القوم على خروج الخليفة المسلم عمر بن الخطاب للبطرق ، فخرج عمر رضي الله عنه على بعيره
لابسا مرقعة من صوف معصبا رأسه بعباءة قطوانية ، ومعه أبو عبيده فقط حيث اقترب من سور المدينة ووقف بجانبه ، فنظر إليه البطرق فعرفه ،
وقال لأهل المدينة المقدسة : اعقدوا معه الأمان والذمة ، هذا والله صاحب محمد بن عبد الله ، ففتحوا الباب ، وخرجوا إلى عمر يسألونه العهد والميثاق والذمة ،
فلما رأى ذلك الخليفة عمر خر ساجدا لله تعالى على قتب بعيره ، ونزل إليهم قائلا : ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة والعهد إذا سألتم ذلك ووافقتم على الجزية ،
فعاد القوم إلى المدينة ولم يقفلوا أبواب السور وعاد عمر إلى معسكر جيش المسلمين . وفي اليوم التالي دخل الخليفة عمر المدينة المقدسة.
وأقام عمر رضي الله عنه في بيت المقدس أياماً خطب خلالها في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ،
وصلى على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال : ( يا أهل الإسلام ، إن الله تعالى قد صَدَقَكُمُ الوعدَ، ونصركم على الأعداء،
وَوَرَّثكم البلاد، ومكن لكم في الأرض، فلا يكونَنَّ جزاؤُه منكم إلا الشكر ، وإياكم والعمل بالمعاصي ، فإن العمل بالمعاصي كفر النعم .
وقلما كفر قومٌ بما أنعم الله عليهم ثم لم يَفْزَعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزهم ، وسلط عليهم عدوَّهم ) .
ثم نزل وحضرت الصلاة، فقال : يا بلال ألا تؤذنُ لنا رحمك الله ؟ قال بلال : يا أمير المؤمنين، والله ما أردت أن أؤذن لأحد
بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم، ولك سأطيعك إذا أمرتني في الصلاة وحدها.
فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته ذكروا نبيهم – صلى الله عليه وسلم – فبكوا بكاءً شديداً،
ولم يكن من المسلمين يومئذ أطول بكاءً من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل ، حتى قال لهما عمر: حسبكما رحمكما الله.
فلما قضى صلاته انصرف أمير المؤمنين راجعاً إلى المدينة واجتهد فيما هو بصدده من إقامة شعائر الإسلام،
والنظر في مصالح المسلمين، والجهاد في سبيل الله.
نص الوثيقة العمرية:
في ظلال الوثيقة العمرية:
للوثيقة العمرية التي أعطاها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – لسكان القدس وبيت المقدس من النصارى معان جليلة :
أولا : القدس بما فيها بيت المقدس فتحت صلحا ولم تفتتح عنوة ، وهذا ما يدحض زعم المستشرقين القائلين بأن الإسلام انتشر بحد السيف .
ثانيا : حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - على الاستجابة لقبول الصلح ، وأبرم الصلح بنفسه بعد أن سافر
من المدينة المنورة إلى فلسطين من أجل إتمام هذا الصلح .
ثالثا : ترك لهم الحرية بأنه من أحب أن يبقى على دينه ويرحل فعلى المسلمين أن يُبلغوه مَأمنه دون غدر أو خيانة ،
أما من كان من غير أهل القدس فقد تركت له هذه العهدة حرية الاختيار بين البقاء أو الرحيل عنها.
رابعا: أمَّنَ أميرُ المؤمنين أهـل القدس على أنفسهم ، وأعراضهم ، وأموالهم ، وممتلكاتهم ، ومنع التعدي على أي من ذلك ،
وأن يُعْطُوا الجزية نظير بقائهم على دينهم ، وحماية المسلمين لهم .
خامسا : منعت العهدة أن يسكن مع أهل القدس من النصارى أحد من اليهود .
سادسا : منعت العهدة أن يسكن مع أهل القدس من النصارى أحد من اليهود ، وذلك نزولاً عند رغبة النصارى ،
لتطهر من خبث اليهود ، وتلك دلالة صارخة على كره أمم الأرض لليهود .
سابعا : الإسلام وإن كان دين سماحة ، لكنه دين عزة وقوة دون ضعف وخور ، وبالتالي يُعْلَمُ أن الشروط السابقة
باقية محترمة ما دام أهل الذمة ملتزمون بشروط المسلمين ( إذا أُعطوا الذي عليهم من الجزية ) فإن منعوها شُرع قتالهم .
ثامنا : شهد على الوثيقة صحابةٌ أجلاء ، رفعوا راية التوحيد على أول قبلة للمسلمين،
وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال .
الروابط المفضلة