..


... يوم َ أن ودّعتُك َ يا صغيري ...

( هذه خاطرتي .. أهديها لابن شقيقتي الذي انفصل والداه .. فكان أن نشأ في منزلنا منذ ولادته حتى أتم ّ عامين ونصف من عمره .. ثم كان الفراق ... ) ..


في يوم ٍ شتويّ باسم .. حبانا الله طفلا ً في غاية الجمال ..

درج َ على عتبات ِ منزلنا .. فغمر أرجاءه بهجة وجمالاً ..

في كل زاوية في البيت له حكاية .. وفي كل ركن ٍ له صور وذكريات ..

غمر حياتنا بحركاته وسكناته .. وعمرها ببسماته وهمساته ..



لطالما أحببت ُ ذلك الوجه الباسم .. ببراءته النقية .. وبروحه المرحة .. وبكلماته الطفولية العذبة ..

كم لعبت ُ برفقته .. وكم رويت ُ له من حكايات ..

كم صال وجال في غرفتي .. وكم نام على سريري ..


كم دنا مني ليطبع في وجنتي قبلة رقيقة .. وكم جلس في حضني هامسا ً بصوته الحنون : " أحبك ِ يا خالتي " ..


ذاك الطفل الوديع الذي نثر في حياتي أجمل المعاني .. غاب اليوم عني ..

غاب عني .. وما عدت ُ ألقى وجهَه الباسم ..

كان لا بد ّ أن يرحل ..

فمشيئة المولى قضت أن يتركنا ويرحل بعيدا ً ..

هناك .. حيث لا يمكن أن نراه ..

كانت تلك إرادة الله .. أن يرحل خارج البلاد ليعيش مع والده الذي لم يره يوما ً ..

ما أصعبه من مصير .. طفل في عامه الثاني يترك أمه ليعيش مع أب ٍ لا يعرفه .. وفي بلاد ٍ لا يعرفها ..

كان لا بد أن يواجه مصيره .. وما كان أمامنا من خَيار ..




كنت ُ قد رافقت ُ الصغير إلى المطار .. وليتني لم أفعل ..

فما عشته في ذلك اليوم من لحظات تحول إلى صور مؤلمة ٍ استقرت في ذاكرتي ..

فغدتْ ذكريات ٍ قاسيةً لا زالت تراودني كل حين ..

في الطريق إلى هناك .. كان الصغير يرقد بين ذراعي ّ ..

تأملتُ عينيه الزرقاوتين الجميلتين .. ورحت ُ أمسح ُ على شعره الأشقر ..

كنت ُ أهمس في نفسي .. ما أجملك يا صغيري ..

لكن .. يا لسوء حظك ..

أتراك َ تدري إلى أين نمضي ؟؟ أتراك َ تُدركُ ما ينتظرك َ عما قريب ؟؟

فاضت عيني ّ بالدموع .. ورحت ُ أقبّله وأضمّه إلي ّ حتى استيقظ ..



وفي ذلك المكان الذي فيه افترقنا ..

التفت الصغير لصوت أبيه يناديه .. أن تعال يا بني ّ لنمضي ..

تأمل وجهَ والده لأول مرة .. وعلت الدهشة ُ مُحيّاه .. فكيف سيرحل مع شخصٍ غريب ؟؟

أمسك الأب يد طفله .. ليمضى به نحو الطائرة ..

لكن الصغير بدأ بالبكاء .. وبدت علامات الخوف والريبة على عينيه الحزينتين ..

بدأ يدرك ُ ما سيحصل .. سيمضي وحده إلى عالم مجهول ..

حيث كل شيء غامضٌ وغريب ..

راح يبكي بكاء مُـرّا ً .. ما رأيت ُ في حياتي له مثيل ..

كانت صرخاته تعلو المكان الذي غمره السكون ..

تعلق بي بقوة .. مقاوما ً محاولات ِ أبيه للصعود للطائرة ..

غير َ أن الوقت قد حان .. ودنت ساعة الرحيل ..

واضطر الأب أن يحمل طفله قسرا ً ..

فارتفعت صرخاته حِدّة .. وزادت أصداؤها شدة ..

كانت صرخاتُه تناديني ..

" لا تتركيني يا خالتي .. لا تتركيني وحدي ............ " ..

وبينما كان والده يسير مبتعدا ً عني .. كان الطفل بين يديه يرمقني بنظرات الرجاء ..

وكانت يده تمتدّ نحوي .. بينما كان يبكي متوسلا ً لي ومنتظرا ً نجدتي ..

ثم ّ ..... غابت صورته بين الزحام .. وانقطع صوته عني ..

وما كان مني سوى أن صرت ُ أبكي كطفل ٍ صغير ..

اعذرني يا صغيري .. فقد خذلتُك ..

اعذرني .. فما استطعت ُ أن ألبّي نداءك الذي فطّر فؤادي ..



وهكذا افترقنا يا صغيري ..

رحلتَ عني .. لتتركني أعاني ألمَ فراقك ..

رحلتَ عني .. تاركا ً إيّايّ أذرف الدمعاتِ إثر الدمعات ..

وتمضي الأيام تتلوها الأيام ..

بيد َ أن ّ لحظة الفراق انطبعت في ذاكرتي .. وأضحت تراودني كل ّ حين ..

فأصداء صوتك يومها لا زالت ترن ّ في أذني .. وملامح وجهك لا زالت تتراءى في مخيلتي ..

وبعدُ يا صغيري ؟؟

ها قد مضت ستة أشهر .. وها قد بلغتَ عامَك الثالث ..

غيرَ أن عيني لم تكتحل بعدُ برؤياك .. ولم تطرب أذني بسماع صوتك ..

لكن ّ أملي بلقياك لم ينقطع ..

فرَبّ الكون لن ينسانا .. وبرحمته سيجمع بيننا و يلمّ شملَنا ..

ومهما طال البعدُ والنوى .. فسأبقى أنتظرُ عودتك يا صغيري ...........


( في ذكرى ميلاده 1 / 1 / 2007 ـ 1 / 1 / 2010 م ) ..


..