أريــدُ أن أغــازلَ مثـلكِ .. ( تمت ) ‏

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • شذا الجوري
    النجم البرونزي
    • Sep 2006
    • 681

    #31
    الفصل الخامس والعشرين:
    يضعُ (ضياء) خدَّهُ على كفِّهِ مُتَّكئاً على نافذة زجاج الباصِ الذي يُقلُّهُ على صنعاء عبر هذه الرحلة الطويلة، ومُفكِّراً في آلت إليه أحوال (ساورو) في بلد الإيمان والحكمة..
    يُقلِّبُ في ذاته أفكاراً كثيرةً، وآمالاً أكبر منها:
    - تُرى كيف حالُ (ساورو)؟!
    - ما الذي حدث له يا تُرى؟!
    - هل يعيش حياتهُ بطمأنينةٍ الآن؟! أم أن المشاكل لاشكَّ تلحقُهُ؟!
    - أعتقد أن بقائه في اليمن شيءٌ مؤقتٌ ولا شك..فماذا سيفعل في إجازة الصيف؟! هل سيعودُ إلى (رنا)؟! عجباً لها من فتاة!! تُرى ما هو حالُها الآن!!
    - لابد أن يُرتِّب لي سمهر موعداً لأرى (ساورو) في أقرب فُرصة..

    وصل (ضياء) إلى صنعاء أخيراً، وتوجَّه على مقر دراسته في مستشفى الكويت يسألُ عن أخبار صديقهٍ (سمهر) وأخبار دراسته التي تغيّبَ عنها قهراً، وأخبار (ساورو) أيضاً.. أجاب (سمهر) عن كُلِّ ما طلب صديقُهُ، وأمّا أخبارُ (ساورو) فأجاب:
    - إنه بخيرٍ ويُهديكَ السلام، ويتأقّلمُ مع الجوِّ بسُرعةٍ، وتعرّف على العديد من الأصدقاء..

    ابتسم (ضياء) ابتسامة رضاً.. وقال:
    - إذن لا تنسَ أن تُرتِّبَ لي يا (سمهرُ) موعداً؛ فهناك الكثيرُ لديَّ أقولهُ له، كما أن حلَّ مُشكلته قد يبدو وشيكاً بإذن الله.

    هزَّ (سمهرُ) رأسهُ:
    - إذن لابد من عمل ذلك سريعاً..سأبذُلُ قُصارى جُهدي.
    وانشغل الجميعُ بأهوال الدوام، وأهوال المُعاملات وأهوال الحياة، ونُسيَ أمرُ (ساورو) من التنفيذ لكثرة من زُحمَ به الجميع من المشاغل، غير أنه كان يتربَّعُ على الخاطرِ دوماًـ وتصلهُ رسائل الترحيب والتحايا دوماً..
    ومضى شهرٌ لم يرَ (سمهرُ) فيه (ساورو) أيضاً لانشغاله، فيما كان (ضياء) يحزمُ حقائبهُ مرةً أخرى للعودة إلى ديار الحرمين لطارئٍ المَّ بأمره، ووجب إنجازُهُ. لكنه كان مُصمماً هذه المرة على رؤية (ساورو) مهما كان الانشغال؛ فالوقتُ لا يحتملُ التأخير..
    ومرةً أخرى تتأجلُ المواعيدُ لأمرٍ يُقدِّرهُ الله لا سُلطة للبشر تجاههُ.
    وبعدٍ جُهدٍ وترتيبٍ تم الاتفاق على زيارة..

    اليوم هو السابع والعشرين من شهر فبراير للعام السابع في الألفية الميلادية. اتصل (سمهر) بـ (ضياء) للتأكُّدِ من زمان السفر، فأجاب الأخيرُ:
    - غداً عصراً بإذن الله سأكونُ في طريق العودة.

    - (سمهر): جيدٌ جداً.. لابُدَّ من رؤيتك إذن..

    - (ضياء): بالطبع.. هل ستأتي؟!

    - (سمهر): أجل، لكن لن آتي لوحدي، فلقد هاتفتُ (ساورو) للتوِّ واتفقنا على زيارتك..

    - (ضياء): أهلاً وسهلاً بكما. أنتظرُ ذلك.

    - (سمهر): الأهم الآن: هل أنت مُتفرغٌ للزيارة..

    - (ضياء): شبه مُتفرِّغٍ، بيد أن لديَّ أمراً يجبُ إنجازُهُ في شارع "ستة عشر"، وبعدها أعودُ إلى المنزل..لكن بما أنكما اثنين وأنا واحدٌ فمن الأجدر أن أقوم أنا بزيارتكما.

    - (سمهر): يُشرِّفُني ذلك... وعلى أية حال فقد اتفقتُ مع (ساورو) أن يأتي أولاً ثم نذهب لزيارتك فعليه تكونُ أنت قد أتيت.

    - (ضياء): جيدٌ جداً.. نختصرُ بذلك الوقت... موعدنا إذن التاسعةً مساءً.

    - (سمهر): وهو كذلك.

    غادر (ضياء) منزلهُ يُتمِّمُ أمور سفره، وكذلك يستعدُ للقاء أخيه في الله.. (ساورو).

    الساعة التاسعةُ كانت تدقُّ أجراسها مع طرق (ضياء) باب منزل (ساورو) على أمل اللقاء:

    - (سمهر): أهلاً وسهلاً ضياء.. هل أتممتَ شؤونك؟!

    - (ضياء): الحمدُ لله.. أنهيتُ كافَّة شؤوني وأنا الآن جاهزٌ للسفر. ألم يأتِ (ساورو)؟!

    حرّك (سمهرُ) رأسهُ مُستغرباً.. أنا أنتظرهُ الآن.. علّه في الطريق، ولكنني كُنتُ أحاولُ الاتصال به مُنذُ رُبعِ ساعةٍ وهاتفهُ مشغولٌ منذ ذلك الوقت وإلى الآن!!

    - (ضياء): لعلهُ قريبٌ ولذلك كرهَ أن يُكلِّفكَ اتصالاً..

    - (سمهر): آملُ ذلك.. ريثما يأتي، ما رأيكَ أن نُنجز بعض الأمور المُتعلّقة بالمجموعة الطبية؟!

    - (ضياء): لا بأس بذلك..

    قالها (ضياءُ) وهو يقومُ من مجلسهِ مُتَّهجاً إلى غُرفة (سمهر) لإنجاز ما اتفقا عليه فيما كان (سمهر) يلتفتُ إلى (ضياء) قائلاً:
    - ألم أُخبركَ ماذا صنع (ساورو) اليوم؟!
    نظر (ضياءُ) إلى صديقهِ قائلاً:
    - لا ! لم تُخبرني! هل حدث مكروهٌ؟!

    ابتسم (سمهرُ) نافياً:
    - لا شيء من ذلك، ولكنه أعلن اليومَ في اليمن إسلامهُ رسمياً!! وكهديةٍ متواضعةٍ من شركته فإنها قررت منحهُ رحلة عُمرةٍ إلى بيت الله الحرام على حسابها مدفوعة التكاليف.

    أمسك (ضياءُ) على فمهِ قائلاً:
    - أيعرفُ (ساورو) تبعاتِ هذا العمل؟! ثمَّ ألم يكن يخشى من مكر قريبهِ (أصلانيان)؟!... ماذا لو اكتشف أمره؟!

    - (سمهر): لستُ مُتأكِّداً..لكن يبدو أن وضعهُ الأمني أصبح مُستقراًً.. ولذلك كان الإشهار.

    - (ضياء): لا أدري ماذا أقول.. لكنني أعتقدُ أنه يريدُ أن يتحدَّى أهلهُ بشكلٍ علنيٍّ وواضح، وأخشى عليه ذلك.

    - (سمهر): ليس بيدنا الكثير، وأظنُّهُ يفهمُ تماماً ما يُقدمُ عليه.

    وبعد ساعةٍ من الانهماك في العمل، لاحظ الصديقين تأخر (ساورو) عن الوصول.. فحثَّ (ضياء) صديقهُ على الاتصال بهِ مُجدداً، غير أنه لم يكن يُجيبُ على هاتفهِ هذه المرة.
    رمى (سمهر) سمّاعة الهاتف مُغضباً من (ساورو):
    - تباً لإبليسه! لابد أن يكون لي معه تصرفٌ آخر على إخلاف موعده، وثُم عدم الإجابة على هاتفه!

    - (ضياء): رويدك يا (سمهر)! فلعله غلبهُ النوم لشدة الجهد بعمله.

    - (سمهر): قد يكونُ ذلك... سأحادثهُ غداً بإذن الله.

    بات الصديقين ليلتهما دون أن يريا (ساورو)، وفيما كان الأملُ يحدو (ضياء) أن يراه قبل مُغادرته لصنعاء، ولذلك اتصل بـ(سمهر) قبل المغادرة، ولكن (سمهر) نفى مقدرتهُ الاتصال بـ (ساورو)، وغادر (ضياء) مرةً أخرى على رؤية (ساورو) ثانيةً؛ وهذا اليوم شهد وقائع جديدةً أخرى في حياة (ساورو) المثيرة!



    يتبع

    تعليق

    • شذا الجوري
      النجم البرونزي
      • Sep 2006
      • 681

      #32
      الفصل السادس والعشرين:
      الرئيسُ اليمنيُّ (علي عبد الله صالح) في موكبٍ حاشدٍ كبيرٍ من السيارات تخترقُ صفوف الزحام في شوارع العاصمة اليمنية باتجاه أكبر مُنشآت الجمهورية، وأكثرها فخراً بالنسبة للرئيس، حيثُ كان ينزلُ ليشاهد عن كثبٍ أعمال البناء في الجامع الموسومِ باسمه "جامع الرئيس الصالح"..
      وطبعاً وككل المواكب الرسمية فإن وفداً ضخماً من إداريي المشروع كانوا في استقبال الرئيس ولا سيَّما وفد شركة (Gulf Tec) للمقاولات الدولية، أو بكلمةٍ أخرى الشركة التي يعملُ فيها (ساورو).
      نزل الرئيسُ إلى الموقع وأخذ الجميعُ بالترحاب، وبدأ الإداريون بالتعريف:
      - أنجزنا هنا جُلَّ العمل..وهنا وضعنا بداية الديكور..وهنا نُنجز الزخارف الخشبية، وهناك عُمّالُ الرخام يكادون يُنهون عملهم..وأما المنحوتاتُ الجبسيَّةُ فالعملُ فيها على قدمٍ وساق..!

      والرئيسُ يهزُّ رأسه مُحيياً الجهود، ويسألُ عمّا خفي عليه أو استعجم..
      ولكن أحد إداريي المشروع المُتملِّقين أراد أن يضع كلمة تجاه الرئيس تزيدهُ فخراً بما أمر بهِ من بناء الجامع، وعلّها ترفعُ من حظوتهم عندهُ.. وربما مُرتَّباتهم أيضاً! فقال أيضاً في معرضِ حديثهِ:
      - ...ومن بركات بناء الجامع أيضاً يا سيادة الرئيس أن أحد المهندسين النصارى العاملين في المشروع أعلن إسلامه بالأمس..!!

      التفت الرئيسُ إلى الإداريِّ قائلاً:
      - أو حدث هذا حقاً؟!

      قال المُتملِّقُ وهو يهزُّ رأسه إيجاباً:
      - بالطبع فخامة الرئيس..

      قال الرئيس:
      - أريدُ مُقابلة هذا المهندس قريباً.. أرجو أن تُرتِّبوا ذلك!

      ولكن مُهندسنا بدا له من أمره ما لم يكن يحتسب!

      يتبع

      تعليق

      • شذا الجوري
        النجم البرونزي
        • Sep 2006
        • 681

        #33
        هنا استطراد يا اخوات ،،

        عندما صعد الأخ (ضياء) ظهر خطوط النقل الجماعي مُتجهاً إلى ديار الحرمين إنجاز مُعاملاتٍ رسميةٍ طارئةٍ..وما زالت أخبار (ساورو) عنه طي الكتمان..ولكنه كنا يرسم الآمال لرؤيته ومحاولة حل مُشكله بعيد العودة من هذه الرحلة..
        مضت الرحلةُ في طريقها في الدروب الجبلية الوعرة..
        إن من أفضلُ ما يمكن تقضية الوقت به في مثل هذه الرحلات الطويلة هو النوم –إن استطعت-، وغالباً لا تجدُ رفيقاً حقاً يرافقك في حلك وترحالك..إلا ما ندر..وهنا بدأت حكايةٌ جديدة!
        جلس بجوار مقعد (ضياء) في الباص شابٌ أسمر تبدو عليه ملامحُ الصلاح، وكذلك فإنه كان يرتدي لباساً اُشتهر رؤيتهُ يُزينُ طبقة الأسياد التي تنحدرُ أصولها إلى الحسين بن علي بن أبي طالبٍ – رضي الله عنهم- على حد قول أبناء هذه الطبقة..
        بدأ الحوار بمعرفة الوجهة النهائية لكلٍ منهما ومكان عيشه؛ ثم لم يلبثا طويلاً حتى تبادلا البطاقات الشخصية حيثُ عرّف كلٌّ منهما بالآخر..وبدأت أطرافُ الحديث تجتمعُ من زوايا الذهن والذاكرة والأحداث..
        عرّف الضيفُ باسمه (سعيد) وهو من سُكان مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية ويبلغُ من العمر ستاً وعشرين ربيعاً، بيد أن منظره لا يوحي بأنه جاوز العشرين بعد..وفي خضم الحديث وفيما كان (ضياءُ) يقولُ شيئاً عن حياة العزوبية وأخبارها، قاطعهُ (سعيدٌ) قائلاً:
        - ولكنني لستُ عازباً..متزوجٌ منذُ سنةٍ ونصفٍ تقريباً.

        وعلى إثر ذلك كان (ضياء) مندهشاً لمعرفة ذلك قبل أن يعرف العمر الحقيقي لهذا الشاب؛ فقد بدا أنه أنهى الثانوية لتوه، وهذا بعيدٌ على سكان المملكة. ولكن (سعيد) بدر قائلاً:
        - لقد كنتُ أكبر الرافضين للزواج على الرغم من تيسُّرِ أحوالنا المادية كثيراً..ولطالما ألحَّ عليَّ والديَّ بالزواج، وكثيراً ما عرضوا علي الفتياتِ تلو الفتياتِ أملاً أن تكون أحداهن ملاكاً يكسرُ فرضيتي الغريبة بالتبتل وعدم لزوم الزواج أصلاً!!
        صدِّقني يا (ضياء) لقد كانت تتغشاني سحابةٌ من فكرة ساذجةٍ فحواها أنني لستُ بحاجةٍ إلى زوجة، وحياتي بلا نساء ستكون أفضل.. إلى أن أتى قدرُ الله بالتغييرِ من حيثُ لا أشعر!
        أخذ (ضياءُ) يُنصتُ باهتمامٍ بالغٍ، فلربما حملت هذه القصةُ حادثةً لا تقلُّ طرافةً وغرابةً عن حادثة صديقنا (ساورو)!
        أكمل (سعيد):
        - في موسم حج عام 1426هـ كنتُ قد حزمتُ أمتعتي وحجزتُ تذكرتي على متنِ إحدى حملات حج بيت الله الحرام كأي حاجٍ ينوي ذلك!
        بدأت المناسكُ على ما يرام، وبتنا ليلة التروية في منىً، وحدث أن كان معسكرنا بالقرب من معسكر الجالية العراقية..
        بالقرب من المعسكر كانت هُنالك خيمةٌ أعدَّت كمصلىً للحجيج، وكنتُ من زُملائي نتبادلُ الزيارات إلى معسكر الحجيج نعظهم ونذكرهم ونعلمهم ما عرفناه من أحكام المناسك على قدر علمنا وطاقتنا، وكانت تلك الخيمةُ من نصيبي؛ فصلينا العصر وبدأت أعظُ الناس بما تيسّر حتى بدا التأثُّرُ عليهم كبيراً.. فسرّوا بي كثيراً.. واجتمعوا حولي وطلبوا مني أن أعظهم بشكلٍ خاصٍ في داخل معسكرهم حينما يتيسرُ لي ذلك.
        قبلتُ دعوتهم وعدتُ إليهم إلى معسكرهم أعظهم وأذكِّرهم بالله؛ ولكم كان تأثرهم عظيماً ودمعتهم قريبةً؛ فهم لم يأتوا إلا ليذرفوا العبرات على بلاط الرحمن أملاً في العفو والمغفرة والجنان.
        لكن كلَّ تلك العبرات لم تكن غريبةً علي بقدر ما أثر دهشتي وفضولي مشهد فتاةٍ شابةٍ لم تُجاوز الثمانية عشر ربيعاً أتت مُرافقةً لوالدها العجوز واختارت لنفسها أن تكون خادمةً لكل من في الخيمة من الحجاج وأهل ديارها..تعد طعامهم وتنظّفُ مكانهم وتعينُ محتاجهم في مشهدٍ نادر الحدوث في هذا الزمن العجيب.
        تابع (سعيدٌ):
        - صدقني يا (ضياء) أن تلك الفتاة استحوذت تفكيري وإعجابي وإن لم أشعر بذاك الشعور الخفي نحوها إلاَّ أن خدمتها للحجيج وقيامها على أمورهم وهي في تلك السن الصغيرة لهو عجبٌ والله وأيُّ عجبٍ!!
        تفرّق الناسُ عني بعد انتهائي من خاطرتي، وهممتُ بالعودة إلى معسكرنا لكن قدماي تسمَّرتا على صوت استغاثةٍ ولهةٍ:
        - أبي... أبي.. ماذا جرى لك.. أبي.. أيها الناس ساعدوني لننقل أبي إلى المستشفى حالاً.

        كانت تلك الصرخات تنبعث من جوف تلك الفتاة الشابة التي كانت تخدمُ قومها. التفتَ (سعيدٌ) على ذاك المنظر الأليم، ولكنه شعر ببالغ الإحراج من الاقتراب من تلك الفتاة، وظن أنه من الأجدى أن يدع تلك المُهمَّة لأبناء عشيرتها وقومها؛ فهم أقرب منها دماً وحالاً.
        لكن أحداً لم يُجب تلك الصرخات المكلومة!
        رأى (سعيدٌ) أن الوقت يمضي على ذلك العجوز بلا مُعينٍ من أهله، فقرر أن يكسر قيود الإحراج التي لفَّت أوساطهُ، ويبادر بعون إخوة الدين والعقيدة.
        توجَّه (سعيدٌ) صوب ذلك العجوز وابنته، وبادرها بالسؤال:
        - عفواً أُخيتي.. هل أستطيعُ المساعدة؟!

        لم تعتد الفتاةُ على أن تُحادث الرجال الأجانب؛ ولذا وفي زحمة الحدث وحال والدها لم تستطع التفوّه بكلمةٍ، وبالمقابل فلم تكن تستطيع أن تردَّ مساعدة هذا الشاب لأن قومها لابد أن يأتوا لذلك وإن تأخروا... ولكن وضع والدها أخذ يتدهور..
        اتصل (سعيدٌ) بمركز الإسعاف عن طريق إحدى دوريات الأمن في المخيم، وأوكأ العجوز على كتفه وأخذوا يسيرون صوب المركز الصحي الإسعافي.
        مرَّت بضعُ ساعاتٍ على تواجد (سعيدٍ) بالقرب من هذا العجوز في المركز الصحي، حين استقبل على هاتفه المحمول مُكالمةً عاجلةً:
        - أخيراً التقطتك يا (سعيد).

        - (سعيد): ماذا جرى يا زميل؟!

        - (زميل سعيد): منذُ زمنٍ طويلٍ وأنا أحاول الاتصال بك بدون جدوىً نظراً لزحمة الخطوط. على أية حالٍ أين أنت؟! سنغادرُ الآن إلى عرفة.

        التفتَ (سعيدٌ) إلى ذاك العجوز وابنته: لم يأتِ أحدٌ من قومها للاطمئنان على صحة أخيهم..حتى حينما استعارت تلك الفتاة هاتف (سعيدٍ) لتبلغهم بما حدث أجابوها ببرودٍ شديدٍ ولم يحرِّك أحدهم ساكناً!!
        حدّث (سعيدٌ) نفسه:
        -تُرى ماذا بيدي أن أفعل؟! هل أدعُ القافلة تفوتني؟! قد لا ألاقيهم حتى نهاية الرحلة.. لكن هذه المسكينة لوحدها ووالدها مريضٌ فمن يعينهم وقومُها لم يكترثوا بها!!
        ماذا سأفعل يا ترى؟!
        قال (سعيدٌ) لزميله:
        - طرأ عليَّ طارئٌ وأنا مضطرٌ للتأخر عنكم قليلاً. اسبقوني وسألحقُ بكم بإذن الله. وسنبقى على اتصالٍ بالجوّال.

        تحرّكت حملةُ (سعيدٍ) بدونه بينما فضَّله هو المكوث بقرب العجوز وابنته في المستشفى.
        وفي الليل استيقظَ العجوز أخيراً من غيبوبةٍ هاجمتهُ على إثر ارتفاعٍ حادٍّ في ضغط دمه، وعلى الرغم من كل المحاولات لتهدئته حينما رأى الغرفة خاليةً من أصدقائه بيد أنه انفجر مُنفعلاً لذاك الموقف السيئ الذي قام به أفراد حملته، وخذلانهم له.
        حاول (سعيدٌ) والفتاة تهدأتهُ بدون جدوى؛ فقد كان العجوز مُندهشاً أن ابنته كانت خادمتهم طوال الرحلة وهاهم يخذلونها حينما احتاجت إليهم.
        وبعد جُهدٍ بالغٍ استطاع العجوز أن يسكنَ، وطلب منه الأطباء عدم مغادرة المستشفى لهذه الليلة..
        عندها خرج زمامُ الأمر من يدي (سعيدٍ)؛ فهو مُضطرٌ لمغادرة المستشفى لإتمام المناسك.. وهنا أعطى هاتفهُ المحمول للعجوز وابنته لكي يستخدماهُ إن احتاجا إليه وبدوره سيقوم بالاطمئنان عليهم بين فترةٍ وأُخرى.. وغادر (سعيدٌ) يهيمُ بحثاً عن حملته المفقودة...
        قضى (سعيدٌ) جُهداً طويلاً في البحث عن زُملائه في عرفات الطاهرة، ولكنه لم يهتد إلى مكانهم، ولذلك فإنه أمضى يومه في الأرصفة وبلا غطاءً أو رَكوبٍ، وحتى المال الذي كان يحملهُ لم يكن يكفي حتى لأكله!
        عاد الجميعُ إلى منىً، والتقى (سعيدٌ) بركبه أخيراً، وكذلك فإنه ذهب إلى مقرِّ الجالية العراقية حيثُ وجد العجوزَ بأفضلٍ حالٍ وأتمِّ صحةٍ غير أنه ما زالَ مُغضباً لما فعله به قومهُ، وبعدَ عشرات المديح والثناء التي ألقاها العجوز على (سعيدٍ)، أخذ (سعيدٌ) يُهدِّئُ من غضب العجوز قائلاً:
        - الم تكونوا تخدمون قومكم لوجه الله تعالى واحتساباً لأجره؟!

