- لا مجال لأن أستدين من أحد يا عزيزتي, لن أرضى على نفسي أن يطرق بابي كل يوم شخص يطالبني بماله.. وأرجوه أن يصبر علي.. أو يمهلني بعض الوقت لأسدده..
- إذن ما العمل.. هل سنمد أكفنا لفتات الناس؟!!
- ما شاء الله عليكِ .. أقول لكِ إنني لن أرضى بالدين.. فتقترحين الشحاذة؟!..
- إذن ماذا ستفعل ؟!
(لماذا تصرُّ أن تسألني هذا السؤال الذي لا يجد إلا إجابة واحدة قاتلة , مدمرة .. وخائف من أن أنطقها فـتنـتقل من حيز التفكير إلى دائرة التنفيذ .. وأشعر بألم الضربة..)
- ماذا ستفعل ؟!
- سأبيع كتبي ومؤلفاتي على بساط صغير أمده في ساحة "سعد الله الجابري"(1)
- أتبيع كتبا جمعتها على مدار ثلاثين سنة من عمرك الأدبي؟!
- كثيرة هي كتبي.. ستكفيني.. وسأسدد من بيعها كل الفواتير.. ولن أحتاج إلى أحد!!
- (عابد).. أتبيع عمرك الأدبي!؟
- !!
-2-
بالقرب من تمثال الشهداء(2) .. يخرج كتبه كتابا كتابا من الأكياس السوداء.. يرتبها على البساط.. ويتأملها بعين الفاقد الثَّّكِل.. يجلس بقرب بساطه.. لا يعي ما يفعله.. يتأمل الأشخاص الذين يمرون من أمامه والكتب.. ويمضون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء حمل أحدها وقراءة اسم كاتبها أو اسمها..
وجع يصيب قلبه.. إحساس بالفقد يمزق روحه.. ها هو يعرض أشلاءه للناس بأبخس الأثمان.. ولا تُشترى.. بأبخس الأثمان.. ولا تعني شيئا لأحد!!
قليلة هي الورقة الفضية عليها.. كم يتمنى أن يملك الآن رزما من النقود وفئات الليرات المختلفة.. ليس لكي يسد حاجته ويدفع عنه ضائقته!! ليس لكي يعود إلى منزله بكتبه لم يفقد أيا منها !!
لا.. بل لكي يمزقها ويقصقصها ويرمي بها في أقرب حاوية.. فكلها لا تساوي ما تعنيه هذه الكتب..
آه حرَّى تتصاعد من داخله.. يفتح لها ثغرا عبر فمه لتخرج بدخان أبيض يحيطه بهالة منها.. الآن عرف أي تضاد بين الأبيض والأسود.. أي تشوه يَصِمُ الدنيا.. أي وجودٍ أبيضَ وأي اختفاءٍ لخيوطِ السوادِ في نسيجِ أدخنةِ آهتهِ البيضاءَ في طقسِ (كانون الأول )..
بل أي رمادٍ يطرزَ قطعَ البياض المحترقة... !!
يزر أزرار إزاره الصوفي.. يمسح بإبهامه وسبابته حواف شفتيه.. يرتب شاربه الأبيض.. ويرفع نظره إلى السماء.. سماء هذه الساحة مبطنة بالغيوم الرمادية..
أيعقل أن يسقط المطر الآن.. أتبكي السماء الآن فوق أهداب الكتب.. أيفقد كل شيء بدموع ليست له؟!
أيعود بكتب مبتلة.. وجيوب فارغة.. وأهداب قاحلة!! أيضطر إلى نشر الكتب على حبل الغسيل!!
يعود بنظراته إلى الأرض.. حجارة رمادية.. متكسرة.. متشققة ككفيه.. لكنها ما تزال شابة.. ما تزال صامدة تحت أرجل السادة.. وتحت وطأة بائعي الصحف السياسية.. وماسحي الأحذية..
التفت يبحث بنظره عن أحدهم.. أحدهم يمسك بيده خرقة متسخة.. وأيضا رمادية.. لماذا يتحول كل شيء إلى الرمادي!؟.. لماذا كل ما في العالم يشبهه اليوم؟! .. لا.. ربما يستفزه فقط؟!
ولماذا تصر هذه الـ "لماذا" أن تقفز في وجهه.. هل لتقرِّح آهته أكثر.. فيسيل الصديد في داخله.. ويسري بنهره البركاني يذيب ذكريات تلك الأيام الخالية..
كان يشتري الكتاب يتأبطه ويشتاق إلى لحظات وصوله إلى كرسيه المقصَّب المتهالك من وطأة الزمن.. نعم هذا الكرسي كان حبيبا إليه.. كان يشاركه متعة التحليق بين السطور..
