
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طفلٌ مختلف.. هي أسطرٌ أربعة.. كتبتها على وريقات مذكرتي الصغيرة في أحد الأيام.. وتركتُها دون رجعة!
أربعة أسطر مبتورة.. وحكاية مبهمة.. قرأتها اليوم (صُدفةً) فقررتُ إكمالها..
أربعة أسطر فقط.. سأصنع منها حكاية.. للعالم!
أرجو أن أوفق في تأليفها.. كما أرجو أن تحوز على رضاكم
ملاحظة: لمن لا يحب طريقة الحلقات، القصة مازالت في رأسي..وهذا ما تكوّن منها إلى الآن.. كتبتها فقط لأجبر نفسي على إكمالها قبل أن تموت كما ماتت الكثير والكثير من كتاباتي قبل أن تولد!
لذلك إذا كانت طريقة الحلقات تزعجك أنصح بترك قراءتها حتى تكتمل
:،:،:،:،:
:،:،:،:،: الفصل الأول :،:،:،:،:
توقظه أمه فجرًا.. يفرك عينيه الصغيرتين، ويمط جسده الضئيل، وينظر إليها بنصف عينٍ مبتسمًا:
-صباح الورد يا أمي.
تبتسم.. وتشدّ على يديه:
-صباح النور يابني.. هيا انهض لتدرك صلاة الفجر.
يهبّ جالسًا، ويفتح ذراعيه النحيلتين على اتساعهما.. يملأ رئتيه بالهواء.. وقلبه بالعزم!
تلتمع في مقلتيه نظرة واثقة.. يبتسم ملء شفتيه.. وينهض مرددًا:
-الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا.. .
هو في التاسعة من عمره، قصير القامة، ونحيل، ذو عينين واسعتين شديدتي السواد، وشعرٌ أجعد داكن، وبشرة بيضاء.
يوم الإثنين - السابعة صباحًا
دخل صالح إلى المطبخ مسرعًا، وضع حقيبته على مقعد محاذٍ لطاولة الطعام الخشبية الداكنة وجلس على آخر،
-السلام عليكم يا أمي.. صباح الخير.
- وعليكم السلام! مابال الحروف تتسابق للفرار من فمك؟!
- أكاد أتأخر يا أمي.. سيبدأ الدرس في الثامنة.. وحتى أصل إلى موقف الحافلة وأنتظرها إلى أن تأتي ثم أنتظر بداخلها المتأخرين وإلى أن تتحرك فتقابلنا زحمة الطريق ووو.. تكون الساعة قد وصلت إلى الثامنة!
- إهدأ يا صالح.. وتناول فطورك ياعزيزي.
مدت إليه طبق الفطور مبتسمة.. تناوله وشكرها.. ثم بدأ بالتهامه بسرعة شديدة!
تأملته وهو منهمك في الأكل.. وسرحت بأفكارها بعيدًا.. ابتسمت مرغمة، وقد تلألأت في عينيها دمعة حائرة..
تحدثت بصمت:
- ( ما أسرع الأيام! لقد أصبح في الصف الرابع.. ليتك تراه.. يشبهك تمامًا! بل.. بل إنه نسخة مصغّرة منك.. تخيل.. لا يحب التأخير أيضًا! )
قطع أحاديثها صوته وقد اتجه صوب الباب:
-أراكِ على خير يا أمي.. أنا ذاهب.. مع السلامة.
لوح إليها بيده وبابتسامة رائعة.. بادلته مثلهما وهي تردد:
-في حفظ الله ياعزيزي.. وانتبه لنفسك جيدًا.. ولا تتأخر في العودة.
وصلها صوته قبل أن يغلق الباب الخارجي:
-حــاضر! إن شاء الله.