        فيُجيبُ العجوز:
        - بلى، ولكن ما كان يجدرُ بهم أن يتصرفوا بهذه النذالة.

        فيقولُ (سعيدٌ):
        - احتسب أجرك عند الله تعالى ودعك من التفكير بهم.

        أخذ العجوزُ رقم هاتف (سعيدٍ) وهو يأملُ بردِّ صنيع هذا الشاب اللطيف.
        يُكملُ (سعيدٌ) قائلاً:
        - انتهى موسمُ الحج، وأخذ الحُجاجُ بالمغادرة إلى أوطانهم، ولما كُنا نُعاني من رتابة العمل وروتينِ الدوام فقد قررتُ أن أبقى بجوار الديار المُقدسة بعضاً من الوقت.. غير أن صورة تلك الفتاة لم تغب عن ناظريَّ أبداً!!
        أخذتُ أصلي أستخيرُ الله تعالى في شأن هذه الفتاة وطالباً منه التوفيق والتيسر..
        عجباً لك يا (سعيد)!! لقد عرض عليك أهلك من الفتيات ما يصعبُ حصره، باختلاف الجمال والحسب والثراء لكنك لم تُفكِّر بإحداهُن البتة..آلئن كُسر ذلك الحاجزُ أمام هذه الفتاة؟!
        استلقى (سعيدٌ) على فراشه قائلاً:
        - كم كنتُ غبياً! لم أفكر بفتاةٍ إلاَّ في مناسك الحج.. وحينما أعجبتني تفرّقت الجميعُ إلى حال سبيله! لا بأس قدرُ الله نافذ، ولا أظنُني أحتاجُ إلى امرأةٍ أصلاً!! فلم هذا العناء؟!
        وأسبل (سعيدٌ) لعينيه النعاس استعداداً للتحرك غداً إلى زيارة المدينة النبوية الشريفة..
        مقارعةٌ لسفر أربعِ ساعاتٍ هي المسافةُ ما بين مكة والمدينة المنورة كان (سعيدٌ) يُقضيها على ظهر الحافلة مُمنياً نفسهُ بأجواءٍ من الهدوء والسكينة في تلك المدينة الطيبة..مدينة رسول الله .
        دخل (سعيدٌ) رحاب المسجد النبوي، واستقبل القبلة للصلاة في الروضة الشريفة..ثم أوكأ ظهرهُ إلى عمودٍ يستقوي به على الذكر والعبادة.. وما إن أسند ظهرهُ إلى ذاك الجدار حتى لم يستطع يُقفلَ فاهُ من شدة الدهشة:
        - يا للعجب! هذا هو العجوزُ وابنته!! كيف حدث هذا؟!
        الحجيجُ غادر أغلبهم ديار مكة منذُ بضعة أيامٍ، فما شأن هؤلاء؟!
        استجمع (سعيدٌ) جُرأتهُ وسار نحوهما بخطىً مُرتجفة:
        - السلام عليكم.

        وهنا لم تغب الدهشةُ أيضاً من على العجوز وابنته حيثُ قالا:
        - عجباً! أنت هنا؟!

        هزَّ (سعيدٌ) رأسهُ مُجيباً:
        - لقد وصلت للتو إلى المدينة.. ولكن ماذا عنكما.. ألم تُغادرا إلى العراق مع جاليتكما؟!

        أخفضَ العجوز رأسهُ وأجابت الفتاةُ:
        - لقد حلف والدي ألاَّ يرافقهم في سفرٍ ولا حضرٍ بعدما حدث، وقرر البقاء في المدينة قليلاً..

        أخذت خواطرُ تدورُ في ذهن (سعيدٍ) والذي قرر ألاَّ يُضيعَ فُرصةً كهذه من بين يديه، ولذلك وبحلقٍ جفَّ منه الريقُ قال:
        - أنا أدعوكم اليوم على طعام العشاء وأرجو ألا تردَّا دعوتي.

        رفض العجوز الدعوة وشكر (سعيداً) عليها بيد أن الأخير كان مُصرَّاً.. وبعد جُهدٍ جهيدٍ وافق العجوزُ أن يكون هو الداعي وليس (سعيداً) امتناناً منهُ على ما قام به هذا الشاب..
        وفي المساء تقابل العجوزُ وابنتهُ مع هذا الشاب لتناول طعام العشاء..تبادلوا أحاديث عدةً..عرَّف بها كُلُّ واحدٍ منهما بأصله وأهله وبلدته..كان العجوز بالطبع عراقيَّاً سُنيَّاً من بغداد وتحديداً من الرمادي الباسلة، والتي أذاقت الأمريكان جحيماً لم تُطفئ نيرانهُ حتى الآن..
        تحدَّثوا كثيراً، وكُلَّما همَّ سعيدٌ بالحديث عمّا كان يدورُ في خلدهِ كان يُحجمُ خجلاً..انعقد لسانهُ عن قول أيِّ شيءٍ في ذلك الموضوع!
        ثمَّ هل يُعقل أن يتكلَّم (سعيدٌ) بأمرٍ يخصُّ الفتاة وهي تسمعهُ مُباشرةً؟!
        هذا لا يمكن!
        مرَّ الزمنُ سريعاً.. أنهوا عشاءهم وعاد الجميعُ على نُزُلهم، واستلقى سعيدٌ على فراشه مُستغرقاً في التفكير:
        - أهي فتاةٌ تستحقُّ مني كل هذا الجهد والعناء؟!
        - هل سأتنازلُ أخيراً عن نظريتي في التبتّل؟!
        - هل أتبعُ أسلوباً مُناسباً في الحديث معهما؟!
        - ألا توجد طريقةٌ أسهل؟!
        - يا لغبائك يا (سعيد)! تجشَّمتَ كُلَّ هذا العناء في الحصول على هذه الفرصة للعشاء ثم ينعقدُ لسانُك عن الحديث ولم تبادر بكلمةٍ واحدةٍ!!!

        قرر (سعيدٌ) أن يدعوهم على العشاء مرةً أخرى وأن يُنهي الموضوع بأيِّ طريقةٍ كانت..
        وبجهدٍ لا يقلُّ مثيلاً عن المحاولة الأولى وافق العجوز خجلاً من كرم الشاب.. وكما حدث بالأمس فقد جلسوا يتبادلون الأحاديث الجانبية دون أن يتطرَّقوا لصُلبِ الموضوع!
        أحسَّ (سعيدٌ) بكراهية نفسهِ على هذا الموقف.. ولكنه لم ييأس أيضاً!!
        ذهب الجميعُ لصلاة العصر في المسجد النبويِّ الشريف، ثم خرجوا سالكين دربهم إلى الفندق... حيثُ قرر (سعيدٌ) أن يأخذ زمام المُبادرة وللمرة الأخيرة.. وليحدث ما يحدث بعدها!
        أمسك (سعيدٌ) بمرفق العجوز بلُطفٍ ولينٍ قائلاً:
        - هل نستطيعُ أن نتحدث لوحدنا قليلاً يا عمي؟!

        التفت العجوز إلى الشاب مستغرباً:
        - بالطبع يا بُني.. يا بنيتي! استأخري عني متراً..

        أبطات الفتاة في سيرها قليلاً، حيثُ كان (سعيدٌ) يبحثُ عن الريقِ في زوايا فمه وحلقه، وعن الكلمات في متاهات عقله ورأسه...أغمض عينيه ثمَّ قال:
        - عمي! أطلبُ القرب منكم في ابنتك..

        وصمت (سعيدٌ) في انتظار جوابٍ يُريحُ مُهجتهُ وفؤاده..
        صمتَ العجوز قليلاً، ثم قال:
        - يُشرفني ذلك يا (سعيد) وأنت لخير من يُزوّج.

        هل انتهى الأمرُ بذلك؟! بالطبع لا! فقد بادر (سعيدٌ) بالقول:
        - ولكنني أتمنى يا عمي أن تسأل كريمتكم عن رأيها أولاً..

        هزَّ العجوزُ رأسهُ:
        - لا بُدَّ من ذلك يا بُني.. أما عني فأنا موافقٌ تماماً ولا أجدُ من هو أنبلُ منك. انتظرني قليلاً..

        وتراجع الكهلُ بخطواته مُحاذياً بُنيَّتهُ يهمسُ في أذنها وتهمسُ في أذنه.. ولا يسمعُ (سعيدٌ) شيئاً.. عاد العجوزُ يزفُّ بشرىً مشروطة:
        - أبشر يا (سعيد).. الفتاةُ موافقةٌ، وأنا فخور بك..

        رَجَفَ قلبُ (سعيدٍ) فرحاً، وأخذ برأس العجوز يُقبِّلهُ..ثمَّ ما لبث أن توقَّف على صوت الكهل:
        - ولكن لي شرطاً عندك..

        سأل (سعيدٌ) مُستفهماً:
        - هات يا عمي لك ما تشاء..

        بدت على العجوز ملامحُ السكينةِ وهو يقول:
        - بُنيَّ! إنَّ عندنا في العراق شرطاً أن يوافق على زواجُ البنت بقيةُ أهلها من الإخوة والأعمام.. فلابد من أخذ قولهم أولاً..ثم نُجيبك نهائياً.. ولن يكون ذلك قبل عودتنا إلى الرمادي.

        - (سعيد): أوافقُ.. وأنا بانتظار ردِّكم.

        انتهى الحديثُ الخطيرُ بذلك، واخذ كلُّ الفريقين يُعدُّ عُدَّتهُ للرحيل: إما للخبر وإما للرمادي.. وكلهم يحملُ آمالاً وطموحاتٍ.

        يتبع

        تعليق

        • شذا الجوري
          النجم البرونزي
          • Sep 2006
          • 681

          #34
          تابع الاستطراد ،،


          الزغاريدُ ترتفعُ من في والدة (سعيدٍ) والأبُ يباركُ لابنه خضوعهُ أخيراً لسنة الحياة وتركهُ أخيراً إصرارهُ على عدم الزواج! حدث كلُّ ذلك بشكلٍ سريٍّ في غرفة والدي (سعيدٍ) حتى لا يعلمَ أحدٌ بالأمر قبل وقوعهِ.. وحتى أخواته..
          لكن مع ذلك كله فإن (سعيداً) لم يتلقَّ بعدُ رداً قاطعاً من تلك الأسرة العراقية على طلبه الزواج من ابنتهم، وريثما يحصلُ ذلك عليه تجهيزُ نفسه لذلك تماماً...
          بعد أسبوعٍ تقريباً حيثُ كان يجلسُ (سعيدٌ) في مقر عملهِ في الخبر، استلم (سعيدٌ) اتصالاً من العراق، كان المُتصلُ هو شقيقُ الفتاة حيثُ رحَّب بـ (سعيدٍ) كثيراً، لكنه طلب طلباً مُفاجئاً:
          - يا أخ (سعيد)! هل أنت جادٌّ في الزواج حقاً؟!

          - (سعيد): بالطبع يا أخي..جادٌّ تماماً..

          - (شقيق لمياء): إذن سأُجهِّزُ لك تأشيرة قدومٍ رسميةٍ إلى العراق..فهل أنت مُستعدٌ للقدوم؟!

          - (سعيد): بالطبع.. لاشكَّ في ذلك.. أصدر التأشيرة فقط وتجدُني عندك.

          - (شقيقُ لمياء): جميلٌ جداً.. غادر الآن إلى سوريا، وريثما تصلُ ستكونُ تأشيرتُك جاهزةً و سأدلُّكَ على الطريق.

          أقفل (سعيدٌ) الخطَّ، و توجَّه صوب مكتب المُدير يطلبُ إجازةً طارئةً.. قرع الباب، وبعدما سمع الإذن بالدخول دفع باب المكتب، وقال مُحيياً:
          - السلام عليكم. كيف حالك أستاذ خالد.

          - (المدير خالد): وعليكم السلام ورحمة الله.. أهلاً يا (سعيد). تفضل بالجلوس.

          قال (سعيدٌ) وهو يهمُّ بالجلوس:
          - لن أطيل عليك أستاذي الفاضل فأنا أُقدِّرُ انشغالك.. لكننني أودُّ استئذانك في إجازةٍ طارئةٍ إذا لم يكن لديك مانع..

          - (المدير خالد): أخيراً يا (سعيد) قررت أن تأخذ إجازة؟! مضى عليك عامين كاملين بدون إجازاتٍ فما الذي حدث لك؟!

          - (سعيد): هل تكتمُ السر لو أخبرتُك؟!

          - (المدير خالد): بالطبع هذا مؤكَّد.

          اقترب (سعيدٌ) من المدير وأثنى الأخيرُ أُذنهُ حيثُ همس (سعيدٌ): - سأتزوّج!

          قهقه المديرُ عالياً، وارتدَّ على مقعده الوثير ضاحكاً.. فليس من موطنٍ أشدُّ داعيةً للضحك والسخرية من هذا الشاب الذي كان يرفض الحديث ولو مجرد الحديث عن الزواج.. فهل نزل عليه الإلهامُ والرشدُ فجأةً؟!
          اندفع (سعيدٌ) قائلاً:
          - أنا لا أمزح يا أستاذ خالد.. لقد عدلتُ عن رأيي فلذا اسمح لي أرجوك في إجازة زواجٍ!

          التفت المدير (خالد) إلى (سعيدٍ) قائلاً:
          - تبدو جادَّا... على أية حال أوافق ولكنني أُريدُ رؤيتك في الغد لأتأكد من بقاء الفكرة في ذهنك!

          - (سعيد): لك ذلك.

          وخرجَ سعيدٌ يحزمُ أمتعتهُ للسفر، ويشتري ما ناسب من لباسٍ وهدايا لهذه المُناسبة السعيدة..
          صحيحٌ أن الوضع المادِّيَّ لـ (سعيدٍ) لم يكن سيئاً، غير أنه لم يكن مُستعداً للزواج أصلاً، فلم يكن لديه سوى قليلٍ من المال بالكاد يكفي لتكاليف السفر فضلاً عن الزواج، بيد أنه شعر بأن شيئاً يُعينُهُ على التقدم في هذه الخطوة الجريئة!

          دخل (سعيدٌ) مكتبهُ في اليوم التالي، وبمجرَّد جلوسه على مكتبه رنَّ هاتفهُ يحملُ اتِّصالاً من مديره الأستاذ خالد يطلبُ منهُ القدومَ على مكتبه الآن وفوراً..
          وبعد الطرق على باب المدير وسماع الإذن بالدخول كان (سعيدٌ) يقفُ أمام مديرهِ مُباشرةً..
          - (المدير خالد): أظنُّك وكعادتك غيَّرت أمرك بالنسبة لموضوع الزواج!

          قال (سعيدٌ) بسخريةٍ:
          - للأسف لا.. مازلتُ مُصرَّاً!!

          هز المديرُ رأسهُ وهو يُخرجُ من أحد أدراج مكتبهِ مظروفاً قائلاً:
          - حسناً يا (سعيد).. هذه إجازتُكَ مدفوعة الراتب، وهذا الظرفُ لك.. افتحهُ في مكتبك.. ومباركٌ مُقدَّماً لك الزواج...

          - (سعيد): بورك فيك مديري الفاضل.. ولكن ماذا في الظرف؟!

          - (المدير خالد): تعرفُ ذلك في مكتبك.

          خرج (سعيدٌ) من مكتب مديرهِ مُتلهِّفاً لرؤيةِ ما يحملهُ هذا الظرف.. وما إن استقرَّ جسدُهُ على الكرسيِّ حتى فتح المظروف.. ولكنه صاح مُندهشاً:
          - يا إلهي!! ما هذا؟!

          لم يُكمل (سعيدٌ) عبارتهُ حتى كان يطرقُ باب مديره ثانيةً، ثم يقولُ لمديره:
          - ما هذا يا أستاذ خالد؟!

          التفت المديرُ إلى (سعيدٍ) قائلاً:
          - مجرد هديةٍ بسيطةٍ مني إليك، أرجو أن تقبلها..

          - (سعيد): ولكنني لا أحتاجُ لكل هذا المبلغ يا أستاذ!

          - (المدير خالد): أعرف أن فكرة الزواج لديك أتت فجأةً ولذلك فإنه من المؤكد أن رصيدك لا يحملُ الكثير..

          - (سعيد): ومع ذلك لكنني أجدُ نفسي مُضطراً لعدم قبوله.
          - (المدير خالد): لا بدَّ من ذلك، أو تُقدِّمُ استقالتك من العمل!

          لم يكن المديرُ يقصدُ من ذلك إلا أن يقبل (سعيدٌ) هديته الرائعة والتي كانت عن شيكٍ بنكيٍّ بقيمة خمسين ألف ريالٍ سعوديٍّ كهدية زواج (سعيد)!!
          خرج (سعيدٌ) شاكراً ممتناً صنيع مديره في وقت هو في أمس ما يحتاجهُ إلى المال لإتمام هذا العقد المُبارك.

          تعليق

          • شذا الجوري
            النجم البرونزي
            • Sep 2006
            • 681

            #35
            نتابع الاستطراد ،،



            رفع (سعيدٌ) سمَّاعة الهاتف طالباً رقم منزلهم في الخبر حيثُ أجابت أخته الصُغرى:
            - صباح الخير يا (سعيد).. كيف حالُك؟

            - (سعيد): بخيرٍ والحمد لله، وفي سعادةٍ لا تُوصف.

            - (الأخت الصغرى): بالطبع في الأراضي لا بُدَّ أن تكون سعيداً.. ولكن يا للحسرة ليتك ذهبت لعمل شيءٍ مُفيد!

            - (سعيد): بالطبع كان مُفيداً بل عظيماً يا أُختي.. فلقد تزوَّجت.

            دوَّت قهقهةٌ عالية الصدى في أذن (سعيدٍ) وهي تقول:
            - تلك أجمل نُكتةٍ سمعتها في حياتي! (سعيدٌ) يتزوَّج!! وهل لك أن تُخبرني باسم زوجتك أيضاً؟!

            - (سعيد): لا أكذبُ يا أختي.. فلقد تزوَّجت حقاً من فتاةٍ عراقيَّةٍ اسمها (لمياء).

            ضحكةٌ هستيريةٌ أخرى سمعها (سعيد) أردفتها أخته بقولها:
            - نعم هذا ما حدث! ذهبت لتُجاهد – على الرغم من منع والديك- فتزوجت بالخطأ!

            - (سعيد): كفاكِ مُزاحاً يا أختي.. ألا تودين الحديث مع زوجتي لتباركي لها على الأقل؟!

            - (الأخت الصغرى): بالطبع لا.. فلن تنطلي عليَّ كذبتك.. لكنها قد تنطلي على أختك الكبرى.. هاكَ حدِّثها!

            جرى حديثٌ مُشابهٌ لنفس الحديث مع الأخت الكُبرى دونما اقتناعٍ كاملٍ؛ حتى بعدما حدّثت زوجة (سعيدٍ) حيثُ تحرَّكت القناعةُ قليلاً.. لكن ليس كما يجب.. لكنها بدأت تُصدق بعد حديثها مع والديها على وقعٍ كبيرٍ من الدهشة والذهول! وأمّا الأختُ الصُغرى فلقد أُغمي عليها بعد سماعها الحقيقية!
            عاد والديْ (سعيدٍ) إلى الخُبر في اليوم التالي، وأمّا العروسين فلقد أمضيا وقتاً سعيداً في تلك الأجواء الشامية الساحرة، والخُضرة المُتجددة، حيثُ تحرَّكا بعد أسبوعين إلى الأردن، حيثُ سيُتمّا هُنالك إجراءات الاستقدام لزوجة (سعيدٍ)..
            كان (سعيدٌ) سعيداً حقَّا بتلك الزوجة البرة النقية، نعمت الزوجة هي، ونعمت العابدةُ هي، تُعين زوجها على الذكر والعبادة و قراءة القرآن، وتُذكِّره الله في جميع حاله، وفي حلِّه وترحاله، لا تكلُّ في وقتٍ من الصلاة وقراءة القرآن..
            توجَّه الزوجين إلى الأردن، حيثُ تعهّد مُدير الشركة التي يعملُ فيها (سعيدٌ) لعمل كُلِّ اللازم لإجراءات استقدام زوجة (سعيدٍ) إلى المملكة العربية السعودية، بيد أن خَبَراً كالصاعقة هوى على هام (سعيد)!
            حين توجَّه (سعيدٌ) إلى السفارة السعودية في عمّان أُبلغَ هُنالك بمنع استقدام أو دخول العراقيين لأيِّ سببٍ كان ومهما كانت الواسطة!
            حاول (سعيدٌ) بشتى الطُرق.. قابل القُنصلَ السعودي.. لا جدوى؛ فالأمرُ خارجٌ عن قرارات القُنصل أو غيرهِ؛ فهو قرارٌ من وزارة الداخلية السعودية.
            اتَّصلَ (سعيدٌ) بكل من يعرفهُ ويقدرُ على مُساعدته.. وسعى كلٌّ منهما بجُهده.. غير أنه كان الأمرُ مُتعذِّراً تماماً!!
            بدأ اليأسُ يدبُّ في قلبه الطيب.. وعاد يحملُ الهمَّ يشكوه إلى زوجته المسكينة.. غير أنها كانت أقوى منه!
            دخل (سعيدٌ) الفُندق حزيناً، فابتدرتهُ زوجتهُ قائلةً:
            - ما بالُك يا (سعيد).. تبدو حزيناً على غير عادتك؟!

            تنهَّد (سعيدٌ) وقال:
            - صحيحٌ يا عزيزتي.. فلقد اخبروني أنه من المُستحيل تماماً إدخالك إلى السعودية كونكِ عراقيَّة الجنسية.. ولذلك ما أمامنا من حلٍّ ولا مفرَّ.

            - (لمياء): أخبرتني يا عزيزي أنك ستتصلُ بأشخاصٍ متنفِّذين ويملكون واسطاتٍ قويةٍ ستُساعدُ بلا شك..

            - (سعيد): نعم، لقد فعلت ولكن ما من فائدةٍ..