كان يقرأ باستمتاع وسعادة.. يظن أنه لن يفرط في الكتاب مهما كان.. أ يعقل أن تتبدد تلك الوعود التي قطعها لنفسه!!..
-3-
وقف أحدهم بقامته أمام بساطه البسيط.. كان يرتدي معطفا جلديا باهظا.. يضع يديه في جيبيه.. ويخفي شعره تحت قبعة سوداء..
انحنى ليلتقط أحد الكتب.. قلَّبه بين يديه.. فتحه وبدأ يختبر مضمونه يقرأ في إحدى صفحاته.. أغلق الكتاب.. نظر مرة أخرى إلى بقية الكتب.. فطِن بعدها لوجود ع جوزٍ يجلس بجانب البساط.. ينتظر تلك الورقة النقدية..
سأله باقتضاب:
- بِكَمْ ؟!
يالهذه الكلمة الغبية.. "كم".. هل يجلس في سوق الخضار يبيع خياراً و بطيخاً!! كم يود لو أنه يسحب من يده الكتاب.. ويلم شعث كتبه.. ويعود بكرامته إلى منزله.. حتى لو اضطره الأمر لأن يعيش على فتات الناس.. وبقايا القمامة.. لكنه.. يجب أن يقتل تلك المشاعر التي لن تسدَّ شيئا..
فأجاب بنبرة حزينة متقطعة الأنفاس:
- بمئة ليرة..
حملق الثري في وجهه وقال:
- لماذا ؟!.. أنظرْ إلى الكتاب.. قديم.. مهترئ.. وريقاته صفراء شاحبة.. لن أدفع أكثر من ثمانين..
- لكن يا سيد.., الكتاب جميل جدا.. وحين تقرؤه لن تعني لك تلك المائة شيئا.. صدقني..
- ثمانون, أو أذهب..
- تسعون إذن.. حتى لا أخسر..
أخرج من جيبه محفظة متخمة بالنقود.. ورمى بمئة ليرة ورقية.. ثم مد يده ليأخذ قطعة العشرة ليرات المعدنية..
لا يعرف أن يبكي في لحظات الفقد.. أمه توفيت.. ولم يبك.. والده توفي ولم يبك.. كان يموت حزنا.. ولكنه لم يبك يوما..
هو الآن في لحظة تختنق فيها كل ذكرى.. كل مسرَّة.. وكل موقف كان يرسم ابتسامة ما على شفتيه.. فهل يبكي؟!
عاد فمسح حواف شفتيه.. ثم عاد فحدق في أرض الساحة.. هناك شيء يلمع عليها.. لكنه ليس ذهبا.. إنه زجاج متهشم التصق بحجر الأرض حتى صارا شيئا واحدا.. وما زال يلمع..
يا لهذه اللحظات الكئيبة.. صخب الساحة.. ومنظر الناس وهم يسيرون فيها.. حياة تمضي.. وعالم يتحرك.. هواء بارد يلفُّـهُم.. وأنفاسٌ تؤخذ وتطلق.. وهو منهم وفيهم.. ولا يعني إلا حالة من حالات غباء المجتمع..
تذكر والده حين كان يوبخه:
- ماذا ستكون في المستقبل أيها الولد الشقي.. أترك هذه الكتب.. كفاك انصياعا لكسلها.. اذهب تعلم حرفة ما تأكل منها في الغد لتعيش..
هل كان منطقيا في رده على أبيه:
- يا أبي.. هذه الكتب ستصنع مني أديبا ك بيرا تمتلئ المكتبات بمؤلفاته.. ويتصدر الصفحات الأولى من الصحف.. هذه أرقى حرفة أتعلمها.. لكنها تحتاج الصبر..
نعم.. تحتاج إلى بعض الصبر.. ولها مستقبل عظيم.. الحمد لله أن والده غير موجود الآن.. فهو يمقت الشماتة!! ولكنه لم يكذب أبدا في أغلب ظنه..
قطع تفكيره أحد الصحفيين المتجولين حين اقترب منه يسأله:
- ما بك يا عم, لماذا تنكفئ على نفسك.. هل تشكو من شيء؟!
- أترى الزمان يا ولدي, جاءني يوم ضيق اضطرني أن أبيع كل ما جمعته خلال ثلاثين سنة خلت.. حتى مؤلفاتي..
أخرج الصحفي من جيبه دفترا صغيرا وبدأ يسأله.. و( عابد ) يجيبه.. ثم شكره ومضى سعيدا بهذا السبق الصحفي عن (محنةُ أديب تجرِّده الكتبَ وأكسجينَ الحياة..)
ضحك في داخله.. عاد يرتب الكتب على بساطه.. ابتسم ابتسامة مترهلة.. وقال في نفسه:
- لم أخطئ في ظني, سأتصدر الصفحة الأولى!!..
المصـــــــدر
تعليق