:،:،:،:،:
يوم الإثنين - العاشرة صباحًا
أخذ يقلّب الأوراق الموضوعة بين يديه..وهو يمعن النظر إليها.. ويقرأ بكل تركيز، وقد اتكأ بمرفقيه على مكتبه البنّي المغطى بطبقة من الطلاء اللامع،
وأمام المكتب.. على المقاعد القماشية الحمراء.. كانت هناك عينان عسليتان ترقبانه، وقد ارتسمت عليهما أمارات القلق والتوجس، حتى باتتا تلحظان أي ردة فعل عليه، مهما كانت بسيطة،
وعلى الذقن ذو اللحية الرقيقة القابع أسفلهما.. كانت أصابعٌ مرتبكة تطرق بحيرة واضحة، وترتفع حينًا لتمرّ خلال الشعر البني الفاتح الذي يغطي ذلك الرأس، وعلى ذلك الوجه ذو البشرة القمحية تتنافس علامات الاستفهام والتعجب في الظهور مرةً بعد أخرى.
عمّ الحجرة سكونٌ دام لعدة دقائق.. كان ذو العينين العسليتين خلالها يسمع نبضات قلبه بوضوح.. بل يكاد يسمع محاولات معدته المضطربة لطحن إفطاره.
قطعت السكون تمتمات صادرةٌ من صاحب المكتب رافقها ارتفاع في درجة استعداد كل الحواس لدى صاحب تلك العينين:
-ممم.. في الحقيقة يا إبراهيم.. الفكرة رائعة.. بل مبدعة!
انفرجت أسارير هذا الإبراهيم صاحب العينين إياهما وقد زفر زفرة كأنما أطاحت بجبل جليدي على رأسه.. ونطق بصعوبة بالغة:
-صحيح؟.. هل.. هل يعني هذا أنك موافق عليها يادكتور؟
-من ناحيتي فأنا موافقٌ وبشدة.. وسأساعدك على تنفيذها قدر استطاعتي.. ولكن!
ولكن؟ هذه الـ (لكن) قلبت الأوضاع عند إبراهيم تمامًا.. مالذي أتى بكِ أيتها اللكن! لماذا وُجدتِ بين كلمات العربية!
- ولكن ماذا يادكتور؟
-لا يخفى عليك يابني أنه يجب أن نعرض الموضوع على إدارة الجامعة كي نأخذ الإذن بتنفيذ هذه الفكرة.
-لا..هذا يعني أن أنساها تمامًا.. إلى.. إلى أن يلتحق أحفادي بالجامعة ربما!!
قال هذه الكلمات بيأسٍ بغيض ممتزجٍ بغضب واضح!
ضحك الدكتور قبل أن يرد:
-لا يا إبراهيم.. لم أعهد فيك هذا اليأس! ألم أخبرك مرةً بمقولة المبتكر الشهير (أديسون) ؟؟
- لاأدري! في الحقيقة.. لاأذكر!
-سأخبرك الآن إذاً.
ابتسم بثقة ثم أكمل:
-لقد قال هذا المبتكر مرةً: ( إن مَن يأتِ بفكرة ويبدأ بتجربتها وتطويرها يصل إلى مكانٍ يرى فيه أنها مستحيلة التحقيق فيشعر باليأس. ولكن هذه هي بالذات المحطة التي لا يجوز فيها للمبتكر أن ييأس).
رد إبراهيم بخيبة:
-ولكنني لستُ مبتكرًا يا دكتور.
قاطعه الدكتور غاضبًا:
-بلى.. وهل تظن الابتكار محصورًا في الأجهزة والأدوات والماديات الأخرى؟؟ كلا يا إبراهيم.. أنتَ من أكثر طلابي إبداعًا..فكرتك هذه ستكون منبعًا للإبتكار... ولا أريدك أن تدفن هذا الإبداع.. بل لن أسمح لك بذلك أبدًا.
قال جملته الأخيرة وقد لوح بسبابته أمام عيني إبراهيم الذي رد بدوره:
-دكتور أحمد.. كم أنا ممتنٌ لك! لا أعرف كيف كنتُ سأتصرف لو لم أدرس تلك السنة عندك ولم أتعرف عليك! أنا.. أنا عاجزٌ عن شكرك..لقد صنعتَ مني شيئًا.. حين كنتُ لا شيء.