            بدت ملامحُ الجِدِّ على مُحيا العروس الصغيرة وقالت:
            - عجباً لك يا زوجي الغالي! طرقت جميع الأبواب ولم تطرق باب ربِّ الأرض والسماوات؟!
            هلمَّ بنا فلنبتهل إلى الله ونسأله الفرج، فلعلَّ الله أن يُفرِّج كُربتنا..
            دُهش (سعيدٌ) لما سمعه من هذه المرأة الصالحة، فلطالما سعى وحاول ولكنه تغافل عن اللجوء إلى رب الأرباب ومُسبب الأسباب.. وشعر بقوةٍ وطُمأنينةً تسري في بدنه وتوجّها إلى الله بالتضرُّع والابتهال..
            محاولاتٌ كثيرةٌ وأشهرٌ عديدةٌ مرَّت على العروسين وهما يتنقَّلان ما بين السفارات السعودية واليمنيّة والعراقية في سوريا والأردن.. دونما فائدة.. غير أن السفير اليمنيَّ ألمح إلى إمكانية حلِّ فيما لو توجَّه إلى صنعاء..
            توجَّهت الجهودُ الآن إلى استصدار تأشيرة دخولٍ لزوجته إلى اليمن؛ فمنذُ غزو العراق عام 2003م والحكومةُ اليمنيةُ تمنعُ دخول أحدٍ من العراقيين لا يحملُ تأشيرة دخول، فاستغرق ذلك جهوداً مُضنيةً وأوقاتاً عصيبةً طويلة..
            وبعد عناءٍ لا يُوصف استطاع (سعيدٌ) أخيراً أن يُصدر تأشيرةً لزوجته ويتوجَّها إلى العاصمة اليمنية صنعاء.
            تُرى ما هي فكرة الحل التي ألمحَ إليها السفير اليمنيُّ في الأردن؟
            كانت الفكرةُ تقومُ على أنه قانوناً يصحُّ منحُ الجنسية اليمنية لأي امرأةٍ متزوجةٍ من يمنيٍّ لأكثر من خمس سنوات.. بمعنى آخر الهدف من القدوم إلى صنعاء هو تغييرُ جنسية (لمياء) إلى اليمنية بدلاً من العراقية، ويصبحُ بعد ذلك من السهل إدخالها إلى المملكة العربية السعودية.
            طرق (سعيدٌ) باب جميع المسؤولين، ولم يدع مكاناً ولا واسطةً إلاَّ استعان بها، ولكن الروتين المُملَّ كان سيدَ الموقفِ في تلك الديار، ولذلك فقد استغرق الأمرُ زمناً طويلاً.. وبصراحةً فإنَّ زواجاً كانت هذه بدايته لهو مؤشرٌ لدى البعض بالانفصال وترك هذا العناء.. ولكن هذا لم يحدث مع العروسين؛ فلقد كان (سعيدٌ) صابراً مُحتسباً مُثابراً في تحصيل مأربه، ولم يجعله ذلك مُفرطاً في زوجته الرائعة والتي لم تكن تفتُر هي عن الصلاة والذكر والدعاء.. ولطالما كانت تُذكِّرُ زوجها بالصبر والاحتساب..
            وعلى صغر سنِّها فلقد كانت زوجةً رائعةً ومثالاً يُحتذى به لفتيات عصرنا..
            كانت تُمضي الساعات الطِوال مع زوجها تتدارسان القرآن والتفسير والرقائق والأذكار وأحياناً السيرة، وتُوقظُ زوجها لصلاة الليل وللابتهال لرب العباد.
            مضت على (سعيدٍ) منذُ زواجه إلى الآن أكثر من عامٍ مُتشرِّداً بين سوريا والأردن واليمن.. رُزق خلالها بمولودةٍ جميلة.
            وعودٌ كثيرةٌ حصل عليها (سعيدٌ) بشأن حصول زوجته على الجنسية اليمنية كانت أقلَّها أن تُمضي الزوجةُ في رفقته ما لا يقلُّ عن ثلاث سنين.
            اقتربت إقامةُ (سعيدٍ) وتأشيرتهُ في السعودية على الانتهاء، فكان أن ترك زوجتهُ في شُقَّةٍ بمقابل أحد معارفه ليقوم على شئونهم عن احتاجوا، وغادر الديار اليمنية إلى الخُبر لتجديد إقامته.. وفي هذه الرحلة كان لقاؤه بـ (ضياء) وذكرهُ لخبرهِ مع زوجته (لمياء)!
            قال (ضياء) مُتعجباً:
            - إنَّ قصتك والله لعجبٌ جديرةٌ بالذكر والتدوين مع قصة صديقنا (ساورو)..

            - (سعيد): وما هي حكايةُ (ساورو)؟!

            - (ضياء): هاكَ اسمع مختصر روايتي!

            وأخذ (ضياء) يسردُ الأحداث المثيرة لـ (ساورو) آملاً أن يجد لدى (سعيدٍ) حلاً ناجعاً وترياقاً مُفيداً لهذه الحادثة الرهيبة والقصة الغريبة..
            ذُهل (سعيدٌ) جداً.. وطلب من (ضياء) رؤية (ساورو) أو الحصول على ملفه الشخصي ليتمكن من السعي به الديار السعودية بين المشائخ والوجهاء.. والحلُّ لدى (سعيدٍ) كان موجوداً والوساطاتُ معلومةٌ متعاونة..
            وصل الجميعُ مبتغاهم في الدمام، وتفرَّقوا على أمل إيجاد حلٍ عاجلٍ لأخيهم (ساورو).


            يتبع

            تعليق

            • شذا الجوري
              النجم البرونزي
              • Sep 2006
              • 681

              #36
              ما بعد الاستطراد ،،

              الفصل الثلاثون:


              (ضياءُ) مرةً أخرى في طريق العودة إلى العاصمة اليمنية "صنعاء" بعد قضاء إجازةٍ اضطراريةٍ في الدمام لمدة عشرة أيامٍ...ملفاتٌ كثيرةٌ تنظرهُ هناك، غير أن قضية (ساورو) كانت على رأسها جميعاً..على أنها أقلها حظاً وتقدّماً..
              تم الوصول بحمد الله، وتقابل الرفاق مُجدداً وتكرر السؤال عنه أيضاً، لكن (ساورو) أتى بما لم يخطر للجميع على بال..
              سأل (ضياء) صديقهُ (سمهر) عن (ساورو)، فأجاب (سمهر) وعلامات الاستغراب ارتسمت على مُحيّاهُ:
              - هل تُصدِّق أنني ومنذُ سفرك إلى هذه اللحظة وأنا لم أُوفق بمحادثته ولو لمرةٍ واحدة!

              - (ضياء): معقول؟! كيف ذلك؟!

              - (سمهر): هذا ما حدث، أحاول الاتصال بهاتفهِ مراراً وتكراراً دون فائدةٍ؛ فهو لا يُجيبُ على هاتفه منذ ذلك اليوم!!

              - (ضياء): ولماذا يا تُرى؟! هل حدث له مكروهٌ؟!

              - (سمهر): لستُ أدري تماماً.. لكنني أستبعدُ ذلك..ومع ذلك فلابد أن أصل إلى خبرهِ بأيِّ طريقةٍ كانت...

              - (ضياء): أكون سعيداً بذلك..أرجو أن تخبره بضرورةِ لقائي به.

              وما زالت أخبارُ ذلك الشاب طي الكتمان عنا لُمدةٍ ليست بالقصيرة؛ شارفت الشهر بعِدَّتِها...وحقيقةً كان القلقُ يسودُ الجميعَ لهذا الصمت المُطبق!

              ويومٌ من أيام الدوام الروتينية في مستشفى الكويت الجامعي، وبينما كان الطبيبُ يأخذُ نفساً يستريحُ به من عناء ساعتين من المناقشة العلمية، كان (ضياء) يلتفتُ إلى زميلهِ (سمهر) قائلاً:
              - ألم يصلك جديدٌ عن (ساورو)؟

              أطبق (سمهر) شفتيه بألمٍ، وقال:
              - هنالك الكثير لأقوله لك وتطوراتٌ كثيرةٌ حدثت!

              تغيّرت ملامحُ (ضياء) بشوبةٍ من الدهشة والقلق، قال على إثرها:
              - هل حدث مكروه؟!

              بينما كان (سمهر) يُحافظُ على هدوءهِ قائلاً:
              - سأخبرك بعدما نخرج..

              انقضت تلك المُناقشةُ بطيئاً على (ضياء) وهو ينتظر سماع جديد أخبار (ساورو) والتي انقطعت مُنذُ شهرٍ تقريباً.. حتى انفضَّ الجميعُ وأخذ الصديقين طريق عودتهما إلى منزليهما..بادر (ضياءُ) قائلاً:
              - أخبرني يا (سمهر) ما هو الجديدُ لدى (ساورو)؟! أحدث له مكروهٌ؟!

              هزّ (سمهر) رأسهُ بعلامةٍ لا تخلو من الأسى وقال:
              - حدثت له أمورٌ كثيرةٌ وتطوراتٌ خطيرةٌ أسأل الله أن يُفرِّجَ عنه.

              قال (ضياء) قلقاً:
              - أخبرني يا (سمهر) ما الذي حدث له:

              أشار (سمهر) بإصبعه نحوه رقبته:
              - هكذا قال له والدهُ!

              توقَّفت الدماءُ في عروق (ضياء) على وقع الخبر السيئ الذي فُوجئ به؛ فلم يكن يظن أن الأمور ستتطور بهذا الشكل.. لكنه استجمع ريقهُ ليُرسل به إلى زميله استفهاماً:
              - كيف حدث ذلك؟!

              رد (سمهر) مُتأسِّفاً:
              - إنها صدمةٌ حقاً؛ فهو يُحبُّ والدهُ كثيراً، ولم يكن يظنُّ للحظةٍ أن والدهُ قد يُفكرُ في قتله!! كيف يمكن أن يكون هذا؟! ابنٌ يحبُّ والدهُ غاية الحب وأبٌ يكره ابنه غاية الكره حتى أنه مستعدٌ لقتله!

              توقف (سمهر) قليلاً بيد أن (ضياء) كان يستحثُّهُ لاستكمال ما بدأه من خبر (ساورو).. فتابع (سمهر):
              أرسل رسالةً موجزةً إلى أحد أصدقاءه يقول فيها:
              - ( لم أعد أستطيع التحرُّك بحريةٍ ولذا أعتذر عن التواصل.. أرسل لي والدي:
              "إن لم تأتني أتيتُكَ وإن أتيتني قتلتُك"!!!
              أطلب منكم الدعاء لي)!!

              كان (ضياء) يعضُّ على أسنانه مُغضباً لما سمع، وبدا أن مشروع إخراج (ساورو) من صنعاء لابد أن يتم بوتيرةٍ أكثر سُرعةً علّهُ يُوفقُ للنجاة!!

              أمّا سبب ما حدث مع (ساورو) فكان في مساء أحد الأيام حيثُ كان يهاتفُ والديه للاطمئنان عليهما وسؤالهما عن حالهما، وليطمئنا كذلك على وضعه في صنعاء.. بدا والديه ودودين جداً، لم يسألاه شيئاً عن إسلامه.. يبدو أن الغربة ألانت قلبيهما فلم يعودا يُفكران بإسلامه بقدر ما يُفكران بما يربطهما به.. حيث أنه ابنهما الحبيب.. ولاشك فإن (ساورو) كان يُحبُّ والده أشد الحب وكان متعلقاً به للغاية...فسرَّه غاية السرور والسعادة أن يرى والده هيناً ليناً يُراعيهِ في إسلامه وربما كان طريقاً رخصاً لإسلامهم.. ومن يدري؟!
              بات (ساورو) ليلته تلك سعيدا بعض الشيء لحال والديه...فعلى ما يبدو أنهما وافقا أخيراً على إسلامه ولم يعودا يمانعان في ذلك.. حال الكثير من الشباب الأرمني الذي اعتنق الإسلام..
              لذا يبدو أنه آن الأوان لأصارحهما بالحقيقة، وأخرج أخيراً من هذا الضغط النفسي القاهر، والشعور بعداوة الناس جميعاً إلى حياةٍ مستقرةٍ لا دخل لأحدٍ فيها.. لذا سأُعطي تلميحاً غير مفهوم!

              اتصلت (ساورو) بوالدته للاطمئنان عليها مؤانستها، فلقد كانت تحبه حباً عظيماً قلَّما يُعدلُ به حبُّ.. فكانت الأُمُّ تسألُ ابنها عن أحواله وأخباره. فأجاب (ساورو):
              - أنا بخير وسعيدٌ، وأريدُ رضاكِ يا أمي..

              - (الأم): أنا راضيةٌ عنك دوماً.. ولكن لماذا هل حدث معك شيء؟!

              - (ساورو): كلا.. ليس بعد!

              - (الأم): ماذا تقصدُ بـ"ليس بعد"؟! بلا شك أنهم المسلمون.. لقد أفسدوا دينك وعقلك ولابدَّ أنك أسلمت!

              - (ساورو): كلا يا أمي، لا تفهمي خطأً.. لم أسلم ولم أفكِّر بذلك..

              - (الأم): كلا.. لا يمكنك خداعي.. لابُدَّ من إخبار والدكَ ووضعِ حداً لهذا الأمر.
              ومع اليوم التالي كانت الصاعقة الكبرى!
              استقبل (ساورو) مع صباح اليوم التالي اتِّصالاً هاتفياً من والده بينما كان الأوَّلُ في مقرِّ الشركة.. رفع (ساورو) هاتفهُ إلى أذنه:
              - صباحُ الخير يا أبي.. كيف حالُك؟!

              - أنا بخيرٍ أيها الشقي.. سأسألُك سؤالاً واضحاً ويجبُ أن تُجيبَ عنهُ بسرعةٍ ووضوحٍ وإلاَّ أتاك ما تكره!

              صالت الأفكارُ وجالت في ذهن (ساورو) حول هذا السؤال وهذه الطريقة التي باتت مُعتادةً ومألوفةً لديه.. أجاب بثقةٍ:
              - سل يا أبي.. عسى أن يكون خيراً..

              - (الأب): ماذا يُنادونك زملاؤك في الشركة؟!

              - (ساورو): وهل هذه تحتاجُ إلى سؤال؟! بالطبع (ساورو)!

              - (الأب): أنت تكذب.. لا يُنادونك ولا يعرفونك في الشركة إلاَّ باسم (حمزة).. أي انك أصبحت مُسلماً رسمياً..

              - (ساورو): هذا هُراء.. هذا غيرُ صحيح.. كاذبٌ من قال لك هذا يُريدُ توريطي وحسب..

              قال الأب بغضبٍ واضح وشررٍ يتطايرُ من عينيه:
              - بل على العكس فمصادري موثوقةٌ.. فلقد أخبرني السفيرُ السوريُّ بذلك وتحققَ هو بدوره من الأمر..

              - (ساورو): كلا يا أبي..

              انفجر والدهُ انفجار المرجل ولم يدع ابنهُ يُدافعُ عن نفسه.. فأرعد وأزبد.. وَعَدَ وتوعّد... وأصبح الانتقامُ مسألة وقتٍ لا أكثر.. وكان مما هددَ به ابنه:
              - سأقتُلكَ أيها الخائنُ بيديَّ هاتين.. سأشبعُ من دمك الكافر! هيّا تعال إليَّ الآن ودونما أدنى مُبرر!
              - (ساورو): أبي! ليس الأمرُ بهذه البساطة.. أولاً أنا لم أُسلم وأنا هُنا في اليمن لأعيش حياتي وأبني نفسي بنفسي، ولقد وعدتكُم سلفاً بالقدوم في الصيف.. ولذلك لا أستطيعُ أن آتي..

              قال (الأبُ) بنبرةٍ تدلُّ على نفاد صبرهِ:
              - بل ستأتي.. قدِّم استقالتكَ وتعالَ فوراً..

              - (ساورو): لا أستطيعُ يا أبي.. لقد طلب الرئيسُ إنهاء المشروع قبل موعدهِ ولذلك فإننا نعملُ الآن ليلاً ونهاراً ولذلك فإنني لا أستطيعُ أبداً..

              صرخ الأبُ مُجيباً:
              - معكَ مهلةٌ إلى نهاية شهر أبريل لكي تُنهي جميع التزاماتك في الشركة وتأتي وإلاَّ أتيتُكَ بنفسي أو أُحضرك عن طريق الشُرطةِ الدولية (الإنتربول).. وأنت تعرفُ قُدرتي على ذلك جيداً..

              أقفل (ساورو) خط الاتصال وهو يُفكِّرُ بطريقةٍ يخرجُ بها من هذا المأزق؛ فلقد كان مُستغرباً أن تصل استخباراتُ أبيه إلى حد باب شركته! ولذلك قرر (ساورو) أخذ احتياطاتٍ مُشددةٍ ومنها حصرُ تحرُّكاته ما بين الشركة والسكن فقط حتى تُحلَّ الأزمة.
              وبعد عزلةٍ لـ (ساورو) عن العالم الخارجي راوحت شهراً خشية انتقام والده وقريبه (أصلانيان) استطاع (ساورو) باتصالٍ هاتفيٍّ ذكيٍ أن يُبرِّدَ الأجواء باللُطف مرةً أخرى:
              -(ساورو): والدي الحبيب أودُّ إخبارك شيئاً مهماً..

              - (الأب): لا حاجة لك لتخبرني شيئاً.. مسألة إعدامك ليست سوى مسألة وقت!!

              - (ساورو): دعك من هذا يا أبي... فلقد كنتُ مخطئاً باعتناقي للإسلام، حيثُ أنني لم أكن واعياً لما يجري من حولي.. والآن ارتددتُ للنصرانية ثانيةً..

              - (الأب): أوتظنني مُغفلاً يُضحكُ عليه بأكذوبةٍ كهذه؟! لن أصدقك أبداً..

              - (ساورو): بل صدِّق يا أبي... وإن شئت أن تأتي لتتأكد من ذلك بنفسك فأنا بانتظارك!

              - (الأب): وما الذي أقنعك بترك الإسلام أيها الفتى الغر؟!

              - (ساورو): أشياءُ كثيرة، غير أن المعاملة التي كانوا يعاملونني إياها وأنا نصرانيٌّ كانت أفضل من معاملتهم لي كمسلمٍ بعد الإسلام... فوجدتُ النصرانية أفضل لي!

              - (الأب): مازلتُ لست مقتنعاً.. فالإسلام علّمك الكذب على ما يبدو!!! ولا بُدَّ أن تأتي لأُصدِّق ما تقول..
              - (ساورو): صدِّق أو لا تُصدق ... أخبرتك أنني عدتُ للنصرانية وأنا بانتظارك للتأكد من ذلك ... وأما قدومي فلقد وعدتُك بالعودة وأنا على وعدي ولابُدَّ من رؤيتكم قريباً!

              بدا والدُ (ساورو) شبهَ مُقتنعٍ لما يقوله ابنهُ.. ولذلك فلقد أنهى اتصاله بقوله:
              - سأتغاضى قليلاً عن قتلك على أن تبقى تحت المُراقبة المُكثَّفة من السفير ومن عمك (أصلانيان).. وسأفكِّر بالموضوع بطريقةٍ أُخرى..

              يتبع

              تعليق

              • شذا الجوري
                النجم البرونزي
                • Sep 2006
                • 681

                #37
                الفصل الواحدُ والثلاثون:
                الاثنين الرابع عشر من شهر مايو عام ألفين وسبعة للميلاد. يُغادرُ (ضياء)
                مُستشفى الأمل بعد زيارةٍ لم يُكتب لهُ فيها مُقابلة الطبيب/ محمد المقرمي،
                حيثُ يُفترض أن يوافق الأخيرُ على طلبٍ من (ضياء) وزملائه للإشراف عليهم في بحث
                التخرج.. بيد أن الدكتور محمد المقرمي قد غادر بالأمس إلى أرض الكنانة – مصر-
                في زيارة عمل.
                وبمجرد خروج (ضياء) من المستشفى كان يتَّصلُ بصديقه وزميله (سمهر) لإخباره
                بالأمر، ولأنه قد أخبر (سمهر) بأنهُ قد حان الأوان لزيارة (ساورو) ولو في مقر
                عمله:
                - (ضياء): السلام عليكم.. صباح الخير يا (سمهر).

                - (سمهر): وعليكم السلام ورحمة الله، صباح النور يا (ضياء).

                - (ضياء): لم يكن حظُّنا جيداً كما يجب، فلقد وجدتُ أن الدكتور محمد المقرمي
                سافر بالأمس إلى مصر.

                - (سمهر): لا بأس، ما زالت أمامنا خياراتٌ أخرى..

                - (ضياء): نعم، هذا صحيح. أخبرني يا (سمهر) في أيِّ مكانٍ من الجامع سأجدُ
                (ساورو)؟!

                - (سمهر): هل أنت مُصرٌّ على ذلك؟! أما عني فإنني لا أرغبُ بالذهاب لأنني أخذتُ
                منهُ موقفاً على إخلافه مواعيده في الأيام الماضية وأنت تعرف.

                - (ضياء): أعلمُ ذلك، ولكن ربما كان لهُ عُذراً..

                - (سمهر): بعض النظر عن ذلك، لن أذهب.. لكن إن أحببت الذهاب فاتَّجِه على
                البوابة الرئيسية وأطلب زيارة موقع معامل الخشب.. هذا بالطبع إن سمحوا لك
                بالدخول لأن الجامع تحرسهُ قواتٌ من الحرس الرئاسي، وهو منطقةٌ محظورةٌ نظراً
                لزيارات الرئيس المُتكررة على المكان. فإذا وصلت تسأل عن صديقي (عبد المُعز)
                حيثُ أنهُ مديرٌ في هذه الشركة، وأنت تعرفه بلا شك... ولكنهم لا يعرفونه إلاَّ
                باسم (مُعتز).. فانتبه لهذا. ومن المحتمل ألاّ تجد (معتز) فاسألهم عن (حمزة)..

                - (ضياء): وكيف سأعرفُ (ساورو) إن قابلتُهُ بالصدفة؟!

                - (سمهر): لا عليك.. فقط شخصٌ يبدو شكلهُ صغيراً!!

                تغيَّرت ملامحُ (ضياء) باندهاشٍ وقال: ماذا تعني هل يكفي هذا لأعرفهُ؟!

                - (سمهر): بالطبع.. صدِّقني هذا كافٍ لمعرفته..

                - (ضياء): لا بأس في ذلك.. سأُحاولُ الدخول بإذن الله.

