* الدليل الرابع :
الرسول عليه السلام يسمح للنساء بالزواج بعد وفاة أزواجهن ، وهو لا يسمح بما هو مناقض لخلق الوفاء :-
( عن ابن شهاب قال ... أن سبيعة بنت الحارث أخبرته : أنها كانت تحت سعد بن خولة ... وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك ، رجل من بني عبد الدار ، فقال لها : ما لي أراك مُتَجمّلة ؟ لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزوج إن بدا لي . قال ابن شهاب : فلا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وان كانت في دمها ، غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر ) صحيح مسلم – كتاب الطلاق – باب انقضاء عدة المتوفي عنها زوجها . وصحيح البخاري – كتاب المغازي – باب 10 ، 3991 .
- تنشب : تلبث . - تعلت : طهرت . حللت : أكملت العدة . لا يقربها : لا يجامعها .
وفي رواية أخرى لمسلم : ( ... أن أمّ سلمة قالت : إن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال ، وإنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج ) كتاب الطلاق – باب انقضاء عدة المتوفي عنها زوجها وغيرها بوضع .
وفي رواية للبخاري : ( ... فمكثت قريبا من عشر ليال ثم جاءت الني صلى الله عليه وسلم فقال : انكحي ) صحيح البخاري – كتاب الطلاق – باب وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ، " 5318 " .
وفي رواية الموطأ تقول أمّ سلمة ، رضي الله عنها : ( ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد حللت فانكحي من شئت ) موطأ مالك – كتاب الطلاق – باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا "
فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يسمح صراحة بزواج الأرملة ، بل ويأمر سبيعة الأسلمية ، رضي الله عنها ، بالزواج بعد وفاة زوجها ، كما في رواية مسلم أعلاه ، بالرغم من مرور أيام قليلة فقط على موت زوجها . وهذا يدل دلالة واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ، على أن زواج الأرملة بعد وفاة زوجها لا يتعارض مطلقا مع خلق الوفاء . كيف والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه هو الذي أمرها بالزواج .
وجريا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن أهل العلم أجازوا للأرملة الحامل أن تتزوج بعد أن تضع مباشرة ، ولو كان زوجها قد مات للتو ، ولو كانت في حالة نفاس . ومنهم ابن شهاب رحمه الله ، كما ثبت عنه في صحيح البخاري ، في الحديث المذكور سابقا ، حيث قال : ( فلا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها ، غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر ) .
* الدليل الخامس :
الصحابة والصحابيات اقتدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وتزوجوا بعد وفاة أزواجهم . ومثلهم فعل التابعون والتابعيات ، رضي الله عنهم جميعا .
وهم أكثر من أن يحصوا ، رضي الله عنهم جميعا ، فهم كانوا يفهمون أن ذلك لا يتعارض مع الوفاء لأزواجهم . وتكرار الزواج عند السلف الصالح أمر معلوم .
مما تقدم يتبين بوضوح أن زواج الأرملة لا يتعارض إطلاقا مع وفائها لزوجها ، فضلا عن أن يتناقض معه . وقد لاحظت في مراجعاتي لكثير من حالات الزواج في الجاهلية أن الرجل كان يتزوج بعد وفاة زوجته ، وأن المرأة كانت تتزوج بعد وفاة زوجها ، أي أنه حتى في الجاهلية لم يوجد مفهوم أن من الوفاء عدم الزواج بعد وفاة الزوج أو الزوجة ، وأقرب مثال على ذلك أم المؤمنين خديجة ، رضي الله عنها ، فقد كانت في الجاهلية أرملة وتزوجت زوجين قبل الرسول صلى الله عليه وسلم . وزوجها الأول هو أبو هالة بن زرارة التميمي ، ثم خلف عليها بعده أبو هالة عتيق بن عائذ بن مخزوم ، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم . وخديجة بنت خويلد ، رضي الله عنها ، قمة في الأخلاق في الجاهلية والإسلام ، ولم تكن تفهم ان وفاءها لزوجها يقتضي عدم زواجها بعد وفاته ، ولذلك تزوجت أكثر من مرة .
وكذلك أروى بنت كريز والدة عثمان بن عفان ، رضي الله عنه وعنها ، كانت متزوجة من عفان بن أبي العاص ، وبعده تزوجت من عقبة بن أبي معيط .
وكذلك أسماء بنت مُخَرّبَة كانت في الجاهلية متزوجة من هشام بن المغيرة ، وولدت له أبا جهل والحارث ، وبعد وفاته تزوجت من عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة ، وولدت له عياشا ، فالصحابي عياش ، رضي الله عنه ، وأبو جهل إخوة لأم .
وكذلك صفية بنت عبد المطلب ، رضي الله عنها ، وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت في الجاهلية متزوجة من الحارث بن حرب بن أمية ، وبعد وفاته تزوجت ، في الجاهلية أيضا ، من العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ، وولدت له الزبير بن العوام ، رضي الله عنه ، وغيره .
وغيرهن الكثير ، فلا أدري من أين جاء بعض المعاصرين بهذا المفهوم المغلوط للوفاء ، والذي لم يعرف لا في الجاهلية ولا في الإسلام ! .
الوفاء للزوج لا يعني البقاء مدى الحياة بدون زواج فالرسول صلى الله عليه وسلم كان في غاية الوفاء لخديجة ، رضي الله عنها ، ومع ذلك تزوج بعدها بعدة أشهر ، كما تزوج بعدها الكثير من النساء .