قالها وقد بسط كفيه.. فشدّ عليهما الدكتور أحمد بقوة وهو يقول:
-أنت مبدعٌ بالفطرة..الفكرة صيد..والكتابة قيدها.. وفكرتك الرائعة هذه مقيّدة أمامي هنا..لكنها لاتزال حبرًا على ورق.. يجب أن نبدأ بتجربتها وتطويرها إن كنا نريد تحقيقها.. وكل هذا يعتمد عليك.. وعليك أنت فقط! وكل من حولك ماهم إلا مساعدين.. لا يمكن لأحدٍ منهم أن يفكر بدلاً منك.. ضع هذا نصب عينيك دائمًا.. مفهوم؟
ابتسم إبراهيم ابتسامة عريضة أمام نُطق الدكتور لكلمة (مفهوم) بنفس الطريقة المُهدِدة التي يستخدمها خلال محاضراته، فرد بخوفٍ مصطنع وقد رفع يديه إلى أعلى معلنًا استسلامه:
-مفهوم مفهوم ياسيدي!
امتلأت الحجرة بصوت ضحكاتٍ ضحك لها كل من مرّ بالحجرة في تلك اللحظة.
:،:،:،:،:
يوم السبت - الواحدة ظهرًا
وصل إلى أسماعها صوت قرعٍ متواصلٍ لجرس الباب.. أنهت غسل الكأس الذي بين يديها وأخذت تجففهما في طريقها إلى الباب، نظرت من خلال فتحته الصغيرة وهي تهتف:
-من هناك؟
فتحت الباب قبل أن يصل إليها الرد.. وإذا بوالدتها وابن أختها المقارب لصالح في السن.. والذي كان يردد:
-ممم أنا.. وجدتي.. أعني.. والدتك.. وابن أختك.. أي.. معاذ.. وجدة علياء.
كانت قد أدخلت والدتها بعد السلام والعناق.. بينما كان يحاول إنهاء جملته! أمسكته من أذنيه وهي تسحبه إلى الداخل وتغلق الباب قائلة:
-وماذا يفعل معاذ خارج المدرسة في هذا الوقت؟! هل تخرجت دون علمي ياحفيد أمي؟؟
ردت والدتها ضاحكة:
-الكسول.. رفض الذهاب إلى المدرسة هذا اليوم!
دافع عن نفسه بأسلوبه المسرحيّ المعهود:
-ياخالتي نور.. لقد كنتُ مريضًا.. مريضًَا.. مريضًا.
تهاوى إلى الأرض بانتهاء جملته وسط ضحكاتهما..فيما استدارت نور لوالدتها مستفهمة، ردت الجدة:
-أخذته إلى المركز الصحي.. يشكو من التهابٍ طفيفٍ في حنجرته..
واستدارت إليه بنظرةٍ معاتبة وأكملت:
-من كثرة الكلام!!
بدأ مشهدًا آخر للدفاع عن نفسه قائلاً:
-وهل أنا مخطئ في ذلك؟ لا أحتمل رؤيتكم محرومين من صوتي العذب الشجيّ!!
ضحكت خالته وقد تناولت الكيس الذي كان مع والدتها قائلة:
-هل هذه الأدوية؟
ردت أمها:
-نعم..لمدة ثلاثة أيام.. مع المشروبات الدافئة كما تعلمين.. ولكن أين صالح ألم يعد بعد؟
-يبدو أنه في طريقه.. بقيت دقائق، غالبًا مايعود عند الواحدة والنصف، ستتناولان غداءكما معنا بالطبع أليس كذلك أمي؟
-جدتي أرجوكِ وافقي.. أريد أن أرى صالح.
-حسنًا حسنًا.. لم أرفض بعد! يا إلهي!! ما أطول لسان هذا الولد! هناء ليست كذلك ولا أبوك.. من أين ورثت هذه الصفة لا أعلم!
استدارت نحو ابنتها قائلة:
-أخشى أن يكون غداءكما لشخصين فيقلّ عنكما يا نور.