                أغلق (ضياء) خطَّ الهاتف، واستقل من فوره سيارة أجرةٍ إلى المكان..
                الجامع ضخمٌ.. وورشُ البناء تُسابقُ الزمن للانتهاء، الطُرقُ المُحاذيةُ للجامع
                مُغلقةٌ أيضاً بسبب حفريات أنفاق خط الستين.. ومن بين الكثير من الالتفافات
                والحراسات المنطقية واللامنطقية يصلُ (ضياء) إلى البوابة الشمالية للجامع.. غير
                أنه لم يتمكَّن من الدخول؛ حيثُ أخبرهُ الحرس بان البوابة الخاصة بالزيارات هي
                البوابة الجنوبية.
                استدارت سيارةُ الأجرة باتجاه البوابة الجنوبية.. حتى وصلت على مُبتغاها حيثُ
                كان يقفُ بضعةُ حُرَّاسٍ من الحرس الرئاسي حيثُ استوقفوا السيارة..
                - (الحرس): ماذا تريدون؟!

                - (ضياء): نُريدُ زيارة صديقٍ لي في ورشة الخشب – قسم القِباب.

                - (الحرس): ولماذا لا يأتي هو لزيارتك؟

                - (ضياء): لا يعرفُ بالطبع أنني قادمٌ.

                - (الحرس): إذن اتصل به ودعه يأتيك هو..

                - (ضياء): ليس لدي صدقاً رقمُ هاتفه..

                نظرَ الحارسُ إلى (ضياء) نظرة استغرابٍ ولما رأى (ضياء) استغرابهُ قرر أن
                يُبادره ويُضيِّقَ موقفهُ، فرفع عن عينيه نظارتهُ الشمسية، وسحب بطاقتهُ
                الجامعية ومدَّها إلى الحارس:
                - ما بكَ أيها الحارس؟! هل أنت خائفٌ مني أو من شكلي؟!

                - (الحارس): أبداً يا سيد.. لم أقصد ذلك.. حسناً أيُّ شركةٍ تُريد زيارتها؟!

                جالت في ذهن (ضياء) فكرةٌ فجأةً! مفهومها أن (سمهر) أخبره أن اسم الشركة على ما
                يظن هو (Gulf Tec)، وأيُّ خطأٍ في اسم الشركة قد يفهمُ الحارسُ منه أن (ضياء)
                لا يعرفُ عن هذه الشركة شيئاً.. على أية حال ليس لديه خيارٌ آخر..
                - (ضياء): إنها شركة (Gulf Tec)..

                - (الحارس): تقصدُ الخليج؟!

                - (ضياء): بالطبع إنها شركةُ الخليج..

                - (الحارس): حسناً لا بأس.. ولكن موقع الشركة بعيدٌ من هنا، وكما أنك ستغوصُ في
                الوحل والأتربة ومواد العمل.. لذا فانتظر حتى تأتيَ إحدى سيارات الشركة – وهي
                كثيرةٌ- لتُقلك إحداها..

                - (ضياء): إنني مُستعجل.. ولا يُهمُّ ذلك...

                - (الحارس): صدِّقني ذلك أفضلُ لك.. انتظر لحظةً من فضلك.

                دخل الحارسُ إلى غرفة الحرس وأحضرَ كُرسيَّاً وقدَّمهُ إلى (ضياء) ريثما تمرُّ
                إحدى سيارات الشركة..
                انتظر الجميعُ فترةً من الوقت.. قدَّم الحارس خلالها صحيفةً إلى (ضياء) ليُريهُ
                فيها آخر أخبار اليمن والعالم في الصفحة الأولى..
                (زيارة الشيخ عمر عبد الكافي لليمن ولقاؤه بالمسؤولين – القصفُ الفلسطيني
                المكثَّف لمدينة اسيديروت اليهودية – المعارك الطاحنةُ بين الجيش اليمنيِّ من
                جهةٍ والمتمرِّدين الحوثيين من جهةٍ أخرى في صعدة...).. وأخذ الحارسُ يشرحُ
                فيها شيئاً مما يعرفهُ عن جامع الرئيس.. وأخذ يسأل (ضياء) دراسته الطبية...
                ومازال الوقتُ يمرُّ بطيئاً ولم يخطر ببال سيارةٍ لشركة الخليج أن تكسر هذا
                الوقت البطيء!
                نظر (ضياء) بمللٍ إلى الحارس وقال:
                - قُلت لي أن سيارات شركة الخليج من نوع "هايلوكس" تمرُّ من هُنا كثيراً أليس
                كذلك؟! لقد مضى علينا الآن أكثرُ من ثلث ساعةٍ ولم تمرَّ إحداها.. فهلاَّ سمحت
                لي بالذهاب سيراً إلى هناك..

                - (الحارس): صدِّقني يا دكتور أنني لم أقصد إلاَّ مصلحتك وإن لم تأتي سيارةٌ في
                غضون خمس دقائق فلك أن تذهب سيراً على قدميك..

                مرَّت عشرُ دقائق تقريباً دون مرور سيارةٍ لهذه الشركة، غير أنها تخللتها
                زيارةُ عدَّةُ مسؤولين للمكان..فلقد بدا ذلك جليَّاً على سياراتهم ومواكبهم..
                وفي خلال لحظةٍ من الشرود والتفكير استغرقها (ضياءُ) في الانتظار.. صاح الحارسُ
                قائلاً:
                - يا دكتور.. هذه إحدى سيارات شركة الخليج.. تفضَّل بالركوب..

                - (ضياء): أين هي؟! لا أرى أيَّ سيارة نقل.. تقصدُ هذه؟!

                كان الحارسُ يُشيرُ إلى سيارة من نوع "مرسيدس" فخمة كُحليَّة اللون.. لا تدلُّ
                إلاَّ على ثراء صاحبها...
                أنزل (ضياءُ) رأسهُ ليُحدِّث سائقها..
                - هل أنت من شركة الخليج؟

                - (سائق السيارة): أجل..

                - (ضياء): هل يُمكنُني مُقابلة م.(معتز)؟

                - (سائق السيارة): بالطبع.. تفضل بالصعود..

                صعد (ضياء) السيارة وصافح سائقها.. كان يبدو من ملامحه الشاميَّة النقية بأنه
                سوريٌّ ومن نظارته الشمسية الغريبة على وجهه شعر بأنهُ ليس عادياً.. قطع كُلَّ
                ذلك اندفاعُ السيارة بسرعةٍ على قطع الصخور والأخشاب والطين..وكذلك تأففاتِ
                سائق السيارة وهو يُشعلُ سيجارةً نفث دُخانها وقال:
                - ما هذا!! كم مرةً يجبُ عليَّ أن أقولها لهم!! لقد حذَّرتهم ألف مرةً من أن
                يتسلل إلى الموقع أحدُ المتطفلين عن طريق تسلُّقِ السور..
                - (ضياءُ): خيراً إن شاء الله.. ما الذي يجري يا سيد..

                - (سائق السيارة): هناك عشرات المُتطفلين يوميَّاً يتسلَّقون سور موقع البناء..
                وأنت تعرف فهذه المنطقة منطقة (VIP) حساسةٌ جداً.. والرئيس تتكررُ زياراتهُ
                بشكلٍ دائمٍ إلى الموقع.. أضف أن أولئكَ الفضوليين يسرقون ما وقعت أعيُنهم عليه
                من مثاقب ومعدات وما شابههُ.. وقد تكرر ذلك كثيراً...

                كانت السيارةُ تقتربُ شيئاً فشيئاً من موقع العمل البعيد نسبياً.. وكانت قناعةُ
                (ضياء) تترسخُ تماماً بأنه يركبُ بلا شكٍّ مع مالك فرع الشركة في اليمن.. السيد
                (أيمن)!


                يتبع

                تعليق

                • شذا الجوري
                  النجم البرونزي
                  • Sep 2006
                  • 681

                  #38
                  الفصل الثاني والثلاثون ،،


                  نزل الاثنين من السيارة فيما كان ضياء يسألُ المالك:
                  - هل سأجد المهندس (معتز) هنا؟!

                  فيما كان السيد (أيمن) يهزُّ رأسهُ مُجيباً وهو يقول:
                  - بالطبع.. تعال معي..

                  دخل السيد (أيمن) مكتب الإدارة وهو يقول:
                  - سيد (معتز).. لديك ضيفٌ..

                  وفيما كان (ضياء) يقترب من مكتب (معتز) فيما كان الآخرُ يقومُ من خلف مكتبه
                  مُحيياً:
                  - يا هلا.. حيَّا الله من أتانا.. حياك الله.. أتيت لرؤية (ساورو) بالتأكيد..

                  - (ضياء): الله يحييك.. أتيتُ لرؤيتك أنت وهو..

                  - (معتز): إذن تعال معي..

                  قام (عبدُ المُعزِّ) أو (معتز) متحرِّكاً من مكتبه باتِّجاه المكتب المجاور
                  فيما كانت صورةُ (ساورو) التي لم يرها (ضياءُ) بعد تُراقصُ ذهنهُ!!
                  - هل تسخرُ مني يا (سمهر)؟! ماذا تعني أنني سأعرفهُ لأنهُ يبدو صغيراً؟! قد
                  يكونُ صغيراً نسبياً لكن ليست إلى درجة تجعله مميزاً بصغره على ما أظن!
                  يا تُرى من أيِّ الأشكال هو؟! وهلِّ طبعت الغربةُ فيه طابعها المُميز فغدا
                  وحشاً بالنسبة لما كان عليه من الدلال والترفِ قبل الإسلام؟!

                  قطع كلُّ ذلك صوتُ صريرِ الباب يُفتحُ وصوتُ (معتز) وهو يُشيرُ إلى ذلك الشاب
                  الصغير في زاوية المكتب:
                  - يا أخ (ضياء).. هذا هو (ساورو)!

                  تقدَّم (ضياء) بهدوءٍ نحوه وصافحهُ بحرارةٍ محسوسةٍ وهو يقولُ لنفسه:
                  - أخيراً هذا هو بطلُ روايتي التي لا يعرفُ عنها شيئاً!

                  من النظرة الأولى التي كان ينظرُ فيها (ضياء) إلى (ساورو) كان يستعيدُ فيها
                  صورةً رسمها فرضيَّةً لشكلٍ لم يرهُ البتة وأخذ يُقارنُ بين الصورتين.. وصدقاً
                  لم تكونا مُتشابهتين كثيراً!!
                  قد يكون (سمهرُ) مُحقَّاً نوعاً ما في كونه صغير الشكل نسبياً على أن يغترب
                  ويعملَ بعيداً عن دلاله وإلفه.. وبصراحة فلقد أثار شكلهُ دهشة (ضياء) حقَّاً؛
                  فالأرمنُ تبدو على سيماهُم لمسةً لا يُشابهُهم فيها شعبٌ آخر.. فيهم من قسوة
                  الأكراد، وفيهم من طول الروس، وفيهم من الصلابة التُركية.. غير أن صديقنا
                  (ساورو) كان عربِيَّ الملامحِ إلى حدٍ ما.. كان أبيضاً ليس كبياض الروس مشوباً
                  بحُمرة؛ بل بياضٌ عربيٌّ نقي، ومع شعرٍ طويل داكنٍ ولحيةٍ خفيفةٍ تدلُّ على ما
                  التزم به من دين الإسلام.
                  وفي هذه الأجواء كان (عبد المُعز) يُغادرُ الغرفةَ قائلاً:
                  - ها أنا أوصلتُكَ إليه.. خذ راحتك أما أنا فمشغولٌ قليلاً..

                  التفتَ (ضياء) إلى (عبد المُعزِّ) قائلاً:
                  - أشكركُ جزيلاً..

                  بينما كان (ساورو) يُرحِّبُ بـ (ضياء) ويطلبُ منهُ الجلوس إلى كُرسيٍّ قريب..
                  جلس (ضياء) ثُمَّ جلس (ساورو) خلف مكتبهِ مبتسماً ومُرحِّباً وكأنَّما يعرفُ
                  (ضياء) منذُ زمنٍ بعيد.. وبالطريقةِ نفسها أخذ (ضياء) يُعاتبُ (ساورو) على
                  تقصيره في الاتصال معهم وكأنهُ صديقٌ قديمٌ أيضاً!!
                  - (ضياء): ماذا فعلت بنفسك يا (حمزة)؟! تحدثُ معك كُلُّ هذه المشاكل ثم لا
                  تتواصلُ معنا أبداً.. ثمَّ إنَّ (سمهر) يعتبُ عليك كثيراً..

                  - (ساورو): آسف يا أخ (ضياء).. ولـ (سمهر) العتبُ أيضاً.. لكن ما حدث معي خارجٌ
                  عن قُدرتي وسيطرتي..

                  - (ضياء): بغض النظر عمَّا حدث.. نحنُ هُنا لمُساعدتك.. فما الذي حدث؟!

                  - (ساورو): هل تُخفض صوتك قليلاً.. فلا أريدُ أن يسمع المديرُ ما يجري بيننا من
                  حوارٍ..أو ما رأيُك أن نُغادرَ إلى مكانٍ أكثر راحةً من هُنا؟!

                  - (ضياء): لا بأس في ذلك..

                  غادر الاثنين المكتب بينما كان (ساورو) يتلفَّتُ يمنةً ويسرةً بشكلٍ قلق وهو
                  يقول:
                  - أعرفُ يا (ضياء) أنك تستحقُ ضيافةً ومكاناً أفضل من هذا لكنه المكانُ الوحيدُ
                  الذي نأخذُ راحتنا فيه..

                  - (ضياء): لا عليكَ أبداً.. لا يُهمُ المكان..

                  كان يسيرانِ بهدوءٍ في ذلك الممر الطويل باتِّجاه غُرفةٍ تحوي في آخرها باباً
                  مُغلقاً.. فتح (ساورو) الباب وفوجئ بسطوع أشعَّة الشمس القويَّةِ في هذا
                  المكان.. فقال وهو يُقفلُ الباب:
                  - يبدو أننا سنبقى مُضطرين في المطبخ!

                  التفتَ (ضياء) إلى ما حولهُ، آلاتٌ عديدةٌ تبدو جديدةً لم تُستخدم.. مطبخٌ
                  حديثٌ يُشبهُ تماماً في تجهيزاته المطبخ الفاخر لكلية الطب في جامعة صنعاء
                  والذي عفا عليه الزمن ولم يُستخدم البتة!!
                  أحضر (ساورو) كُرسياً لـ (ضياء) وطلب منه الجلوس، وقُوبل طلبُهُ بالرفض نظراً
                  لعدم توفُّرِ كرسيٍّ آخر لـ (ساورو) فبقي الاثنين واقفين يتحدثان..
                  أظهر (ساورو) تِرحابهُ بـ (ضياء) واعتذارهُ على انقطاع الاتصال بهِ عن طريق
                  (سمهر).. فطلب منهُ (ضياء) أن يشرح له مُشكلتهُ تماماً.. فقال:
                  - لدي يا (ضياء) مُشكلتين تقريباً.. أو لنقُل أنها ثلاثاً.. الأولى: جوازي
                  سفري؛ حيثُ ينتهي في شهر أغسطس آب القادم، ويتوجَّبُ علي تجديدهُ في سوريا حيثُ
                  يحتجزُ والدي "دفتر العسكرية" وبدونه ليس بإمكاني القيام بأيِّ مُعاملةٍ
                  رسميةٍ؛ لا جواز، لا زواج، لا تسجيل ولا تأجيل، ولا أيِّ شيءٍ حيثُ أنني يجب أن
                  أكون الآن في الخدمة وأظنُّك تعرفُ ذلك جيداً..

                  - (ضياء): وما الثانية؟

                  - (ساورو): الثانية تلك المُراقبة الشديدة التي يفرِضُها والدي عليَّ من أكثر
                  من اتجاه.. وأما المُفاجأة فكانت أنهُ باغتني في مقرِّ عملي!

                  - (ضياء): عجيب! كيف حدث ذلك؟!

                  - (ساورو): أتتذكر وأنت قادمٌ إلى هُنا.. هل رأيت وُرش الجبس ونحت الصخور؟!

                  - (ضياء): بالطبع.. أتذكر..

                  - (ساورو): هذه المعامل يعملُ فيها سوريون واكتشفتُ لاحقاً بأنهم يكتبون تقارير
                  للسفارة بطلبٍ شخصيٍّ من السفير! حيثُ تفاجأتُ بأنهم يسألون كُلَّ من يمرُّ
                  عليهم ويسألون العُمَّال كذلك عن وُجود أرمنيٍّ في شركتنا باسم (ساورو).. ولله
                  الحمد فلم يهتدوا إليَّ تحديداً إلاَّ عندما أدركوا بطريقةٍ ما أن (ساورو)
                  الأرمني هو (حمزة) الحلبي! وبالطبع أخبرني والدي بأن السفير السوري في صنعاء
                  صديقٌ حميمٌ لديه، وتعهَّدَ الأخيرُ أن يأتيَ بي بأيِّ طريقةٍ كانت.. لم أخبرك
                  أخي (ضياء) بأن والدي وبصراحة شديدةٍ شخصٌ ذو نفوذٍ قويٍّ في سوريا؛ فهو قاضي
                  محكمة الأرمن والأرثوذكس.

                  - (ضياء): ماذا تعني بذلك؟

                  - (ساورو): لكي أقول لك الأمر ببساطة فإن والدي هو الرجل الثاني بعد البطريرك
                  الأعظم لكنائس الأرمن في سوريا، أو لتقل أن البطريرك هو الأب الروحي ووالدي هو
                  الرئيس.. ولربما لا تعرف أننا لا نخضعُ لمحاكم وقوانين النظام السوري الرسمي
                  بشكلٍ كامل، فعلى سبيل المثال إذا سرق أحد الأرمن فإن الحكومة ترفعُ بأمره إلى
                  والدي ثم هو بدوره يُعاقبهُ في الكنيسة، ولذلك فإنه صاحب سُلطة قضائية، ومن حقه
                  أن يأمر الشرطة بملاحقة أحد أتباع الكنيسة، فهذا من صلاحياته الكاملة.. إنني
                  أتذكرُ الآن كما أراك أمامي ورقة الإيقاف على المنافذ الحدودية التي أصدرها
                  والدي بحق أحدى الرعايا الأرمن المُقيمين في الأرجنتين حيثُ قام ذلك الأرمني
                  بتطليق زوجته وأخذ أموالها.. فأتت والدي من فورها ورفعت دعوىً قضائيةً ضده!



                  يتبع

                  تعليق

                  • شذا الجوري
                    النجم البرونزي
                    • Sep 2006
                    • 681

                    #39
                    الفصل الثالث والثلاثون ،،



                    أطرق (ضياءُ) بصمتٍ وكأنَّما شعر بصعوبة ذلك الموقف الذي ينتظرُ (ساورو).. فقد
                    يُفلتُ من مُراقبةِ السفير، وكذلك عُمَّالُ البناء، بيد أن الصيف بانتظاره
                    لتجديد الجواز.. بيد أنه حاول تهوين الأمر قليلاً على (ساورو)، فأغمض عينيهِ
                    بهدوءٍ، ثم قال:
                    - أخي (ساورو).. إننا نحنُ إخوانك.. ونحنُ هُنا لمُساعدتك، فلا تتردد في ذلك
                    أبداً، ولا يأخذك في ذلك أيُّ حرجٍ مهما كان.. ولذلك أرجو أن تتعاون معي رجاءً
                    لأساعدك على حلِّ مُشكلتك.. فهل أنت موافق؟!

                    نظر (ساورو) بسعادةٍ غامرةٍ إلى (ضياء) وقال:
                    - بالطبع يُسعدُني ذلك جداً، وأنا مُستعدٌ لتنفيذ ما تأمرُني به..

                    واصل (ضياء) حديثهُ الهادئ بنبرةٍ توحي في خفاياها الكثير من الإيحاءات:
                    - جيدٌ جداً.. أولاً بالنسبة لهذه المشاكل فهل أنت جادٌّ في الخروج من اليمن إن
                    أُتيحت لك الفُرصة؟! ثم أخبرني (سمهر) برغبتك في دراسة الشريعة.. فهل أنت واثقٌ
                    بقرارك؟!

                    - (ساورو): ولمَ لا؟!

                    - (ضياء): حسناً.. لقد بذلنا جهوداً كثيرةً وما زلنا نحاولُ إيجاد طريقةٍ
                    لتسجيلك في كُليةٍ شرعيةٍ في المملكة العربية السعودية، حيثُ تبتعدُ عن خطر
                    والدك وقريبك الأرمني، وكذلك تُتاحُ لك الفُرصةُ أيضاً لدراسة الشريعة
                    الإسلامية دراسةً أكاديميةً مُكثفة..

                    ولم يُتمَّ (ضياء) حديثهُ؛ إذ قاطعهُ (ساورو) و طيورُ الفرح تتراقصُ بين شفتيه،
                    وأمارات السعادة ارتسمت على مُحيَّاهُ الهادئ الجميل قائلاً:
                    - دراسةٌ شرعية!! أريدُ أن أتخصص في الدعوة.. إنني أتوقُ إلى ذلك كثيراً.. لن
                    تُصدق يا (ضياء) أن النصارى يتعلَّقون بدينهم أضعف من تعلُّقِ الغريقِ بقشةٍ
                    صغيرةٍ.. ونقاطُ ضعفهم كثيرةٌ جداً.. وعلى الرغم من إطلاعك الواسع أخي (ضياء)
                    على دين النصرانية إلاَّ أنه ليس بإمكان أيِّ مُسلمٍ أن يُحبطَ حُجج النصارى
                    الواهية بقدر ما نقدرهُ نحنُ النصارى الذين أسلمنا؛ لاسيَّما أننا لُقِّنَّا في
                    الكنيسة على حفظ بضعِ كلماتٍ هي مُجملُ من نحملهُ من دين النصرانية، ونقطةُ ضعف
                    النصارى الأهم تكمنُ في قضية المسيح عيسى عليه السلام، وهذا تماماً ما استطاعت
                    به خطيبتي (رنا) أن تنسف مبادئي وعقائدي كاملةً.. وَعَتْ ذلك أم لا!!!