-بل يكفي يا أمي.. لقد طهوت غداء يومين.. هل نسيتِ تدبير ابنتك؟
قالتها بابتسامة مقرونة بنظرة ماكرة، فيما قطع صوت الجرس الحديث.. قفز معاذ هاتفًا:
-سأفتح أنا.. هذا صالح بالتأكيد!
فتح معاذ الباب وقد ارتسمت ابتسامة عريضة ملأت مابين أذنيه قائلاً:
- أهلاً بالصلّوحة!
ألقى صالح حقيبته على الأرض بحركةٍ درامية وأمسك بتلابيب معاذ يهزّه مرددًا بصوتٍ باكٍ.. ومضحك في الوقت ذاته!:
-أمـــاه!! أماه!! ماذا حدث لكِ؟ لقد أصبحتِ قصيرة! وتشبهين معاذ القبيح! آآآه يا أمي أين شعرك النحاسي؟؟ أين عيناك السوداوين؟؟ أين ملامحك الرائعة؟؟
أمااااه أماااااه..لقد أصبحت ملامحكِ مفزعة!!
راق الأمر لمعاذ.. الذي جاراه وقد أحاطه بذراعه مرددًا بنفس النبرة الحزينة:
-آه يا بني ياصالح.. كل هذا بسببك! هذه حال الدنيا!
تبادلت السيدتان اللتان تجلسان في الداخل نظرات التعجب السخرية والاستنكار من تصرفات هذين الصبيين! إلى أن صاحت نور وقد اتجهت إلى المطبخ:
-كفاكما كذبًا!! هيا ياصالح تعال لتسلم على جدتك وجهز نفسك.. سأحضر الغداء.
دفع صالح معاذ بعيدًا عنه وقد عاد إلى طبيعته هاتفًا:
-جدتي هنا؟؟
عانق جدته بسعادة.. وماهي إلا دقائق حتى اجتمعوا على طاولة الغداء..
:،:،:،:،:
ي
ت
ب
ع

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طفلٌ مختلف.. هي أسطرٌ أربعة.. كتبتها على وريقات مذكرتي الصغيرة في أحد الأيام.. وتركتُها دون رجعة!
أربعة أسطر مبتورة.. وحكاية مبهمة.. قرأتها اليوم (صُدفةً) فقررتُ إكمالها..
أربعة أسطر فقط.. سأصنع منها حكاية.. للعالم!
أرجو أن أوفق في تأليفها.. كما أرجو أن تحوز على رضاكم

ملاحظة: لمن لا يحب طريقة الحلقات، القصة مازالت في رأسي..وهذا ما تكوّن منها إلى الآن.. كتبتها فقط لأجبر نفسي على إكمالها قبل أن تموت كما ماتت الكثير والكثير من كتاباتي قبل أن تولد!
لذلك إذا كانت طريقة الحلقات تزعجك أنصح بترك قراءتها حتى تكتمل

:،:،:،:،:
:،:،:،:،: الفصل الأول :،:،:،:،:
توقظه أمه فجرًا.. يفرك عينيه الصغيرتين، ويمط جسده الضئيل، وينظر إليها بنصف عينٍ مبتسمًا:
-صباح الورد يا أمي.
تبتسم.. وتشدّ على يديه:
-صباح النور يابني.. هيا انهض لتدرك صلاة الفجر.
يهبّ جالسًا، ويفتح ذراعيه النحيلتين على اتساعهما.. يملأ رئتيه بالهواء.. وقلبه بالعزم!
تلتمع في مقلتيه نظرة واثقة.. يبتسم ملء شفتيه.. وينهض مرددًا:
-الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا.. .
هو في التاسعة من عمره، قصير القامة، ونحيل، ذو عينين واسعتين شديدتي السواد، وشعرٌ أجعد داكن، وبشرة بيضاء.
يوم الإثنين - السابعة صباحًا
دخل صالح إلى المطبخ مسرعًا، وضع حقيبته على مقعد محاذٍ لطاولة الطعام الخشبية الداكنة وجلس على آخر،
-السلام عليكم يا أمي.. صباح الخير.