                    ابتسم (ضياء) بسعادةٍ غامرةٍ لما أبداهُ هذا الشابُ من حماسةٍ للدعوة على الله
                    ونشر دين الإسلام، فكأنَّما كانت طاقةً مُتفجِّرةً تُريدُ حرق تلك الأكاذيب
                    التي نسجوها بزعمهم على رب العزة والجلالة ورسولهِ المسيح عيسى بن مريم عليه
                    السلام.. تلك العاطفةُ الجيَّاشة والشفقة الآنيةُ التي حملها (ساورو) على أهله
                    المساكين الغرقى في أوحال الشرك والتثليث..
                    تلك الحماسةُ البالغة والنعمةُ العظيمةُ التي شعر بها (ساورو) وهو يُمزِّقُ عن
                    كاهلهِ ما ارتدهُ من الثياب العفنة، ثياب النصرانية المُحرَّفة، ويستبدلُها
                    بثيابٍ من نور العقيدة وتوحيد رب العالمين.. ارتسمت تلك الحماسةُ في كلماته
                    التي قالها:
                    - صدِّقني يا أخي (ضياء) لن تشعر بما أشعرُ به الآن، فلقد كانت صدمةً عظيمةً
                    لأهلي حينما شكُّوا بإسلامي، فنحنُ الأرمنُ أكثرُ أهل الأرض تمسُّكاً بدين
                    النصرانية؛ بل أن أرمينيا هي الدولة الأكثر عالمياً في نسبة المسيحيين، وأنا
                    ابن الكنيسة الأرمنيةِ منذُ كنتُ طفلاً.. وأسألُ الله أن يغفر لي ويتجاوز عنِّي
                    سوءَ ما عملت؛ فلقد قارفتُ الذنوب كُلها، ولم أتركُ شيئاً إلاَّ عملتهُ، ما
                    يخطرُ ببالك وما لا يخطر من نساءٍ وشربٍ وفواحش يعسرُ ذكرُها، فكانت المُفاجأة
                    الأعظم؛ فلا يُتصوَّرُ من شابٍّ يغرقُ ويستمتعُ بالملذات ليلَ نهار أن يُفكِّر
                    في تركها، فضلاً عن تغيير دينه.. والحمد لله أولاً وآخر..

                    - (ضياء): إننا يا عزيزي أكثر والله سعادةً بك، وسنسعى جاهدين على
                    مساعدتك..وعلى الله التُكلان. لولا أنني أشغلُكَ عن عملكَ لوددتُ أن أبقى معك
                    أكثر، لكنني آملُ أن تعدني بزيارةٍ قريبةٍ بإذن الله.. وغلى ذلك الحين أرجو أن
                    تُعطيني أوراقك الثبوتية وسيرتك الذاتية لأعطيها لأحد أصدقائي والذي وعدني
                    بالمُساعدة..

                    - (ساورو): بكلٍّ سرور، غير أنها موجودةٌ على الحاسوب وليس لديَّ نُسخٌ منها..

                    ابتسم (ضياء) وهو يخرجُ من جيبهِ ذاكرةً خارجيَّةً:
                    - إذن ضعها هُنا..

                    وبينما كان (ساورو) يأخذُ من (ضياء) الذاكرة الخارجية لمعت في إصبع (ساورو)
                    دبلةً فضيَّةً آيةً في الجمال والدقة والإتقان.. فخطر ببال (ضياء) أن يسأل
                    (ساورو) عمَّا يدورُ ببال القُرَّاء الآن سؤالهُ..
                    - عفواً يا حمزة، أتمنى ألاَّ أتدخَّل في شئونك، لكنني أحبُ أن أسألكَ عن تلك
                    الداعية التي قادتك للإسلام؟!

                    ابتسم (ساورو) بعفويةٍ ورقَّةٍ وهو يرفعُ إصبعهُ المحتوي للدبلة قائلاً:
                    - إننا مخطوبان الآن..

                    وقبل أن يتحرَّكا كان (ساورو) يتحدَّث عن ذلك الكتاب الذي وصلهُ هديةً وقدر
                    إعجابهِ به؛ فهو ليس كأيِّ كتابٍ ناقش الدين الإسلامي؛ بل هو كتابٌ يُناقش
                    الفكرة الإسلامية مُتنقلاً بين العقل والمنطق والعاطفة والدليل.. وهو كتابُ
                    "تعريفٌ عام بدين الإسلامي" للأديب الفقيه/ (علي الطنطاوي) تغمَّدهُ اللهُ
                    بواسع رحمته وأسكنه عُلا الجنان.. وتخلل ذلك ذكرُ (ساورو) وسعادتهُ البالغة
                    بإتقان اللغة العربية تقريباً، فيما كان (ضياء) يقفُ مُندهشاً ومستغرباً:
                    - عجباً! ألم تكن تُتقن العربية قبلاً؟!

                    هزَّ (ساورو) رأسهُ قائلاً:
                    - كلاَّ ليس تماماً.. فبحكم حياتي في سوريا كنتُ أعرفُ عنها القليل بيد أنني
                    أتقنتُها بحمد الله هُنا في اليمن، وحتى أنت لم تميِّز أنني لم أكن أتحدثُ
                    العربية سلفاً، علماً بأنها لُغتي الثالثة بعد الأرمنية والإنجليزية..
                    سار (ساورو) مُسرعاً نحو مكتبهِ لإحضار سيرته الذاتية؛ بينما كان ضياء يقفُ
                    أمام لوحةٍ خشبيةٍ عُلِّقت عليها أوراقٌ زُيِّنت بالأحاديث والآيات القرآنية
                    الشريفة.. وحينما خرج (ساورو) ليُشاهدَ (ضياء) في موقفه هذا بادر بقوله:
                    - لقد نسيتُ أن أخبرك أنني من عمل هذه الأوراق.. وإن أحببت فسأُريك بعض الآيات
                    علَّقتُها في الورشة ليقرأها العُمَّال الفلبينيين النصارى..
                    ولم يُكمل (ساورو) حتَّى خرج (عبد المُعز) من مكتبه وصاح بدعابةٍ ومرحٍ في وجه
                    (ساورو):
                    - يا للعار يا (ساورو) يأتيك ضيفٌ وتحادثهُ طوال هذا الوقت دونما أن تُقدِّم له
                    كوباً من القهوة؟!

                    ارتبك (ساورو) وقال مُتلعثِماً:
                    - يا ويلي! لقد انسجمنا في الحديثِ ونسيتُ ذلك تماماً!

                    فيما كان (ضياء) يُشيرُ إلى (عبد المعز):
                    - أشكرك جزيلاً، غير أنني مُغادرٌ الآن..

                    تبسَّم (عبد المعز) وهو يُوهمُ (ساورو) بضربه:
                    - إذن لا تنسَ أن تأخذ ضيفنا في جولةٍ في الورشة وإلاَّ أوسعتُكَ ضرباً..
                    واعذراني على القدوم لانشغالي..

                    فيما كان (ساورو) يقفُ بحركة لطيفةٍ للغاية:
                    - حاضر سيدي..



                    تحرَّك (ضياء) و(ساورو) باتجاه الورشة حيثُ غيَّر الأخيرُ دفَّة الحديث السابق
                    على الحديث عن الآلات والمعدات التي يستخدمونها في حفر القباب ونحتها، وعن
                    المواد المُستخدمة في ذلك بينما كان (ساورو) يُعرِّفُ ضيفهُ بزملائه في الشركة
                    والذين أسدوا إليه جميل الاحترام والتعامل في ذلك الجو المشحون..
                    وبعد جولةٍ جميلةٍ ولقاءٍ رائعٍ قرر (ضياء) العودة أدراجه من حيثُ أتى للبحث في
                    موضوع (ساورو) بشكلٍ أوسع.. بينما كان (ساورو) يُودِّعُ (ضياء) بحرارةٍ بالغةٍ
                    كأنما شعر بإخوةٍ لهُ يشاركونه همَّهُ ويقفون بجانبه.


                    يتبع

                    تعليق

                    • شذا الجوري
                      النجم البرونزي
                      • Sep 2006
                      • 681

                      #40
                      الفصل الثاني والثلاثون:
                      كان (ضياء) يجلس خلف شاشة الحاسوب ليرسل السيرة الذاتية لـ(ساورو) إلى صديقهِ
                      (سعيد) حيثُ تكفَّل الأخيرُ بإيجاد حلٍّ مناسبٍ لـ(ساورو).. ولم يحدث بعد ذلك
                      الكثير؛ فلقد مضى أسبوعين تقريباً شُغل فيها الجميعُ بأعمالهم ولم يتسنَّ لأحد
                      رؤية الآخر.. حتى تقابل (ضياء) و(ساورو) صدفةً على برنامج المحادثة الشهير
                      (الماسنجر) حيثُ كان يحملُ الفتى الأرمنيُّ بشرىً سارَّةً لأخيه (ضياء):
                      - (ساورو): ألم أخبرك أخي (ضياء)؟!

                      - (ضياء): خيراً إن شاء الله.. لم يصلني عنك شيءٌ..

                      - (ساورو): أخبرتك أن الشركة المصرية للمقاولات قررت منحي رحلة عمرةٍ كهديةٍ
                      على إسلامي..

                      - (ضياء): أجل، قلتَ ذلك.. ولكن المشكلة كانت في السفارة السعودية حيثُ رفضوا
                      منحك تأشيرة العمرة كون جوازك مسجلٌ فيه ديانتك النصرانية.

                      - (ساورو): صحيح هذا، ولكنهم أخيراً وافقوا على منحي تأشيرة مرورٍ لمدة ثلاثة
                      أيامٍ سأستطيعُ من خلالها زيارة الرحاب الطاهرة المقدسة حيثُ كتبوا ديانتي
                      بأنني مسلمٌ.

                      - (ضياء): تهانينا (ساورو).. خبرٌ رائعٌ مفرحٌ.. أتمنى لك التوفيق.. وأتمنى
                      رؤيتك قبلها..

                      - (ساورو): بالطبع.. لابد من ذلك.

                      - (ضياء): وأيضاً لابد من رؤيتك لكي أرسلك في مكة لمن يستطيعون مساعدتك في أمر
                      الدراسة الشرعية..فهل يمكننا التقابل ليلة الغد؟!

                      - (ساورو): حسناً.. يبدو مناسباً..

                      تقابل الاثنين ليلة السفر، حيثُ كان قد سلَّم (ضياء) لـ(ساورو) رقم هاتف أحد
                      الشخصيات الشرعية المعروفة في منطقة مكة وهو صديقٌ لـ (سعيد) حيثُ يتحتم على
                      (ساورو) الاتصال به بمجرد الوصول إلى مكة..
                      ولأن التأشيرة الممنوحة لـ(ساورو) كانت تأشيرة مرورٍ فلقد اختار المرور من مكة
                      إلى الديار المصرية حيثُ رغبَ ذلك الشاب اليافع في زيارة الأزهر الشريف والتعرف
                      أكثر على أرض الكنانة..
                      انطلقت الرحلة من مطار صنعاء الدولي يوم الثلاثاء مساءً باتجاه مدينة جدة على
                      الساحلِ الغربي من المملكة والجزيرة العربية، ومن هنالك تحوَّل منها براً إلى
                      بلد الله الحرام..
                      لا شكَّ أن مشاعر كثيرةٍ يشعرُ بها (ساورو) حتى قبل وصوله إلى المسجد الحرام؛
                      فهذا المكان كان قبل زمنٍ بعيدٍ في ذهن (ساورو) وقريبٍ في حساب الأيام لا
                      يفوقهُ كرهاً أيُّ مكانٍ في العالم؛ فهنالك يجتمع الإرهابيون المسلمون كل عامٍ
                      في طقوس الحج والعمرة، وهؤلاء الأعداءُ المسلمون ينفون كلَّ ما تناقلتهُ
                      الديانةُ النصرانيةُ حول صلب المسيح وتلك الحادثة الرائعة والتي افتدى بها ابن
                      الله نفسه من الآثام والشرور التي دنَّست العالم ليضرب مثالاً رائعاً في
                      الأخلاق والفداء!
                      وأما الآن فهو يأتي لينزِّه الله ويقدسهُ عما قد قالهُ واعتقدهُ من الإثم
                      المبين، والافتراء القديم..
                      لقد أتى (ساورو) إلى بيت الله الحرام معتمراً مؤمناً بوحدانية الله ومُنزهاً له
                      سبحانهُ عن الزوجة والولد والشريك..
                      كانت خفقاتُ قلب (ساورو) تتسارعُ وتتزايد كلما اقترب من بيت الله العتيق، حتى
                      وقف مشدوهاً ومتفاجئاً أمام النقطة المرورية الأقرب إلى مكة حيثُ كانت اللوحاتُ
                      تشيرُ بطريقٍ خاصٍ إلى خارج مكة لغير المسلمين.. شعر معها (ساورو) بالعزة
                      والكبرياء؛ فالله سبحانه وتعالى طهَّر هذا المكان وطلب منا ألاَّ نوطِّئهُ
                      كافراً مهما كان؛ فهو استحقاقٌ خاصٌ وتكريمٌ عظيمٌ للمسلمين.
                      تجاوز ركبُ (ساورو) النقطة المرورية بسعادةٍ لا توصف مُرتدين ثياب الإحرام
                      البيضاء النقية، والتي يذوبُ معها اختلافُ الطبقات والشعوب، فالكلُّ قد خضعوا
                      ذلاً لرهبة القوية الجبار، وهنا يتذكَّرُ (ساورو) لحظةً أخرى وموقفاً أتعسَ من
                      حياته السابقة؛ فلقد كان ابن عزٍ وجاهٍ ومكانةٍ يسجدُ لها الأرمنُ في كل سوريا
                      كونهُ ابن قاضي محكمة الأرمن والأرثوذكس.. أمَّا الآن فلقد غدا مسلماً عاديَّاً
                      يشاركهُ المكانة أمام الله كل المسلمين، إلاَّ من زاد في قربانه وتقواهُ فذلك
                      إلى الله لا شكَّ أقرب.
                      حطَّتِ الرحلةُ رحالها لدى البيتِ العتيق، هنالك داخلت الجميعُ سعادةُ القُربِ
                      من أطهر بقاع الأرض.. أو ما وردَ ذكرهُ في التوراة والإنجيل بأرضِ "فاران".
                      كُلُّ تلك المشاهد المؤثرة والأحاسيس الروحانية لم تُضاهي في رهبتها مشهداً سار
                      برهبتهِ الرُكبان.. هي لحظةُ الوقوف أمام الكعبة المشرفة، حيثُ انهمر صديقُنا
                      بالبكاء..
                      يا إلهي! أحمدكَ ربي على هدايتي.. يا ربُّ إني قد تهتُ في غياهب الظُلم ودياجير
                      الكفر زمناً طويلاً، فاغفر لي سُبحانك وأنت الغفور الرحيم..
                      يا ربُّ يا من أذقتني حلاوة الإيمان بك، فلا تحرمها والديَّ وُقدهما إليك
                      مسلمين.
                      يا ربُّ ليس من جزاءٍ أجزيه لبشرٍ أجزى مما تُجزيه حبيبتي (رنا) أن أخذت بيدي
                      إليك.. يا ربُّ لا تُرها شقاءً ولا كدراً أبداً..
                      ومضى (ساورو) يطوفُ بالبيت العتيق مسبحاً ومُمجداً ومهللاً ومكبراً وذاكراً
                      وداعياً بالعفو والهداية أكرم الأكرمين.
                      وكذا كان الأمر في السعي بين الصفا والمروة، خضوعٌ وتذللٌ وسعادةٌ وبهجةٌ مُزجت
                      بزفرات البكاء والنحيب!
                      أُقيمت صلاة الفجر في المسجد الحرام، وقام الإمامُ يُرتِّل آي الذِّكرِ الحكيم،
                      يستدرُّ به عطف المنان الكريم، ويستميلُ به قلوب الغافلين، ويزيدُ به إيمانُ
                      المؤمنين..
                      لم تكن صُدفةً؛ بل تقديرُ العزيز العليم إذ قرأ الإمامُ قصة عيسى –عليه السلام-
                      في قوله تعالى:
                      {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
                      وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
                      فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ
                      مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {55}
                      فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي
                      الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ {56} وَأَمَّا الَّذِينَ
                      آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ
                      يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {57} ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ
                      وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ {58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
                      خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {59} الْحَقُّ مِن
                      رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60}}

                      نعم! إنه تثبيت رب العالمين.. إنه التأكيد على وحدانية الله، ونفي الشريك.
                      أجواءٌ إيمانيةٌ رائعةٌ عاشها (ساورو) بكلِّ لحظاتها.. بين الحب والخوف
                      والرجاء، إنها لحظاتٌ نادرةٌ تلك التي ينسى فيها هموم الدنيا، ومطاردة أهله
                      له.. لا شيء هُنا يُعكِّرُ صفو حياته..
                      أمضى (ساورو) بين الصلاة والعبادة في مكة المكرمة يوماً واحداً، توجَّهوا بعدها
                      إلى المدينة النبوية الشريفة..
                      طريقٌ طويلٌ كان يحدو (ساورو) إلى مدينة الرسول الكريم ? فيه الشوق والحنين إلى
                      هذه الديار المباركة التي انطلق منها الإسلام فاتحاً، لا بالسيف كما تعلَّم في
                      الكنيسة؛ بل بالعدل والرحمة والتحبيب والترغيب، فامتلأ الكون نوراً برسالةٍ
                      عمِّت بخيرها الناسُ أجمعين.. حتى الكفَّار..
                      أجل لا بُدَّ من قول الحقيقة.. فنحن الأرمنُ كان لنا السبقُ في الإيمان بالمسيح
                      عليه السلام، وكُنا ولا زلنا أكثر بلدان العالم تمسُّكاً بالنصرانية ودعوةً
                      إليها.. لقد بذلنا من أجلها الغالي والرخيص..فهل سلمنا من شرور أعداءنا أو حتى
                      ملوكنا؟!
                      لقد اضطَهَدَنَا اليهود؛ بل هم قتلة المسيح فيما كنَّا نعتقد.. وأباطرةُ الروم
                      الذين حكمونا لم يحكمونا بالعدل؛ فلقد غيرَّوا رسالة المسيح.. قرَّبوا من
                      مُلكهم أشخاصاً ليملكوا رقاب الناس لا ليخدموهم.. لم يُبالوا بنا فزجُّوا بنا
                      في مقدم الصفوف في حروبنا مع الفرس والوثنيين.. وفي النهاية سقطت دولتهم
                      وأيقنَّا بالهلاك حينما فتح المسلمون الشام وما بعدها.. ولكن الحقيقة أن
                      المسلمين كانوا رحمةً لنا؛ فلم يؤذونا ولم يرهقونا بالضرائب كما فعل ملوكنا..
                      عاملونا كما يعاملون أبناءهم.. تركوا لنا حرية اختيار دين الإسلام أو البقاء
                      على ديننا..
                      أجل عِشنا في منازلنا وأحياءنا بين المسلمين بسلامٍ وأمانٍ، ولم نجد أي تمييزٍ
                      أو إيذاءٍ.. وبقينا بينهم إلى هذه اللحظة..
                      ومع ذلك العدل وتلك الرحمة، أصرَّ مُعظمُنا على الكفر بالله ولزوم النهج
                      المُحرَّف، ومقابلةِ تلك المعاملة الكريمة بأقسى ألوان الاضطهاد والتعذيب لكل
                      من دخل في الإسلام..
                      يجب الآن أن أعتذر يا رسول الله الكريم على تأخري اللحاق بركب دعوتك الغرَّاء،
                      فلقد كُنَّا مغيبين عن الحقائق بإرادتنا!!
                      دخل (ساورو) المسجد النبوي الشريف بينما كانت غمامةٌ من الطمأنينة لم يشعر بها
                      سلفاً تغمرُ قلبه وفؤاده، إنه يشعرُ بهدوءٍ لطالما افتقدهُ طويلاً، أنه هدوءٌ
                      لم يشعر بمثله قط منذُ أن أبصرت عيناه هذه الدُنيا..
                      إنها بركة المدينة الطيبة وحلاوتها.. إنها مدينة الأنصار الذين أقاموا على نصرة
                      الدين بسواعدهم وأموالهم وكل ما لديهم..
                      وإنها مدينةُ المهاجرين، حاملي لوائهُ بين المشركين والفارِّين به للذود عنه من
                      أذاهم..
                      ركعتين فقط كانت كفيلةً بسعادةٍ لا تفوقُها سعادة!

                      (بين منبري ومسجدي روضةٌ من رياض الجنة)
                      إنها والله جنة! جنة الدنيا للمؤمن قلبهُ المطمئنُّ بالإيمان..
                      ذلك هو قبر الحبيب المصطفى عليه خير الصلاة وأتمُّ السلام، وهذين هما خليلاهُ
                      أبو بكرٍ الصديق وعمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنهما..
                      عجباً لهذه الخُلَّة والصداقة! لماذا يندرُ في زماننا أن نجد صداقةً فريدةً
                      تُشابهُ هذه الصداقة.. لماذا لا نجدُ وفاءً كوفاء أبي بكرٍ لصاحبيه ولماذا لا
                      نجدُ فداءً كفداء عمر..
                      عاش أبو بكرٍ يحوطُ النبي ? ويحميه، ويذودُ عنهُ، ويواسيه بكل ما يملكُ من مالٍ
                      وروحٍ.. وحتى يوم الهجرة لم يُطق أن يترك خليلهُ يهاجر دونه.. فكان له نِعم
                      الرفيق..
                      نعم بذل أبو بكر كل الوفاء لصاحبه الكريم ولم يُقصِّر في شيءٍ إلى يوم توفاه
                      الله..
                      والنبي الكريمُ ? كان يُحبُّ صاحبهُ أبا بكر أشد الحب وأكرمهُ، بل هو أحبُّ
                      الرجال إليه.. لقد سُعِد النبي ? بصاحبه، ولم تدر في خلده نزوات إبليس في كون
                      أبا بكرٍ يطلبُ مصلحة دنيويةً أو جاهً أو شيئاً من ذلك.. وفاءٌ مُتبادل.
                      وأما الفاروق البطلُ عمر بن الخطاب فصحيحٌ أنه تأخَّر في صحبته لكنه قدَّم
                      نفسهُ ليكون خلاً وفيَّاً للنبي الكريم وصاحبه الخليل..
                      بقي معهما.. لم يُفارقها أبداً.. يشكُّ في سمعه وبصره ولا يشكُّ فيهما أبداً..
                      إذا رآهما يبكيان بكى لبكائهما حتى ولو لم يعرف السبب!
                      يُسابقُ أبا بكرٍ ما استطاع في خدمة الرسول والذبِّ عن عرضه ونصرة دينه..فغدا
                      أسطورةً يهابها شياطينُ الإنس والجن!
                      ثم كان الوفاءُ.. فلم يُطق الصاحبين حتى في مماتهما إلاَّ أن يكونا لصيقين
                      الرسول الكريم ? في قبره وفراشه!!
                      لماذا ليس لدينا مثلُ هذه المُثل؟!
                      إنها الصداقة التي يحقُّ لنا أن نفتخر بنُبلها إلى قيام الساعة!
                      عاش (ساورو) في كنفِ تلك الأجواء، وسعادةٌ تغمرهُ إلى أحشاءه.. وروحانيةٌ لا
                      يجدُ وصفاً يليقُ بها..
                      أمضى أيامهُ الثلاثة في الديار الحجازية، ولقد اتَّصل بمن أعطاه (ضياء) أرقامهم
                      لمساعدته في شأن دراسته الشرعية، ولقصر المدة فلقد قرروا التواصل عبر الفاكس
                      لتجهيز كُلِّ تلك الأمور..
                      وأمَّا وجهة العبور لدى (ساورو) فلقد كانت من السعودية إلى مصر حيثُ سيقيمُ
                      هُنالك أسبوعاً يعود بعدهُ إلى صنعاء لاستكمال مسيرة حياته الغامضة!