- وعليكم السلام! مابال الحروف تتسابق للفرار من فمك؟!
- أكاد أتأخر يا أمي.. سيبدأ الدرس في الثامنة.. وحتى أصل إلى موقف الحافلة وأنتظرها إلى أن تأتي ثم أنتظر بداخلها المتأخرين وإلى أن تتحرك فتقابلنا زحمة الطريق ووو.. تكون الساعة قد وصلت إلى الثامنة!
- إهدأ يا صالح.. وتناول فطورك ياعزيزي.
مدت إليه طبق الفطور مبتسمة.. تناوله وشكرها.. ثم بدأ بالتهامه بسرعة شديدة!
تأملته وهو منهمك في الأكل.. وسرحت بأفكارها بعيدًا.. ابتسمت مرغمة، وقد تلألأت في عينيها دمعة حائرة..
تحدثت بصمت:
- ( ما أسرع الأيام! لقد أصبح في الصف الرابع.. ليتك تراه.. يشبهك تمامًا! بل.. بل إنه نسخة مصغّرة منك.. تخيل.. لا يحب التأخير أيضًا! )
قطع أحاديثها صوته وقد اتجه صوب الباب:
-أراكِ على خير يا أمي.. أنا ذاهب.. مع السلامة.
لوح إليها بيده وبابتسامة رائعة.. بادلته مثلهما وهي تردد:
-في حفظ الله ياعزيزي.. وانتبه لنفسك جيدًا.. ولا تتأخر في العودة.
وصلها صوته قبل أن يغلق الباب الخارجي:
-حــاضر! إن شاء الله.
:،:،:،:،:
يوم الإثنين - العاشرة صباحًا
أخذ يقلّب الأوراق الموضوعة بين يديه..وهو يمعن النظر إليها.. ويقرأ بكل تركيز، وقد اتكأ بمرفقيه على مكتبه البنّي المغطى بطبقة من الطلاء اللامع،
وأمام المكتب.. على المقاعد القماشية الحمراء.. كانت هناك عينان عسليتان ترقبانه، وقد ارتسمت عليهما أمارات القلق والتوجس، حتى باتتا تلحظان أي ردة فعل عليه، مهما كانت بسيطة،
وعلى الذقن ذو اللحية الرقيقة القابع أسفلهما.. كانت أصابعٌ مرتبكة تطرق بحيرة واضحة، وترتفع حينًا لتمرّ خلال الشعر البني الفاتح الذي يغطي ذلك الرأس، وعلى ذلك الوجه ذو البشرة القمحية تتنافس علامات الاستفهام والتعجب في الظهور مرةً بعد أخرى.
عمّ الحجرة سكونٌ دام لعدة دقائق.. كان ذو العينين العسليتين خلالها يسمع نبضات قلبه بوضوح.. بل يكاد يسمع محاولات معدته المضطربة لطحن إفطاره.
قطعت السكون تمتمات صادرةٌ من صاحب المكتب رافقها ارتفاع في درجة استعداد كل الحواس لدى صاحب تلك العينين:
-ممم.. في الحقيقة يا إبراهيم.. الفكرة رائعة.. بل مبدعة!
انفرجت أسارير هذا الإبراهيم صاحب العينين إياهما وقد زفر زفرة كأنما أطاحت بجبل جليدي على رأسه.. ونطق بصعوبة بالغة:
-صحيح؟.. هل.. هل يعني هذا أنك موافق عليها يادكتور؟
-من ناحيتي فأنا موافقٌ وبشدة.. وسأساعدك على تنفيذها قدر استطاعتي.. ولكن!
ولكن؟ هذه الـ (لكن) قلبت الأوضاع عند إبراهيم تمامًا.. مالذي أتى بكِ أيتها اللكن! لماذا وُجدتِ بين كلمات العربية!