                      يتبع

                      تعليق

                      • شذا الجوري
                        النجم البرونزي
                        • Sep 2006
                        • 681

                        #41
                        الفصل الثالث والثلاثون:
                        يجلسُ (ضياء) مُستنداً إلى كُرسيهِ فيما كان يستقبلُ اتصالاً هاتفياً من
                        (سعيدٍ) يُبشِّرهُ فيها بقرب انفراج أزمة (ساورو)؛ فالواساطاتُ على وشكِ إنجاز
                        مُهمتها، ولقد اتصلوا بـ(سعيدٍ) بالأمس وأخبروه ذلك، وأخبروه أيضاً بضرورة
                        إحضار خطابٍ من "مركز دعوة الجاليات" بصنعاء ليُرفقوه بملف (ساورو) ومستنداته..
                        أخذ (ضياء) يُقلِّبُ هاتفهُ المحمول بين يديه وهو يقول:
                        - لقد أخبرني (ساورو) بأنه سيُمضي أسبوعاً في الديار المصرية قبل عودته إلى
                        صنعاء، وها قد مرَّت عشرةُ أيامٍ تقريباً دون أي اتصالٍ منهُ، ولا أدري عن حاله
                        شيئاً.. سأتَّصل به للاطمئنان عليه ولإخباره المُستجدات..

                        ضغط (ضياء) زر الاتصال على (ساورو)، بيد أن المُجيب الآلي لشركة الاتصال كان
                        يقول:
                        "إن الرقم المطلوب ليس في الخدمة، الرجاء المحاولة لاحقاً"!

                        - عجباً! فهاتفُ (ساورو) ليس بنظام الفوترة ليتم إيقاف خدمته في حال عدم
                        السداد.. وهذه الرسالة لا نسمعُها أبداً إلاَّ في حال أن شريحة الاتصال خارج
                        الأراضي اليمنية!

                        أعاد الاتصال مرةً ثانيةً، وثالثةً، ورابعةً.. النتيجةُ نفسُها على الرغم من
                        معرفته بها سلفاً..
                        أمضى (ضياء) تلك الليلة دون أي معرفةٍ لحال (ساورو)..
                        وفي اليوم التالي كرر المحاولة مراتٍ عديدة.. وما زالت نفسُ النتيجة!!
                        - ما الذي جرى يا تُرى؟!
                        - ليس لديَّ أيُّ شخصٍ بإمكاني الاتصالُ به ومعرفة خبر (ساورو).. فلابُدَّ من
                        زيارته في مقرِّ عملهِ في جامع الرئيس.. مهلاً فجامعُ الرئيس سيرفضون حتماً
                        زيارتي بعد الظهيرة كونه منطقةً أمنيةً خاصةً.. بيد أنني لن أطيق الانتظار إلى
                        الصباح للاطمئنان عليه..
                        مضت أخبارهُ طيَّ الغيب تلك الليلة لا يعرف عنها (ضياء) شيئاً، حتى كان صباحُ
                        اليوم التالي، حيثُ توجَّه منذُ الصباح الباكر إلى "جامع الرئيس الصالح" حيثُ
                        يفترضُ أن يجد هنالك الجواب..
                        الإجراءاتُ الأمنيةُ المُشددةُ ما زالت مُسيطرةً على الدخول والخروج إلى هذا
                        الجامع، وبعناءٍ لا يقلُ كثيراً عن المرة السابقة تمكَّن (ضياء) من تجاوز
                        العقبات الأمنية في طريق الوصولِ إلى مقر شركة (Gulf TEC)..
                        توجَّه (ضياء) من فورهِ إلى مكتب (عبد المعز) حيثُ يتوقَّعُ أن يجد لديه جواباً
                        شافياً حول (ساورو)، بيد أن (عبد المعز) بمجرَّدِ رؤيته لـ (ضياء) قال:
                        - هل أتيت للسؤال عن (ساورو)؟!

                        هز (ضياء) رأسهُ مجيباً بينما كان (عبد المعز) يحرِّكُ رأسهُ نافياً وهو يقول:
                        - لم يعد بعدُ من مصر، ولقد فقدنا الاتصال به منذُ خروجه من الأراضي الحجازية.

                        هَتَفَ (ضياء) بوجه (عبد المعز) قائلاً:
                        - هل أنتَ واثقٌ مما تقول؟! لقد ظننتهُ قد عاد من سفره منذُ أسبوعٍ على الأقل!

                        بيد أن (عبد المعز) لم يزد على أن قال:
                        - أُقدِّرُ لك ذلك.. غير أننا لا نعرف شيئاً عنه.. ولا توجدُ أيُّ أخبارٍ لدينا
                        بهذا الخصوص.

                        - (ضياء): وما الذي حدث له يا ترى؟ ما هي توقُّعاتُك؟

                        قال (عبد المعز) بكآبةٍ:
                        - صدِّقني لا أدري.. إننا ننتظرُ سويةً خبراً يكسرُ جمود هذا الوقت المتوقِّف!

                        عاد (ضياء) أدراجهُ إلى المنزل وكأن صاعقةً أصابتهُ بما سمعهُ عن (ساورو)..
                        ولكن ما الذي حدث لـ (ساورو) يا تُرى؟!
                        أمَّا (ساورو) فلقد غادر الديار الحجازية من مطار جدة الدولي مُتَّجِهاً إلى
                        القاهرة؛ وبعد زمنٍ لم يطُل من الطيران بين السماء والأرض وجد (ساورو) نفسهُ
                        يقفُ على أرض مطار القاهرة الدولي..
                        أخذ حقيبتهُ وذهب لتدقيق جوازه، حيثُ أخذَ الموظفُ ينظرُ إلى صورة الجواز وإلى
                        وجه (ساورو) بشكلٍ غريبٍ ولافتٍ للنظر.. لكنه سُرعان ما أخذ الجواز واقتربَ من
                        زميلهِ وأراهُ الجواز وأخذا يتهامسان بصوتٍ خافتٍ مُريبٍ..
                        استغرب (ساورو) مما يفعله الموظفون ونظراتهم تِجاههُ، وزاد حيرتهُ طلبُ الموظفِ
                        من (ساورو) الجلوس قليلاً ريثما ينتهي من تدقيق الجواز..
                        جلس (ساورو) مُندهشاً لما يجري، غير أنه ظن هنالك خطئاً ما..
                        مضى من الوقت عشرُ دقائق تقريباً، مضت ثقيلةً تسحبُ الثانيةُ منها الثانيةَ
                        التي خلفها فلا تقوى عليها فتترُكُها..
                        ولم يمضي من الوقت الكثيرُ بعد ذلك حتى اقتحمت المطارُ فرقةٌ من الشرطة مُدججين
                        بالسلاح واتَّجهوا فور مكتبِ تدقيقِ الجوازات.. حيثُ ناولهم الموظَّفُ جواز
                        (ساورو) وهنالك توَّجهوا إلى (ساورو) شاهرين أسلحتهم تِجاههُ ويصيحون:
                        - ارفع يديك.. لا تُبدِ مقاومة!

                        ذُهل (ساورو) لما يجري، وقبل أن يقف عن مقعدهِ كانت العناصر الأمنيةُ تحيطهُ
                        إحاطة السوار بالمعصم، وكانت عناصرُ أخرى تتحسسُ خلوَّ جسدهِ من السلاح أو
                        المُتفجِّرات!
                        لم يُعطَ (ساورو) الفرصة ليرفعَ يديهِ؛ فلقد كان زعيمهم يضعُ القيدَ في يد
                        (ساورو) وأخذ يدفعهُ أمامهُ كمجرمٍ مطلوب!! وأمام صرخات (ساورو) وطلبه تفسير ما
                        يحدث، أشهر قائدُ الفرقة بطاقتهُ قائلاً:
                        - أنا قائد الفرقة (د) من الشرطة الجنائية الدولية "الإنتربول" ولدينا أمرٌ
                        باعتقالك!

                        نظر (ساورو) بدهشةٍ إلى من تولَّى كِبرَ هذه العصابةِ قائلاً:
                        - "إنتربول"؟! ولماذا تعتقلونني وأنا لم أفعل شيئاً؟!

                        نظر الضابطُ بقسوةٍ على (ساورو) وقال مُتجهِّماً:
                        - لا يُهمُني السبب! لقد عُممَ اسمكَ على المطارات والمنافذ الدولية مساء أمس
                        بطلبٍ من فرع "الإنتربول" في سوريا.. ولذلك سيتم تسليمك هنالك حالاً..

                        صمت (ساورو) تماماً لدى سماعه ذلك؛ فلقد أيقن تماماً سبب ما يجري؛ فليس من شخصٍ
                        يقدرُ على فعل ذلك مثلُ والدهِ!

                        لم يمضِ على (ساورو) الكثير من الوقتِ حتى وجدَ نفسهُ يجوبُ عباب السماء
                        مُتَّجهاً إلى حتفهِ، أو ما كانت دوماً مأواهُ ودياره على متن طائرةٍ خاصةٍ!!
                        تبَّاً لأولي الكفر! فلقد كنتُ الابن المدلل لوالدي، غير أنني لم أظنَّ في
                        ساعةٍ ما أنني سأغدو مطلوباً مُطارداً، وها أنا ذا تُثقلُ الأغلالُ ذراعيَّ
                        وتسحبني إلى الأرضِ ثقلُ غلِّ قدمي.. ولقد وقف على روحي أولئك المسلَّحون وقد
                        وجَّهوا موتهم صوبي، ولعله من الطرافة بمكانٍ لا يُشبههُ أي مكانٍ بين السماء
                        والأرض أن هؤلاء الجنود المساكين لا يعرفون لماذا يدفعون بموتهم تجاهي!
                        إنه لزمنٌ مُضحكٌ أن تُعادي من لا تعرف!! ومضحكٌ أيضاً أن تُعادي من تعرفُ
                        لأنَّك تعرف!!
                        ولسوف يكون مُبكياً أن تُعادي أحبَّاءك لأنهم خالفوك رأياً اخترتهُ لنفسك بطيب
                        خاطرٍ، أو لأنك فكَّرت عكس ما أرادوا.. ثم هل نحن مُلزمون باكتشاف خفايا
                        النفوس؟! وهل إذا اكتشفناها وجب علينا اتِّباعها؟!!
                        هوِّن عليك يا (ساورو)! فلطالما قالت لك حبيبتك (رنا) قصص ابتلاء النبي صلى
                        الله عليه وسلم وأصحابه..
                        هم أيضاً حُوربوا وعودوا وقوطعوا فقط لأنهم فكَّروا واعتقدوا ما طاب لهم..
                        نُصبت لهم حِرابُ العداوة لأنهم أرادوا أن يُخالفوا مُجتمعهم تفكيره ورأيه..
                        عجباً! لو قُلنا أن تلك الأزمان الجاهلية كانت تفتقرُ إلى عماد الحضارة من حرية
                        المعتقد والرأي.. فإننا نعيشُ اليوم أكثر أزمان الدنيا تشدُّقاً به.. ومع ذلك
                        لم أَسلَم من التبعة!
                        إن ذلك لهو أكبرُ دليلٍ على أن السيف يكون حقَّاً وترياقاً لكل من تسوِّلُ له
                        نفسه الحجر على عقول الناس وسلبهم قراراتهم.
                        لا يفهم الكفار كثيراً لماذا كان الفاتحون المسلمون يدعُون الجيوش الكافرة إلى
                        السيف بعد رفضهم الإسلام والجزية؛ فأمَّا السبب الأكثر وجاهةً أنهم يحجرون
                        الناس عن عقولهم ويلزمونهم عقل سيدهم!
                        الوقت يمضي يا (ساورو) فلا تبتئس!
                        ألم ترَ إنساناً سعيداً في سجنه؟! بل هنالك من هو أعجب من ذلك ولو أردنا
                        أسطورةً يتعلَّمُ منها الناس اليوم ما تعجزُ الدوراتُ والندوات تعليمهُ للناس
                        من معاني الإيجابية والتفاؤل فهاكم الشاب العالم العامل ابن تيمية مثلاً..
                        (ماذا يُريدُ بي هؤلاء؟! إن أخرجوني فسفري سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة، وإن
                        قتلوني فقتلي شهادة)..
                        يبدو أن الطائرة اقتربت من الهبوط أخيراً.. بل إنها بدأت تعود إلى الأرض بعد أن
                        ملَّت البُعد عنها.. وكما أن شوقي وحنيني إلى دياري لم تخبو نيرانهُ؛ غير أنني
                        لم أكن أدري أنني سأعود إليه رغماً عني..
                        هبطت الطائرةُ فعلاً في إحدى المطارات العسكرية قٌربَ دمشق؛ حيثُ كان الجنود
                        بانتظارهِ لتسليمهِ إلى مُقدِّم البلاغ ودعوى المُطاردة؛ قاضي محكمة الأرمن
                        والأرثوذكس.. وأمَّا البلاغُ الحقيقي الذي رُفع ضِدَّهُ فلقد كان: (إعادة أحد
                        رعايا الكنيسة الذين تمَّ استدراجهم للخارج وإجبارهم على الإسلام من قِبل بعض
                        المُتطرفين).. وأمَّا مُقدمُ البلاغ فهو والدُ (ساورو) نفسهُ، ولذلك فالدعوى
                        صحيحة!
                        كان البلاغُ مُستعجلاً ويقضي بتسليم الضحية فوراً إلى قاضي محكمة الأرمن
                        والأرثوذكس ليتولَّى الإجراءات اللاحقة..
                        تسلَّمت مكتب الشرطة الجنائية الدولية في دمشق المطلوب رسمياً (ساورو) بقيوده
                        وأغلالهِ التي يسحبُها خلفهُ بثقةٍ واصطبارٍ، ورضاءً بقضاء الله وقدره فيما حدث
                        ويحدث، ويسألهُ تخفيفاً وهوناً..
                        تم التأكُّد من هوية المُتَّهم وملفِ اعتقاله وأسبابه، ثُمَّ أُودع بعدها إحدى
                        السيارات العسكرية المُتَّجِهةِ إلى مركز شُرطة حلب؛ حيث سيتم تسليم المتهم
                        المطلوب.


                        يتبع

                        تعليق

                        • شذا الجوري
                          النجم البرونزي
                          • Sep 2006
                          • 681

                          #42
                          أبشركم يا أحبة ،،

                          الرواية على وشك النهاية ، وسنسارع من وتيرة التنزيل باذن الله ، فصبركم علينا ! .

                          تعليق

                          • شذا الجوري
                            النجم البرونزي
                            • Sep 2006
                            • 681

                            #43
                            الفصل الرابع والثلاثون:
                            يفتحُ (ساورو) عينيهِ مُجهداً من هذه الرحلة البريَّة المُفاجأة على وقعِ إيقاظ
                            ضُبَّاط الشُرطة له لينزلَ من العربة العسكرية، ليجدَ نفسهُ مسلوب الإرادة قد
                            وُضع من حيثُ لم يشأ على أرض حلب.. وحيثُ كان يُدخَلُ إلى مدير قسم الشرطة،
                            حيثُ كان يقولُ المدير مُندهشاً:
                            - يا للدهشة! فأنت شديدُ الشبه بوالدك.. ولئن أطعتهُ فيما يُريدُ فستغدو قريباً
                            "قسَّاً" مُهاباً ذو كلمةٍ نافذةٍ في الكنيسة تليقُ بمكانة والدك.

                            نظر (ساورو) إلى ذلك الضابط الفضولي بازدراءٍ، وقال:
                            - أشكرُ لك نصيحَتكَ، غير أنني أُفضِّلُ عدم الخوض في شئوننا العائلية الخاصة..

                            حدَّق الضابطُ بغضبٍ في وجه (ساورو) وقال:
                            - لولا أنك ابن القاضي، لكنتُ أدبتُكَ في السجن بما يليقُ بوقاحتك.. ولكنه في
                            الطريق إلى هُنا وسيتولى هو بنفسه تربيتك على أصولها!

                            لم يخب ظنُّ الضابط الذي كان قد اتَّصل بوالد (ساورو) منذُ أن وصلَ الأخيرُ إلى
                            مركز شرطة حلب، ففي خلال دقائق معدودةٍ كان قاضي الأرمن يقفُ أمام ابنه
                            (ساورو)..
                            نظر الأبُ إلى ساعته وقال:
                            - جيدٌ جداً.. لم تستغرق الرحلةُ كثيراً.. بضع ساعاتٍ فقط، وأتمنى أن الرحلة
                            أعجبتك يا حبيبي (ساورو)..

                            ابتسم (ساورو) بسخريةٍ وقال:
                            - بالطبع كانت مُمتعةً للغاية.. طائرةٌ خاصةٌ، وحراساتٌ عن الشمال وعن اليمين..
                            وثم جولةٌ في ربوع بلادي على متن عربةٍ عسكريةٍ خاصةٍ أيضاً!! أيُّ عز هذا الذي
                            نِلتَهُ يا (ساورو)؟! ولكنني بصراحة مُستاءٌ قليلاً أنهم لم يقدِّموا لي طعاماً
                            طوال هذه الرحلة..

                            أجاب الوالد بتهكُّمٍ:
                            - لا يُهمُّ ذلك.. فأنا من طلب منهم أن يُوصلوك إلينا بدون أي لُقمةٍ لتأكل
                            بنَهَمٍ من غذاء والدتك المكلومة بفقدك.

                            والتفت الأبُ على الضابط قائلاً:
                            - هل يلزم التوقيع على الاستلام أيها الضابط؟!

                            - (ضابط الشرطة): عفواً سيدي القاضي.. إنه مجرد روتين لا أكثر..

                            دقائق فقط كانت كافيةً للتوقيع، ولوصول (ساورو) إلى منزله على متن سيارة والدهِ
                            الذي كان قد انتفخ بنشوة النصر!

                            نَزَلَ والدُ من سيارتهِ وأخذَ يرمقُ بُنيَّهُ وقد بدت على ابنه الصغيرِ أمارات
                            الغضب وإن كان قد تمكَّن من إخفاءهِ.. ولكن الأمارات التي لم تخفَ هي محاولةُ
                            (ساورو) جمعَ شيءٍ قد تبعّثر في فمه من كلامٍ استعداداً لمناظرةٍ محتومةٍ فيما
                            يبدو.
                            دخل الوالدُ منزلهُ بهدوءٍ ولم يلتفت إلى (ساورو) المهزوم، فلقد كان الأبُ
                            واثقاً بأن الهزيمة التي مُنيَ بها ابنه في معركة الهروب أكبرُ من أن تجعلهُ
                            يفكِّر به مُجدداً.. ولذلك فلقد كان (ساورو) أيضاً يدخلُ باب منزله حاملاً على
                            ظهره حقيبتهُ التي حَوَت أيضاً بالإضافة إلى ملابسه الخاصة ملابس الإحرام!
                            كانت الأمُّ الحنون تنتظرُ والدها بصبرٍ نفد على أبواب المنزل، ولم تمهلهُ
                            ليدخلَ حتى احتضنتهُ وأخذت تُقبِّلُهُ وتضمهُ إلى صدرها..
                            كان ذلك استقبالاً دافئاً في ذلك الصيف بالمقارنة مع الأب الذي قرر أن يمنح
                            الجوَّ برودةٍ باستقبالهِ الباهت.
                            أجلست الأم ابنها وجلسوا ينظرون إليهِ وهو صامتٌ لا يأتي بحركةٍ، وبينما كانوا
                            يتبادلون النظرات الحميميةِ من جهةٍ والمحمومةِ من جهةٍ أخرى، كان الأبُ يقطعُ
                            تلك النظرات ببرودٍ:
                            - افتح حقيبتك يا (ساورو)..

                            -"أفتحُ حقيبتي؟!".. هكذا همس (ساورو) لنفسه مُستغرباً ذاك السؤال.. "وما الذي
                            يُريدهُ والدي من حقيبتي؟! إذ لم يفعل ذلك سوى ضُبَّاطِ الشرطة الجنائية حينما
                            فتَّشوني ووجدوا..."!!!
                            - تبَّاً لك من ماكر! لابُدَّ أنهم أخبروه بما تحتوي..
                            قال الأبُ ببرودٍ أشدَّ صقيعاً:
                            - لماذا أنت باهتٌ يا (ساورو)؟! أخبرني رجال الشرطة الجنائية الدولية أنهم
                            وجدوا في حقيبتك أثناء التفتيش ملابس الإحرام.. وأعرفُ بالطبعِ أنهم أمسكوا بك
                            أثناء خروجك من المملكة العربية السعودية باتجاه مصر.. وبقليلٍ من الذكاء فقط
                            يكتشفُ الجميع أنك كُنت عائداً من رحلة عمرةٍ في الديار الحجازية.. وعليهِ أيها
                            الكافرُ نعرفُ أنك كذبت علينا طوال الشهور الماضية بشأن إسلامك.. فما قولك؟!

                            أطرقَ (ساورو) برأسهِ مُفكِّراً فيما يجري.. لو أخبرتُهم أنني سأرتدُّ فلن
                            يُصدِّقوا ذلك وسيُبقونني تحت الحراسة المُشددة، والمُماطلةُ معهم لم يعد لديها
                            أيُّ معنىً.. فماذا عساي أن أفعل؟!
                            قال (ساورو) بهدوءٍ:
                            - ولكنني لستُ كافراً..

                            صرخ الأبُ بانفعال بعد نبرةٍ حاول جاهداً جعلها هادئةً:
                            - ما الذي تقصدهُ بقولك أنك لست بكافرٍ؟! لقد تركت دين المسيح وارتضيتَ لنفسكَ
                            دين الكفار..

                            أكملَ (ساورو) بهدوءٍ أيضاً:
                            - لنكن واقعيين.. أنا لستُ كافراً.. أنت يا أبي هو الكافر!

                            تسمَّرت الدماءُ في وجه الأب لما يسمع.. ذلك الابن الحبيب الذي طالما كان
                            مملوكاً مطيعاً لوالده، والذي خَدَمَ الكنيسة منذُ صغره، يصف قاضيها الآن بأنه
                            كافر؟!
                            تابع (ساورو) حديثهُ الهادئ في ذلك الجو المشحون:
                            - نعم يا أبي! إنني لم أحب رجلاً بقدر ما كُنتُ أحبك.. إلاَّ أن هذه المحبة
                            تقتضي أن أقول لك الحقيقة، فأنت لم تدع لي خياراً.. ولقد تماديتَ في تضييقك
                            عليَّ.. ولكن الحقيقة أنني آمنتُ بالله وحدهُ لا شريكَ له وآمنتُ برسالةِ نبيه
                            الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنتُ بأن المسيح عيسى بن مريم عبد الله
                            ورسولهُ ليس ابناً ولا شريكاً.. وعلى ذلك تكون يا أبي –آسفاً- أنت الكافر
                            الحقيقي!

                            صرخ الأبُ بغضبٍ:
                            - ما هذا الذي تهذرُ به؟! لقد أفسدَ الإرهابيون عقلك دونما شكٍ.. منذُ متى
                            وهُنالك نبيٌ اسمهُ محمد؟! هل نشأت لتؤمن بذلك الهراء؟! ومن ثمَّ منذ متى
                            المسيحُ كان المسيحُ بشراً عادياً.. لقد افتدى نفسه من الشرور والآثام
                            البشرية..إنهُ ابن الله حقَّاً..

                            هدأ الوالدُ في صُراخه على وقع تحريك (ساورو) رأسهُ نافياً:
                            - جانبت الصوابَ يا والدي.. فليس ثمَّة دليلٌ واحدٌ على ما تقول..

                            وانفعالُ الأب القاضي يتزايدُ:
                            - ما الذي تقولهُ؟! وأين ذهبت تلك الأناجيلُ التي تروي الواقع المقدس منذُ
                            بدايته ومن قبلهِ أيضاً..

                            أغمض (ساورو) عينيه قائلاً:
                            - الناسُ لا يعرفون هذا.. بل ربما تكون أنتَ قد نسيتهُ أيضاً.. لكنني وكخادمٍ
                            سابقٍ في الكنيسة رأيتُك مراراً وتكراراً تُعدِّلُ نسخة الإنجيل المعتمدة لدى
                            كنيستنا! أم أنك نسيت؟!

                            وهُنا انفجر غضب الأب المُنهار لهذه الحقيقة.. نعم فلقد عدَّل الكثير من نسخ
                            الإنجيل التي وقعت تحت يديه بناءً على خلفياته العلمية حول العهد القديم
                            والجديد.. ومع ذلك فلقد كان (ساورو) ما زال يُتابعُ حديثهُ قائلاً:
                            - إن وجود أشخاصٍ يُعدِّلون نُسخَ الإنجيلِ لهو دليلٌ دامغٌ على تحريفها.. وخذ
                            كم من الزمن مضى منذُ أن كُتِبَتْ لأول مرةٍ.. وعليهِ تكونُ قد حُرِّفت كثيراً،
                            وليست هي التي جاء بها اليسوعُ من عند الله.. ولذا..

                            لم يُكمل (ساورو) حديثهُ الدامغ، إذ كان الغضبُ المُتفجِّرُ في والدهِ يحدوهُ
                            إلى القيام وأخذ سلاحه الجاثمِ على منضدةٍ قريبةٍ من يدهِ وأطلق تجاه (ساورو)
                            رصاصةً قصد بها الموت!
                            أسقطَ الأبُ نفسهُ على أريكةٍ قريبةٍ ليُريح فيها جسدهُ من جريمته النكراء،
                            وأخذ يلهثُ بزفرةٍ مُستعليةٍ:
                            - نعم! يجب أن يُقتلَ خونةُ المسيح.. لا مكان لدينا ليسعهم..

                            ولم يُكمل الأبُ همهماتهِ، إذ رأى أن الدماء لم تكن تسيلُ من (ساورو)؛ بل كانت
                            تسيلُ من ذراع الأم التي احتضنت ابنها وفدتهُ من موتٍ مُحققٍ..
                            كُلُّ جليدِ الدهشة لم يذب عن وجه القاضي لما يرى، وبادرَ يقولُ لزوجتهِ:
                            - ماذا تفعلين أيتها الحمقاء؟! دعي هذا الكافرَ يموت!

                            بكت الأمُّ من الألمِ وقالت:
                            - كلاَّ! لن أدعكَ تقتل مهجة فؤادي..كما أنك مهما كنتَ قاضي الكنيسة فذلك لا
                            يُسوِّغُ لك أن تقتل شخصاً أبداً مهما كان..

                            - (الأب): أنا القاضي ومن حقي حمايةُ الكنيسة.

                            - (الأم): قد لا أكون على علمٍ بالإنجيل مثلك.. ولكنني أحفظُ منهُ أعظم عبارات
                            السيد المسيح الذي قال: (من لطمكَ في خدِّك، فأدر له خدِّك الآخر...).. فضلاً
                            أن تقتل إنساناً.. وأنت تعرف هذه العبارة جيداً..
                            - (الأب): أنتِ بالطبعِ لم تفهمي مغزاها تماماً..

                            توقَّفت قليلاً حيثُ كان (ساورو) يربطُ ذراع والدته المُصابة، ولكنها أكملت
                            بقوةٍ وعزمٍ:
                            - قد أكونُ مخطئةً، ولكن ابننا رجلٌ ويحقُ له اعتقاد ما يُريدهُ من الدين..

                            - (الأب): اخرسي وإلاَّ أسكتُكِ إلى الأبد..

                            - (الأم): لا تُماطل يا سيدي القاضي، فقد لا يعرفُ أحدٌ من الناس الآن غيري
                            وغيرك أن جدك كان مُسلماً واخترتما أنت ووالدُك أن تُصبحا راهبين نصرانيين، وأن
                            تكفرا بدين الله بعد وفاته..

                            - (الأب): اسكتي يا امرأة فليس من حقك الحديثُ عن ذلك..

                            قال (ساورو) لوالدتهِ:
                            - دعكِ من كُلِّ هذا يجب أن نُسرعَ إلى المُستشفى حالاً قبل أن يتَّسعَ الجرح..

                            ابتسمت الأم وقالت:
                            - لا عليك يا بُني.. إنه جرحٌ سطحيٌّ بسيط ولا مجال للتراجع الآن، فأنت على وشك
                            الانتصار!

                            نظر (ساورو) في عيني والدتهِ وقال:
                            - ماذا تعنين؟!

                            أغمضت الوالدةُ المُجهدةُ عينيها وقالت:
                            - لقد تبيَّن لي ولابني الحبيب الدين الحق فاتبعناهُ، وإنني أشهدُ معتقدةً
                            مؤمنةً من غير خوفٍ ولا وجلٍ بأنه لا إله إلا الله الإلهُ الحقُّ المبين ليس له
                            صاحبةٌ ولا ولدٌ، وأن محمداً عبدُ الله ورسوله وخاتم النبيين وأن المسيح اليسوع
                            عبد الله ورسوله.

                            أُلجمَ الأبُ بما يرى ويسمع؛ فبدل أن يكون لديهُ كافرٌ غدا له اثنين، وما حاول
                            إصلاحهُ بدا له أنه أفسدهُ بحماقةٍ دون أن يدري!!
                            سقط الأبُ من هول الصدمة ووضع رأسهُ في حجره مُحبطاً مُفكراً.. وهُنا نطق
                            (ساورو) مرةً أخرى بعزمٍ يفلُّ الحديدَ قوةً وبأساً، وبنظرةٍ طلَّ منها إيمانٌ
                            بالله راسخٌ لا يتزحزح:
                            - يجب أن تُفكِّر جيداً يا أبي؛ فمثلك أكثر معرفةً بما يجهلهُ أغلبُ الناس..
                            {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، كهيعص {1}ذِكْرُ
                            رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا {2}..
                            ابتسم (ساورو) في نفسه وقال:
                            - نعم هكذا اهتديتُ ولابد ألاَّ أُضيِّع الفرصة..

                            تابع (ساورو) القراءة بخشوعٍ وسكينةٍ وتدبرٍ والأب والأم صامتان لا يأتيان
                            بحركةٍ مندهشين لهذا الكلام النديِّ الطاهر:
                            { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا {3}قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ
                            مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
                            {4} وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا
                            فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا {5}يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ
                            وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا {6}يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ
                            اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا {7}قَالَ رَبِّ أَنَّى
                            يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
                            الْكِبَرِ عِتِيًّا {8}قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ
                            وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا {9}قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي
                            آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
                            {10}فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن
                            سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا {11} يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
                            وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا {12}وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً
                            وَكَانَ تَقِيًّا {13}وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا
                            {14}وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ
                            حَيًّا {15}وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا
                            مَكَانًا شَرْقِيًّا {16} فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا
                            إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا {17}قَالَتْ إِنِّي
                            أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا {18}قَالَ إِنَّمَا أَنَا
                            رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا {19}قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ
                            لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا {20}قَالَ
                            كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ
                            وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا {21}فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ
                            بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا {22}فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ
                            قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا {23}
                            فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ
                            سَرِيًّا {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ
                            رُطَبًا جَنِيًّا {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ
                            مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ
                            أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا {26} فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ
                            قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا
                            فَرِيًّا {27}يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا
                            كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا {28}فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ
                            مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا {29}قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ
                            الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا {30}وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ
                            وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا {31}وَبَرًّا
                            بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي
                            جَبَّارًا شَقِيًّا {32}وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ
                            وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا {33}ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ
                            الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ {34}مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ
                            سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
                            {35}وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ
                            مُّسْتَقِيمٌ {36}فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ
                            لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ {37}أَسْمِعْ بِهِمْ
                            وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ
                            مُّبِينٍ {38}..

                            أمسك (ساورو) بيد والدتهِ وقال لوالدهِ:
                            - فكِّر بالأمر قليلاً.. قد تخسر جاهكَ ومنصبكَ وشيئاً من مالكَ، ولكن الخسرانُ
                            المبين والشقاء الكبير أن تأتي إلى الحساب يوم القيامة وأنت تعرفُ الحق وتأبى
                            اتِّباعه..
                            رفع الأبُ رأسهُ المثقل إحباطاً.. وقال:
                            - يا بُني ليس معقولاً.. ألم يُضحِ المسيحُ بنفسه من أجل البشرية؟! ذلك الرجلُ
                            العظيمُ لا ينبغي إلاَّ أن يكون رجلاً في إلهٍ!

                            ابتسم (ساورو) لنفسه مرةً أخرى قائلاً: الآن القنبلة! الآن هديتي منكِ وإليكِ
                            يا حبيبتي (رنا).. إليكِ يا أغلى من رأيتهم.. إليكِ يا (رنا):
                            - أجبني يا والدي العزيز.. أجبني وأرح ضميرك من هذا العذاب.. أجبني وقل لي
                            وأقنعني:
                            (كيف يكون واحدٌ في ثلاثةٍ؟! كيف يكونُ إلهٌ واحدٌ في ثلاثة آلهةٍ)؟!!

                            أُسقطَ في يد الأب، وراح يسرحُ في عالمه مُفكِّراً بما يسمع..
                            لم يخطر ببال هذا الأب المسكين أن تلك العبارة هي نفسها هي التي قادت ابنه
                            الغالي –بإذن الله- من دياجير الكفر إلى نور الإسلام..
                            ولم يدع (ساورو) الأب يُكملُ تفكيرهُ حتى رتَّلَ ثانيةً قول الله تعالى:
                            { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
                            وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
                            فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ
                            مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
                            {55}فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي
                            الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ {56}وَأَمَّا الَّذِينَ
                            آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ
                            يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {57}ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ
                            وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ {58}إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
                            خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {59}الْحَقُّ مِن
                            رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60}فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن
                            بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا
                            وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ
                            نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ {61}إِنَّ هَـذَا
                            لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ
                            لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {62}فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ
                            بِالْمُفْسِدِينَ {63} قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ
                            سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ
                            بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ
                            فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{64}..
                            أنهى (ساورو) تلاوتهُ، وخرجَ ممسكاً بوالدته إلى المستشفى لتضميد ما أحدثه
                            والدهُ الغاضب.. وتركا ذلك الأخير يهيمُ في غياهب فكره، وزوايا عقله يُفكِّرُ
                            فيما جرى ويجري..



                            يتبع

                            تعليق

                            • شذا الجوري
                              النجم البرونزي
                              • Sep 2006
                              • 681

                              #44
                              الجزء الأخير ،،



                              - هل حقاً كنتُ على ضلالٍ؟!
                              - هل ما يقوله ولدي هو الصواب؟!
                              - هل تبعتُ والدي على دينٍ مُحرفٍ؟!
                              - أنا القاضي الأعظم في الكنيسة الأرمنية.. فهل يُعقل أن أرتد عن ديني؟!
                              - هل كان كُلُّ ما عِشناهُ وتعلَّمناهُ وعلَّمناهُ كان باطلاً؟!
                              - هل كان صلبُ المسيحِ أسطورةً تناقلتها الأجيالُ الأرمنية وما هي إلاَّ وهمٌ
                              مُفترى؟!
                              - يا تُرى ماذا سيجري لي إن تركتُ النصرانية؟!
                              - سأغدو رجلاً عادياً.. سأُطردُ من منصبي ومركزي وجاهي.. أنا القاضي لا يمضي
                              أمرٌ لأحدِ رعايانا دون أن أدري به.. فهل سأغدو فرداً عادياً؟!
                              - الأموالُ تتدفقُ عليَّ كُلَّ يومٍ بلا حسابٍ.. فهل سأتركُ كُلَّ تلكَ
                              الأموال؟!
                              - هل ينبغي عليَّ أن أُضحي بكلَِّ هذا؟!
                              أخذت الأفكارُ يصرعُ بعضها بعضاً في ذهن القاضي.. تلك الساعات مضت عليه كالدهور
                              الطوال.. إنهُ تائهٌ.. إنهُ يهيمُ في غياهب الظلمة.. إنهُ أمام قرارٍ سيكلفهُ
                              الكثير إن لم يُكلفهُ حياته!
                              إنه يصرخُ في أعماق نفسه..
                              - ماذا أفعل؟!
                              - ما هي الحقيقة؟!
                              - أريدُ أن أعرف الحقيقة.. وسأبذلُ روحي فداءها..
                              - لن أبالي بأحدٍ مهما كان..
                              - لكن من أين سأبدأ؟! وكيف سأعرفُ أن ابني كان مُحقَّاً فيما يقول؟!
                              - أظنني أعرفُ أين سأذهب.. فليس هُنالك سوى مكانٍ واحدٍ!!!

                              ركب والدُ (ساورو) سيارتهُ مشوش التفكيرِ، غائب الذهن، يقودُ ولا يعقلُ وجهتهُ
                              التي حددها قبل أن يُغادرَ منزلهُ..
                              دقائقُ فقط مضت قبل أن يوقفَ القاضي سيارتهُ، وينحي له الحرسُ إجلالاً
                              واحتراماً.. فهو على باب الكنيسة!
                              دخلَ القاضي أو والدُ (ساورو) إلى قاعة الكنيسة.. لم يؤدِ هذه المرة صلاتهُ
                              المُعتادة؛ فلقد أخذ اتجاههُ إلى قبو الكنيسة، حيثُ كانت تقبعُ في تلك
                              الظُلمةُ ظلماتٌ من الشرك والجهل دُوِّنت أساطيرهُ على أيدي بشرٍ تسمَّو بألقاب
                              لا يستحقونها..
                              ظلماتٌ مُتراكبةٌ، لا يمكنُ وصفها إلاَّ كما وصفها الله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
                              فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}..
                              دخل القاضي ذلك القبو المُظلم، وأخذ ينظرُ إلى تلك الكتب المصفوفة هُنا وهناك..
                              همس لنفسه:
                              - يا للسخرية! فهذه النسخ من الإنجيل كُلها قمتُ بتعديلها حتى دون علم البطريرك
                              الأعظم، فلقدُ ظننتُ أن معلوماتي التي أضفتُها أخبرني بها المسيحُ في إحدى
                              الروئ التي رأيتها في منامي!
                              وأقبِح بأمري وأمر أتباعي السذج حينما كنتُ هنا أكتب بعضاً من صكوكِ الحرمان
                              والغُفران.. ولا أدري من الذي أوهمني بأن الله جعل ذلك من سُلطاتي!
                              دعني أرى أيضاً.. أجل أتذكرُ أيضاً أن هذه الشروحات التي وضعها البطريرك الأعظم
                              وحاول جاهداً اعتمادها في الكنائس الشرقية ورُفضت!
                              هُنالك الكثير لديَّ هُنا من نُسخ الإنجيل المرفوضة من قِبل الكنيسة؛ لأنها لا
                              تُشابه الحقائق على حد زعمهم..
                              أحتاجُ الآن للهدوء.. ولا ينبغي لأحدٍ أن يعرف بوجودي هُنا!
                              أقفلَ والدُ (ساورو) على نفسهِ باب قبوِ الكنيسةِ، وكذلك فعلَ بهاتفهُ المحمول،
                              وأرسل نفسهُ وروحه إلى دياجير الكتب يبحثُ فيها عن الحقيقة الغائبة، أو التي
                              غيَّبها هو عن نفسه وعن النصارى المساكين من أتباعه!
                              أخذ القاضي يقرأ نهماً في تلك المراجع ويُقارنُها ببعضها.. ويقوم بين تارةٍ
                              وأخرى إلى كتابٍ آخر، وما أن يفرغُ من كتابٍ حتى يبدأ بآخر..
                              لم يكن يقرأُ قراءةً منهجيةً؛ بل كان يقرأُ فاحصاً ومُدققاً وناقداً.. كان
                              يُراجعُ النسخ ويُقارنُها ببعضها.. الأناجيل والشروحات والوصايا.. وكلُّ ما
                              يمكنُ أن يصلهُ إلى الحقيقة..
                              مضت على القاضي بضعُ ساعاتٍ امتدت إلى اليوم تقريباً، لم يذق فيها القاضي طعماً
                              للراحة، فضلاً على أنه لم يشعر فيها بمرور الوقت إلاَّ عندما سمعَ بطرق نواقيس
                              الكنيسة..
                              صاحَ القاضي مُندهشاً:
                              - عجباً!! إننا لسنا كاليهودِ لنطرق أجراسنا يوم السبت.. فلقد دخلتُ إلى القبو
                              يوم الجمعة مساءً، ولا تُطرقُ الأجراس إلا في يوم الأحد ميعادُ الموعظة
                              الأسبوعية.. مهلاً! لقد استغرقتُ أكثر من يومٍ ونصف في هذا القبو دون أن أشعر!
                              طوى القاضي مخطوطةً قديمةً أمامهُ كان يقرؤها.. واسترخى قليلاً على كُرسيِّهِ
                              يُفكِّرُ في النتيجة النهائية التي وصل إليها.. وبقليلٍ من التفكير وجدَ أن
                              اليومَ هو الوقتُ المُناسبُ لاتخاذِ القرارِ الأخير..
                              خرجَ القاضي من عُزلتهِ مُنهكاً، غير أن عزيمةً عظيمةً كانت تفصُد الوهنَ عن
                              جسده، والضعفَ عن خاطره، وكانت تحثُّ خُطاهُ إلى المنصة، حيثُ كان يقفُ كثيراً
                              لإلقاء المواعظ حينما يتخلَّفُ البطريرك..
                              وجدَ القاضي البطريرك أمامهُ قُبيلَ صعوده للمنصة، وطلبَ منهُ أن يسمحَ له
                              بإلقاء موعظة اليوم والتي تعب ليلتين على إعدادها!!
                              لم يُمانع البطريرك الأعظم بالطبع، فرأسهُ الخاوي لا يحوي سوى بضعِ مواعظٍ
                              أعادها طويلاً على مسامعِ السُّذج طوال سنين خلت.. وهكذا أخذ القاضي مكانهُ
                              وبدأ بإلقاء الموعظة.. أو ما كان يُحدِّث به القاضي نفسهُ بأنهُ القرار
                              والخطابُ الأخير..
                              تنحنح القاضي وقال:
                              "لقد أمضيتُ ليلتينِ في قبوِ هذه الكنيسة القديمة وأنا أُعدُّ لهذه الموعظة
                              الهامة والتي لن تكون كسابقاتها.. سأتكلَّمُ بصراحةٍ ووضوحٍ عن كُلِّ ما
                              قرأتهُ، ولقد قرأتُ الكثيرَ مما يصعبُ حصرهُ، وراجعتُ العديد من نسخ الأناجيل
                              المتوافرة في كنيستنا.. وإنكم لتعرفون قدري لديكم وسعة علمي.. ولسوف أُطلُّ
                              عليكم اليوم بكثير من الحقائقِ عن السيد المسيح مما غاب عن أذهانكم
                              واطلاعاتكم..
                              إنها حقائقُ مذهلةٌ تستحقُّ منَّا الكثير من التأمُّلِ والتفكير؛ كيف لا
                              والمسيح أفنى حياتهُ فيما نعرفُ ليدلَّ الناس على حقيقة الإله والكون والوجود،
                              كما وأمضى حياتهُ في حثِّ الناس على كرائم الأخلاق والطباع..
                              هو النبي العظيم.. لذا يجبُ أن نعرفَ الكثير عن حياته..
                              إننا نؤمنُ تماماً بأن اليسوع كان مُعجزةً وُلدَ من دون أبٍّ؛ فهو من روحِ الله
                              خلقهُ الله في رحم مريم العذراء، وأنهُ كان مؤيَّداً بالكثير من المعجزات
                              كإحياء الموت والشفاء من الأمراض..
                              لقد أفنيت الليلتين السابقتين وأنا أبحثُ عن جوابٍ حقيقيٍّ حول ما إذا كان
                              المسيحُ ماتَ حقَّاً.. وإذا كان مات فعلاً فهل يُعقلُ لإلهٍ أن يموت؟! ثُمَّ
                              أليس غريباً أن يَلقى ابن الله -كما نقول- كُلَّ هذه الإهانات ثم القتل على
                              أيدي شرذمةٍ من اليهود المتآمرين، بينما يجدرُ أن يكون مكرماً عزيزاً وهو بهذه
                              المكانة؟! ثمَّ إن المسيح كان يدعو إلى الأخلاق وإلى الإيمان.. فهل كان يجبُ
                              عليهِ أن يقدمَ نفسهُ فداءً للبشريةِ ليخلِّصها من ذنوبها؟!
                              وإذا كانت البشرية قد تخلَّصت من ذنوبها، فما هو الدافعُ لنُعادي المسلمين
                              –مثلاً- ونقاتلهم وهم أنقياءُ من الذنوب مثلنا، ولهم نبيٌ مرسلٌ كنبينا؟!
                              أسئلةٌ كثيرةٌ كانت تدور في خلدي طويلاً؛ ولكنني علَّمتُ نفسي كما تعلَّمتُ
                              وعلَّمتُ غيري بألاَّ أُفكِّرَ فيها البتة؛ فمجرد التفكيرُ فيها يعدُّ خرقاً
                              لقوانين الكنيسة!
                              أيها الأرمن الأرثوذكس! اعتقدتُ أنني بقراءاتي الكثيرة سأدحضُ كُلَّ هذه
                              المزاعم والتُرَّهات، وسأُرسِّخُ إيماني بالله والسيد المسيح، غير أنني سعيدٌ
                              أن أخبركم بالحقيقة على الرغم من خيبة أملٍ كبيرةٍ تعتصرني ألماً وحسرة؛ فأنا
                              لم أجد نسختين متشابهتين من العهدين القديم أو الجديد، كما أنني لم أجد دليلاً
                              منطقياً واحداً على أن المسيح ابن الله، وكذلك أيضاً فلم أجد ذمَّاً واحداً
                              يذمُّ رسالة النبي محمد وهو آخر المرسلين..
                              عشرات التناقضات بل هي مئاتٌ تلك التي وقعت عليها عيناي؛ فنحنُ على سبيل المثال
                              فقط نزعمُ أننا نحبُّ الأنبياء بينما لم أجد في الأناجيل سوى شتمهم واتهامهم
                              بالفواحش والجرائم الجنسية!
                              قد تستغربون هذا وتقولون أن نُسخةً تحوي كلاماً كفرياً كهذا جديرةٌ بأن تُحرق
                              ويُلغى اعتمادُها من المجامع الكنسية كلها..
                              سأصدمكم وأقول بأن هذا الكلام وجدتهُ مكرراً بأشكالٍ عديدةٍ في جميعِ النسخِ
                              المعتمدة في المشرق والمغرب على السواء"!