- ولكن ماذا يادكتور؟
-لا يخفى عليك يابني أنه يجب أن نعرض الموضوع على إدارة الجامعة كي نأخذ الإذن بتنفيذ هذه الفكرة.
-لا..هذا يعني أن أنساها تمامًا.. إلى.. إلى أن يلتحق أحفادي بالجامعة ربما!!
قال هذه الكلمات بيأسٍ بغيض ممتزجٍ بغضب واضح!
ضحك الدكتور قبل أن يرد:
-لا يا إبراهيم.. لم أعهد فيك هذا اليأس! ألم أخبرك مرةً بمقولة المبتكر الشهير (أديسون) ؟؟
- لاأدري! في الحقيقة.. لاأذكر!
-سأخبرك الآن إذاً.
ابتسم بثقة ثم أكمل:
-لقد قال هذا المبتكر مرةً: ( إن مَن يأتِ بفكرة ويبدأ بتجربتها وتطويرها يصل إلى مكانٍ يرى فيه أنها مستحيلة التحقيق فيشعر باليأس. ولكن هذه هي بالذات المحطة التي لا يجوز فيها للمبتكر أن ييأس).
رد إبراهيم بخيبة:
-ولكنني لستُ مبتكرًا يا دكتور.
قاطعه الدكتور غاضبًا:
-بلى.. وهل تظن الابتكار محصورًا في الأجهزة والأدوات والماديات الأخرى؟؟ كلا يا إبراهيم.. أنتَ من أكثر طلابي إبداعًا..فكرتك هذه ستكون منبعًا للإبتكار... ولا أريدك أن تدفن هذا الإبداع.. بل لن أسمح لك بذلك أبدًا.
قال جملته الأخيرة وقد لوح بسبابته أمام عيني إبراهيم الذي رد بدوره:
-دكتور أحمد.. كم أنا ممتنٌ لك! لا أعرف كيف كنتُ سأتصرف لو لم أدرس تلك السنة عندك ولم أتعرف عليك! أنا.. أنا عاجزٌ عن شكرك..لقد صنعتَ مني شيئًا.. حين كنتُ لا شيء.
قالها وقد بسط كفيه.. فشدّ عليهما الدكتور أحمد بقوة وهو يقول:
-أنت مبدعٌ بالفطرة..الفكرة صيد..والكتابة قيدها.. وفكرتك الرائعة هذه مقيّدة أمامي هنا..لكنها لاتزال حبرًا على ورق.. يجب أن نبدأ بتجربتها وتطويرها إن كنا نريد تحقيقها.. وكل هذا يعتمد عليك.. وعليك أنت فقط! وكل من حولك ماهم إلا مساعدين.. لا يمكن لأحدٍ منهم أن يفكر بدلاً منك.. ضع هذا نصب عينيك دائمًا.. مفهوم؟
ابتسم إبراهيم ابتسامة عريضة أمام نُطق الدكتور لكلمة (مفهوم) بنفس الطريقة المُهدِدة التي يستخدمها خلال محاضراته، فرد بخوفٍ مصطنع وقد رفع يديه إلى أعلى معلنًا استسلامه:
-مفهوم مفهوم ياسيدي!
امتلأت الحجرة بصوت ضحكاتٍ ضحك لها كل من مرّ بالحجرة في تلك اللحظة.
:،:،:،:،:
يوم السبت - الواحدة ظهرًا
وصل إلى أسماعها صوت قرعٍ متواصلٍ لجرس الباب.. أنهت غسل الكأس الذي بين يديها وأخذت تجففهما في طريقها إلى الباب، نظرت من خلال فتحته الصغيرة وهي تهتف:
-من هناك؟
فتحت الباب قبل أن يصل إليها الرد.. وإذا بوالدتها وابن أختها المقارب لصالح في السن.. والذي كان يردد:
-ممم أنا.. وجدتي.. أعني.. والدتك.. وابن أختك.. أي.. معاذ.. وجدة علياء.