                              ضجَّت قاعةُ الكنيسة باللغط والتساؤلات.. غير أن والد (ساورو) كان مُصرَّاً على
                              إتمام حديثهِ حتى النهاية:
                              "إن المنهج العلميَّ يقول بأنه حينما يكذبُ إنسانٌ مرةً، فإنهُ يجب أن تشكَّ في
                              كلامه دائماً لأنه ربما يكررُ الكذب أيضاً.. وحينما تجدُ كتاباً يحوي أُغلوطةً
                              واضحةً فإنه حريٌّ بك أن تُدققَ الكتابَ بأكمله وألاَّ تجعله مرجعاً دقيقاً
                              لأنه ولا شكَّ يحوي أغاليط أخرى!
                              سأقولُ لكم أيضاً وأرجو أن تُسامحوني، فلقد عدَّلتُ قديماً الكثير من نسخ
                              الإنجيل بناءً على تصوراتي الشخصية، ولكي لا تتهمونني بالخيانة؛ فإنَّ جميع من
                              درَستُ عندهم علومَ الكتبِ المقدسة كانوا يفعلون ذلك، ويطلبون منَّا تعديل ما
                              نراهُ مُناسباً!!
                              إذا أيها الأرمنُ الأكارم سنتَّفقُ كُلَّنا أنه ما من نسخةٍ على ظهر هذه الأرض
                              مُطابقةٌ تماماً لنسخة الإنجيل التي جاء بها السيدُ المسيح.. إذاً تلك النسخ لا
                              تُشكِّل الحقيقة التي يريدُ الله لنا أن نعبدهُ بها!
                              لقد أخبرتكم في بداية كلامي أنني بهذه المطالعات رسَّختُ إيماني بالله والسيدِ
                              المسيح.. نعم فلقد رسَّختُ إيماني بأن الله واحدٌ ليس له شريكٌ ولا ولدٌ، ولقد
                              رسَّختُ إيماني بالمسيح فلقد ترسَّخ لديَّ بأنه عبد الله ونبيهُ إلى بني
                              إسرائيل، بشرٌ عاش في سبيل الله داعياً، ولم يُصلب؛ بل رفعهُ الله إليه وألقى
                              شبههُ على آخرٍ.. وكلُّ ما وهبهُ الله إياهُ من المعجزات لم تكن لتُثبتَ بأنه
                              إلهٌ بل لتثبت بأن نبيٌّ مرسلٌ من عند الله"..
                              ضجيجُ القاعة يزداد، وملامحُ الغضبِ والدهشة تسترعي الحاضرين، وحواجز من الذهول
                              سيطرت على عقول الكثيرين..
                              أخذ القاضي والدُ (ساورو) شربةٍ ماءٍ وقال بعزمٍ:
                              "إنني أدعوكم لتُرسِّخوا إيمانكم بالله مثلي، ولن يتأتى ذلك إلاَّ أن تقولوا
                              مثلي: أشهدُ ألاَّ إله إلاَّ الله وأشهدُ أن محمداً عبد الله ورسوله، وأشهدُ أن
                              المسيح عيسى بن مريم رسول الله إلى بني إسرائيل وكلمتهُ وروحٌ منه خلقه بشراً
                              رسولاً"..
                              ارتفع الصُراخ، وبلغت الدهشةُ مداها، فآمن من آمن وكفر من كفر ونزل القاضي عن
                              المنصة بهدوءٍ ودون أن يستمع إلى النداءات والنِقاشات التي أثيرت حولهُ.. حتَّى
                              بلغَ باب القاعة وقال بصوتٍ يسمعهُ الجميع:
                              "أشهدكم أنني لم أعد قاضياً لمحكمة الأرمن والأرثوذكس، وجميعُ عهدي لدى الكنيسة
                              انتهت، وهذا المُفتاح سأسلِّمهُ أمامكم لحارس الكنيسة، وأسال الله أن يهديكم
                              لما هداني إليه وأن يحشرنا إليه مُسلمين"..


                              الفصل الخامس والثلاثون:
                              يدخلُ والدُ (ساورو) أو من كان قاضياً لمحكمة الأرمن والأرثوذكس بيته مُنهكاً
                              غاية الإنهاك من ذلك الجهد الذهني الكبير، غير أن سعادتهُ كانت كبيرةً جداً
                              بوصوله إلى الحقيقة التي أخذ بيده إلى بدايته ابنه الحبيب (ساورو)!
                              دخل منزلهُ ووجد زوجتهُ تقفُ على الباب قلقةً وهي تقول:
                              - أين كُنتَ يا زوجي؟! لقد قلقتُ عليك كثيراً..

                              نظرَ الزوجُ المتعبُ إلى زوجته قائلاً:
                              - وهل أستحقُّ منك يا عزيزتي كُلَّ هذا القلق؟! هذه ذراعُكِ أصبتُها بطيشي
                              وغبائي..

                              هزَّت الأمُّ رأسها قائلة:
                              - مهما يكن فلا معنى لما حدث، وسلامتك مهمةٌ..

                              همس الأبُ بخفوتٍ:
                              - أين (ساورو)؟!

                              أجابت الأم:
                              - إنه في غرفته.. هل أُخبرهُ شيئاً؟

                              - (الأب): نعم يا عزيزتي، جهِّزي لي حمامي، ثُمَّ اجلسا في غرفة المعيشة حتى
                              انتهي..

                              أخذَ الأب حماماً دافئاً مُنعشاً يحملُ معانيَ طاهرةً في التخلُّصِ من الأوساخ
                              التي لوَّثت عقلهُ دهراً طويلاً..
                              أنهى حمامه وتوجَّهَ من فوره إلى حيثُ كان ينتظره زوجهُ وابنهُ (ساورو)..
                              جلس أمامهما وقال بخشوعٍ:
                              - أشهدُ ألاَّ إله إلاَّ الله وأشهدُ أن محمداً رسولُ الله..

                              أنهى الأبُ شهادتهُ وقام إلى ابنه يعتنقهُ ويُقبِّلهُ، ويعتذرُ إليهِ عمَّا
                              آذاهُ به طوال الأشهر الفائتة.. ويشكرهُ كذلك أن يسَّر له بإذن الله طريق
                              الأوبة والهداية..
                              أما بطلُنا (ساورو) فكانت عيناهُ ترقرقُ بالدموعُ لهذه النعمة العظيمة؛ فمن كان
                              يظنُّ أن أباً آذى ابنه وسلَّط عليه كُلَّ الضغوط، وأتى به أخيراً كمجرمٍ يغدو
                              اليوم مسلماً مُوحِّداً.. وها هي نعمةُ الله تزدادُ على أنها لا تحصى إذ قدَّمَ
                              الله إسلام والدته أيضاً هبةً ونعمةً يزدانُ به سرورُ ذلك الشابُ الصابر
                              (ساورو).. غير أن إسلام والدته أتي مُفاجئاً تماماً لـ (ساورو) فلم يُطق صبراً
                              إذ سألها وهو خارجٌ لعالجها من طلقة والده:
                              - أمي! لا أظنُّ أن فكرة الإسلام لديك كانت وليدة تلك اللحظة. أليس كذلك؟!

                              ابتسمت الأمُّ وقال:
                              - بالطبع لا.. هي فكرةٌ عمرُها بضعةُ أشهرٍ، وتحديداً حينما كُنتَ تستعدُّ
                              للذهاب إلى المعسكر دخلتُ غُرفتك لأرتِّبَ أغراضك وحاجياتك فوجدتُ مصحفاً
                              مُخبَّئاً في إحدى زوايا حقيبتك، فدفعني الفضول إلى فتح الصفحة التي كانت
                              العلامة تقفُ لديها وهي سورةُ مريم، قرأتُ ما استطعتُ فهمهُ وتزعزعت قناعاتي
                              بشأن النصرانية قليلاً ثم زالت أساساتُها بما حدث قبل قليلٍ!


                              تبعاتُ كثيرةٌ تلاحقت بعد إسلام القاضي السابق لمحكمة الأرمن والأرثوذكس؛ فمن
                              بين صكِّ حرمانٍ أصدرتهُ الكنيسةُ بحق الكافر بدين النصرانية إلى مُلاحقاتٍ
                              قضائيةٍ مُتعددةٍ بشأن بعض الأموال.. ولكنها كُلها لم تزد والد (ساورو) إلا
                              يقيناً وثباتاً..
                              وأمَّا شقيقُ (ساورو) الأكبر والذي رفع بوجه أخيه السلاح يوماً، فلقد خيَّرهُ
                              والده بين الإسلام أو ترك البيت والتبرُّءِ من النصرانية وأهلها، أو أن يتبرأ
                              أهلُهُ منهُ. وللحقيقة فلقد كان ذلك الشابُّ المنغمسُ في الشهوات والملذات ليس
                              على ارتباطٍ وثيقٍ بدين النصرانية، كما أنه ملَّ حياتهُ العابثة وبدأ يرنو
                              للتغيير.. وهزَّ قناعتهُ أخيراً إسلامُ والديه، ففضل التعقُّل وتجريب الإسلام!
                              والحمدُ لله ذي الإنعام إذ حَسُنَ إسلامهُ واقتناعهُ بالدين السماويِّ الخالد.
                              وبذلك انتهت ملفاتُ النصرانية من منزل (ساورو)..
                              بقيَ أن نعرف أن شركة (Gulf Tec) فمع طول غياب مُهندسها فإنها قررت فصلهُ من
                              العمل، وعليه فإنه تحتم على (ساورو) الاتصال بمديره والاعتذار عن هذا الغياب،
                              وتفهَّم المديرُ بصعوبةٍ هذه المغامرة المثيرة. وبذلك يبقى مُهندساً مدرجاً على
                              عمله احتياطياً إلى حين عودته إن أراد.
                              أما صديقنا (سعيد) فلقد تمكَّن أخيراً من تجاوز الحواجز المكانية وتمكَّن بفضل
                              الله من الحصول على تأشيرةٍ لزوجته المخلصة (لمياء).. وانتهت بذلك أيضاً فصول
                              معاناته.. لكنه تمكَّن في الوقت ذاته من إيجاد واسطةٍ استطاع على إثرها تسجيل
                              (ساورو) رسمياً في إحدى الكُليَّات الشرعية بالمملكة، مُلبيَّاً بذلك حلم
                              (ساورو) الكبير في الدعوة إلى الله تعالى على علمٍ منهجيٍّ أكاديمي.
                              الصديقين (ضياء) و (سمهر) ما زالا يُقارعان عتبة الزمان في الدراسة الطبية،
                              وعلى الرغم مما أحدثه (ساورو) من قلقٍ واضطرابٍ لصديقيه باختفائه المُفاجئ
                              إلاَّ أنه قرر إنهاء ذلك باتصالٍ أوضحَ فيه لـ (ضياء) ما حدث معهُ تفصيلاً في
                              مكة ومصر وسوريا وأخيراً ما تمَّ من إسلام والديه.. ووعدهُ بمُفاجئةٍ سيجدُها
                              على بريده الإلكتروني.. وهكذا مضت عجلةُ الذكريات بالصديقين وهما يتذكران
                              أخاهما (ساورو) كُلَّما رأيا من بعيدٍ تلك المآذن الشامخة لجامع "الرئيس
                              الصالح"، ويريانهِ أكثر حينما يُصبحان على مسافةٍ قريبةٍ من ورشة البناء
                              المُلاصقة "لمستشفى السبعين"!
                              يتذكَّرُ حينها (ضياء) أخاهُ في دين الله (ساورو) ببساطته ولطافته التي يؤخذُ
                              بها كُل من عرف ذلك الأرمني.. كما يتذكَّرهُ أيضاً مُشاطراً إيَّاهُ -مُتأخراً-
                              رحلة مُعاناته في انتقالهِ من الظلمات إلى النور على يد تلك الفاتنة (رنا)..
                              أجل! من كان يظنُّ أن فتاةً عبثت بقلبها ومشاعرها كما يفعلُ الكثيرُ من بنات
                              جنسها اليوم فاهتدت وهدت بإذن الله على وضوح خطأ ما بدأت به!
                              أمَّا (ساورو) فمنذُ أن شعر باستقرار الأوضاع في منزله ذهب علانيةً لزيارة
                              مخطوبته والتي لَهِفت لغيابه وأخيراً دُهشت لقدومه المُفاجئ.. فلقد كانت تعرفُ
                              أنه خارجٌ للعمرةِ بيد أنها لم يدُر في خلدها أبداً أنه سيغدو دون رغبته مجرماً
                              مُلاحقاً تُلقي به الأيادي والسجون إلى حلب..
                              ما إن رأتهُ يقفُ على بابها حتى ارتمت في أحضانه بدموعٍِ حارةٍ تسيلُ بالحُبِّ
                              والوفاء.. وأخذا مجلسهما تستمعُ البنيَّةُ إلى حديثِ خطيبها الرائع في رحلته
                              الغريبة.. وأخيراً عظيم ما انقضت إليه من إسلام أهلِ بيته جميعاً..
                              كعصفورين جلسا على عتبة الشرفةٍ يتبادلان أخبار العُشَّاقِ في وقت الغروب، حيثُ
                              تحنُّ الطيورُ إلى أعشاشها، ويحنُّ الأحبابُ إلى أحبابهم.. وحيثُ تكون لحظةُ
                              الوصالِ عبقاً تتنفسهُ أرواح العشاق الملهفة بالفراق، وشهداً يُغذي القلب
                              بأسباب الهدوء بعد الاضطراب؛ وإن كانت تلك القلوب لا يخف لها نبضٌ أبداً ولا
                              أظنُّه يزيدُها إلا خفقاً!
                              قبل الغروب تأخذُ تلك القلوب نصيبها من حرمانٍ حُرمتهُ بسبب البطش الصليبي
                              الحاقد بكل من سوَّلت له نفسهُ بأن يفتح عينيه ليرَ الحقيقة..
                              خفق قلبا المُتيمين بما لم تُتح لهما ممارستهُ من ألوان الهيام والغرام في زمن
                              الحرام.. إذ هما يعيشان الآن أجمل تلك اللحظات في ظل شرع الله وسنته.
                              إنه الحبُّ والوفاء، فمن عشقٍ لاهٍ عابثٍ، إلى دعوةٍ وفداء، ثم أخيراً الوفاء..
                              فبقدر ما أوفت به الحبيبةُ (رنا) وبذلت لأجل عشيقها وخطيبها بقدر ما كان لزاماً
                              ووفاءً أن يَهِبَ (ساورو) قلبَهُ لمن كانت له بعد الله نور الهداية ومفتاح
                              الإرشاد.. ولن يملأ سويداء قلبه فتاةٌ أكثر من هذه الحسناءُ الداعية.. (رنا).
                              فصولٌ كثيرةٌ ملأت دوواين الشُعراء بأخبار العُشاق، فلا نفعت عبلةُ عشيقها
                              عنترة على أنه كان يراها حتى في لمعات سيفه! ولا طاب الوصال للمجنون في
                              مجنونته! ومنهم من مات بحسرته قبل الكلام وقبل الوصال!! إلاَّ أن هذه الرواية
                              كانت حُبَّاً حقيقياً ووصالاً صادقاً خاض بطلاهُ معارك الدين والحياة حتى منَّ
                              الله عليهما بسعادةٍ ولذةٍ أملُها سعادةٌ لا تفنى..

                              مضى على الأحداث الأخيرة قُرابة الشهر، حيثُ وجد (ضياء) على بريده الإلكتروني
                              بطاقة دعوةٍ لزفاف (ساورو) على خطيبته (رنا)، حملت لها في قلبي (ضياء) و (سمهر)
                              كل آيات الحب والسعادة.. وعلى الرغم من أن (سمهر) الحلبي المسكن لم يكن مكان
                              عرس (ساورو) بعيداً عن مرمى قدميه، غير أنه عجز عن تلبية الدعوة لانشغاله بأداء
                              الامتحانات الدراسية والتي طال أمدها..
                              كان الناسُ يزدحمون ويتوافدون إلى "القاعة الماسيَّة" للأفراح في حلب الشهباء،
                              وجوهٌ كثيرةٌ عرفها العريسان: زملاء من كلية الهندسة بجامعة حلب..
                              (أريجٌ) قدمت وزوجها من "فنلندا" لتشارك صديقتها (رنا) بهجتها وأيام طفولتهما
                              السعيدة..
                              كذلك المدير العام لشركة (Gulf Tec) كان يقضي إجازتهُ الصيفية في دياره حلب
                              حينما وصلتهُ بطاقةُ الدعوة المجهولة، وبعد توضيحٍ أدرك أن المرسل (حمزة) هو
                              نفسهُ (ساورو)!
                              تلاميذُ الشيخ (باسل الجاسر) –رحمه الله- قدموا أيضاً لمُشاهدة وصية شيخهم
                              الأخيرة في أخيهم المسلم (ساورو)، وعلى الرغم من أن رؤيتهم كانت توشِّحُ العريس
                              بغمامةٍ من الحزن لذكرى شيخهِ إلاَّ أنها لم تزده سوى حُبَّاً لذلك الشيخ
                              الوفي.. ودعاءً بلقياهُ في دار الخلود..
                              ليس غريباً أيضاً أن يحضر والدُ العريس زفاف ابنهِ، غير أنه لم يكن يجول
                              بخاطرهِ يوماً أن تلك الفتاة المسلمة التي كان يُحرِّمُ على ابنه صداقتها،
                              واشتطَّ غضباً لعلمه بخطبتها، أنه سيكونُ سعيداً لا تسعهُ الدنيا أن تكون
                              ملاكاً جميلاً لابنه الحبيب، ودرةً تُزيِّنُ قلبهُ هو القاضي بقدوم مثل هذه
                              الرائعة إلى جوار حياته؛ زوجةً لابنهِ، وكابنةٍ مميزةٍ لا تُشابهها بتميُّزها
                              فتاة..
                              والأشدُ غرابةً من كل هذا قدومُ جمعٍ من رواد الكنيسة الأرمنية الأرثوذوكسية
                              الذين أسلموا بإعلان قاضيهم الإسلام وشكَّلوا معاً مجلساً يتدارسون فيه
                              الإسلام؛ ويكون منبراً للدعوة إلى دين الله بين النصارى الأرمن مُستقبلاً..
                              علتُ الجميعُ البهجة والحبور بهذا الزفاف المبارك، حيثُ كان يزدانُ فيها عريسين
                              ملآ الحضور وسامةً وبهجةً وسعادةً.. وقد أخذ العريسُ (ساورو) يُقلِّدُ فتاتهُ
                              بالذهب حيث ينبغي أن يمضي بعروسه الفاتنة إلى عُش الزوجية.. إلى حيثُ تمنَّى
                              الجميع..
                              ولسوف تستغربُ كثيراً حينما تعلمُ أن العريسين أسرفا من وقتهما الكثير في نقض
                              هذه القاعة الجميلة وتصميمها، فالعروس تُشيرُ إلى زاويةٍ، والعريسُ على عمودٍ،
                              وتلك إلى سقفٍ، وتباهى العريس بقبابٍ زيَّنها تفوقُ جمال قبة هذه القاعة!
                              وليمةٌ فاخرةٌ، وأطعمةٌ لذيذةٌ، وأفواهٌ ضاحكةٌ، غمرت وجوه الحاضرين..
                              انتهى العُرسُ، ولم يكن فيه ما يثيرُ الدهشة مثل بطاقة الزفاف؛ فكلُّ بطاقات
                              الزفاف تُكتبُ فيها آية الروم: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ
                              أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
                              وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {21} واسمَيْ
                              العروسين وعائلتيهما.. غير أن العروسين زادا في بطاقتهما كتابة آيةٍ على ظهرها:
                              { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ
                              رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }.



                              هنيئاً للعاشقين..(ساورو) و (رنا)..

                              *** تمت بحمد الله ***

                              تعليق

                              • خزامى المدينة
                                تاجرة
                                • Nov 2006
                                • 4922

                                #45
                                جزيت خيرا ووفقك الله
                                روايه جدا راااااااااائعة
                                اللهم ثبتهم على الحق
                                خزامى المدينة

                                اهلا بكم في متجر خزامى شوب

                                للملابس الراقيه والشنط والاحذية

                                والصابون المغربي التقليدي والافريقي وزبدة الشيا

                                وتوزيعات الأفراح والمناسبات

                                فحياكم الباري
                                عن طريق الواتس (
                                للجادات الله يرضى عليكم
                                0583878200

                                عن طريق موقع الالكتروني ( متجر خزامى شوب )
                                أو عبر صفحة المتجر في الفيس بوك

                                أو عبر صفحة تويتر

                                تعليق

                                يعمل...