كانت قد أدخلت والدتها بعد السلام والعناق.. بينما كان يحاول إنهاء جملته! أمسكته من أذنيه وهي تسحبه إلى الداخل وتغلق الباب قائلة:
-وماذا يفعل معاذ خارج المدرسة في هذا الوقت؟! هل تخرجت دون علمي ياحفيد أمي؟؟
ردت والدتها ضاحكة:
-الكسول.. رفض الذهاب إلى المدرسة هذا اليوم!
دافع عن نفسه بأسلوبه المسرحيّ المعهود:
-ياخالتي نور.. لقد كنتُ مريضًا.. مريضًَا.. مريضًا.
تهاوى إلى الأرض بانتهاء جملته وسط ضحكاتهما..فيما استدارت نور لوالدتها مستفهمة، ردت الجدة:
-أخذته إلى المركز الصحي.. يشكو من التهابٍ طفيفٍ في حنجرته..
واستدارت إليه بنظرةٍ معاتبة وأكملت:
-من كثرة الكلام!!
بدأ مشهدًا آخر للدفاع عن نفسه قائلاً:
-وهل أنا مخطئ في ذلك؟ لا أحتمل رؤيتكم محرومين من صوتي العذب الشجيّ!!
ضحكت خالته وقد تناولت الكيس الذي كان مع والدتها قائلة:
-هل هذه الأدوية؟
ردت أمها:
-نعم..لمدة ثلاثة أيام.. مع المشروبات الدافئة كما تعلمين.. ولكن أين صالح ألم يعد بعد؟
-يبدو أنه في طريقه.. بقيت دقائق، غالبًا مايعود عند الواحدة والنصف، ستتناولان غداءكما معنا بالطبع أليس كذلك أمي؟
-جدتي أرجوكِ وافقي.. أريد أن أرى صالح.
-حسنًا حسنًا.. لم أرفض بعد! يا إلهي!! ما أطول لسان هذا الولد! هناء ليست كذلك ولا أبوك.. من أين ورثت هذه الصفة لا أعلم!
استدارت نحو ابنتها قائلة:
-أخشى أن يكون غداءكما لشخصين فيقلّ عنكما يا نور.
-بل يكفي يا أمي.. لقد طهوت غداء يومين.. هل نسيتِ تدبير ابنتك؟
قالتها بابتسامة مقرونة بنظرة ماكرة، فيما قطع صوت الجرس الحديث.. قفز معاذ هاتفًا:
-سأفتح أنا.. هذا صالح بالتأكيد!
فتح معاذ الباب وقد ارتسمت ابتسامة عريضة ملأت مابين أذنيه قائلاً:
- أهلاً بالصلّوحة!
ألقى صالح حقيبته على الأرض بحركةٍ درامية وأمسك بتلابيب معاذ يهزّه مرددًا بصوتٍ باكٍ.. ومضحك في الوقت ذاته!:
-أمـــاه!! أماه!! ماذا حدث لكِ؟ لقد أصبحتِ قصيرة! وتشبهين معاذ القبيح! آآآه يا أمي أين شعرك النحاسي؟؟ أين عيناك السوداوين؟؟ أين ملامحك الرائعة؟؟
أمااااه أماااااه..لقد أصبحت ملامحكِ مفزعة!!
راق الأمر لمعاذ.. الذي جاراه وقد أحاطه بذراعه مرددًا بنفس النبرة الحزينة:
-آه يا بني ياصالح.. كل هذا بسببك! هذه حال الدنيا!
تبادلت السيدتان اللتان تجلسان في الداخل نظرات التعجب السخرية والاستنكار من تصرفات هذين الصبيين! إلى أن صاحت نور وقد اتجهت إلى المطبخ:
-كفاكما كذبًا!! هيا ياصالح تعال لتسلم على جدتك وجهز نفسك.. سأحضر الغداء.
دفع صالح معاذ بعيدًا عنه وقد عاد إلى طبيعته هاتفًا:
-جدتي هنا؟؟
عانق جدته بسعادة.. وماهي إلا دقائق حتى اجتمعوا على طاولة الغداء..
:،:،:،:،:
ي
ت
ب
ع

تعليق