ملاحظة: هذه القصة جديدة ومن تأليفي. أجزاء منها حقيقة وأخرى من نسج الخيال. لن أطيل عليكم سأترككم مع القصة
::::: ::::: :::::
أمومة بلا حنان

استلقيت على السرير بصعوبة. كانت الآلام لا تطاق. لم أعد أتحملها. بت أتمنى الموت علّي أرتاح. جاءت الممرضة وهي تحمل حقنةً مسكنة. خاطبتها:
- ما فائدة المسكنات. ما هي إلاّ ساعات ونوبات الألم تعاودني من جديد.
- رجاءً سيدتي لا تتحركي.
بعد أن أنهت الممرضة مهمتها خرجت وتركتني أقاسي الآلام. قرب سريري جلست ابنتي المقعدة "حنان" تقرأ القرآن والأذكار.
** ** ** **
حنان هي آخر عنقودي. طالبة متفوقة في السنة النهائية في كليات التقنية العليا. تأملتها. تذكرت حين عرفت أني حامل بها. لم أرغب يومها بأبناء آخرين. حاولت أن أجهض نفسي بشتى الوسائل والسبل لكني فشلت. نصحتني إحدى صديقاتي بتناول دواء مخصص للسعال يسهل ما عزمت عليه. جلب لي زوجي الدواء من الصيدلية. تناولته. بعدها بساعات أغمي علي! استيقظت لأجد نفسي في المستشفى. طمأنتني الطبيبة أني بخير. سألتها: وجنيني؟! ردت ضاحكة بأنه ما يزال متمسك بي!
لم أجد مفراً من الرضى بهذا المولود القادم، ولم أكن أعلم أن الدواء الذي تناولته سيؤثر على جنيني!! قدمت مولودتي إلى الدنيا وتقوس حاد في رجلها!!
** ** ** **
- أمي. هل أنتِ بخير؟!
قطعت علي حنان بسؤالهاشريط ذكرياتي.
- الحمد لله أفضل لقد سكنت الآلام قليلاً. ألم يتصل أحد من إخوتك يسأل عني؟!
- أنتِ تعرفين مشاغلهم الكثيرة يا أمي. لقد وعدوني الليلة بالقدوم.
رمقتها بنظرة أكذّبها فيها. ارتبكت وقالت:
- أرجوكِ يا أمي لا تغضبي على إخوتي.
** ** ** **
عدت إلى ذكرياتي. احتاجت حنان إلى جلسات طبيعية كثيرة في المستشفى. لم أكن أهتم بمواعيدها. ذات يوم نهرتني الطبيبة متعجبة لعدم التزامي:
- أليست حنان ابنتك؟! ألا ترغبين في شفائها؟!
مرّ عام وحالتها لم تتحسن. قرر الأطباء أن يجروا عملية لها قد تساهم في شفائها. وافقنا على العملية على مضض. بعدها جبّست رجلها مدة ستة أشهر لكن دون فائدة. أشار علينا أحد الأطباء أن نأخذها للعلاج في الخارج لكني رفضت. علاجها سيكلفنا كثيراً. إن عالجناها لن يتمكن زوجي من بناء مسكن جديد ولا شراء سيارة كبيرة.
كانت كثيرة البكاء والصراخ خاصة في الليل. رغبت في وضعها في مركز يعتني بمن هم في مثل حالتها لكن زوجي رفض. جلبت لها خادمة تقوم بالاعتناء بها لأرتاح لكنها لم تلبث سوى أربعة أشهر وهربت! وهكذا كان الحال مع الخادمة الثانية والثالثة! حين شاهد زوجي حال ابنته المعاقة مع الخادمات رضخ لطلبي وسجلها في المركز.
بقيت حنان في المركز حتى أكملت السادسة من العمر. حين عرفت أن أحد المدارس الحكومية وافقت على التحاقها بها أصرت على والدها أن يأتي ليأخذها. في الطريق تعرض لحادث ومات متأثراً بإصاباته البليغة.
** ** ** **
- لطفاً الطبيب سيحضر بعد قليل.
هكذا حدثتنا الممرضة.
- لابد أن نتائج الفحوصات والتحاليل قد ظهرت.
- اطمئني يا أمي ستكونين بخير إن شاء الله.
** ** ** **
- "فشل كلوي مزمن" هو ما تعانين منه يا سيدتي.
- فشل كلوي... كيف؟! ومتى؟! ولماذا؟!
كدت أنهار. أمسكت ابنتي حنان بيدي. ضغطت عليها بقوة كأنها تطلب مني أن أتحمل صدمة مرضي المفاجئ.
- بالرجوع إلى ملفك لدينا وجدنا أنّك قبل سنتين عانيتي من التهاب حاد في الكلى.
- أجل... لكن...
- إهمالك في العلاج تسبب في حدوث الفشل الكلوي، ولا تنسي أنّكِ تعانين من مرض السكر إلى جانب ارتفاع ضغط الدم.
- والحل؟!
- حالياً سنجري لكِ غسيل للكلى كل ثلاثة أيام. هذا الإجراء سيكون مؤقت حتى نجد متبرعاً مناسباً لكِ. ستمكثين معنا أياماً. لابد من إجراء فحوصات كاملة لكِ.
** ** ** **
طوال فترة مكوثي في المستشفى كنت أنتقل بواسطة الكرسي المتحرك. حنان رافقتني ولم تتركني إلا لحضور محاضراتها في الكلية. هذا الكرسي أسر ابنتي أكثر من اثنتي عشر عاما، وأنا اليوم لم أتحمله أسبوعاً كاملاً.
** ** ** **
ذات يوم عادت باكيةً من المدرسة. كانت في الصف السادس. اتهمتها إحدى زميلاتها بسرقة مجموعة من الصور خاصة أنها دائمة المكوث في الفصل، ولا تخرج منه إلا نادراً. في اليوم التالي وجدت زميلتها الصور المفقودة في مكتبة المدرسة. اعتذرت منها أمام الجميع وأصبحت من أعز صديقاتها.
** ** ** **
- حين تخرجين من المستشفى –بإذن الله- سأعد حفلاً رائعاً وسأدعو جميع إخوتي وعائلاتهم.
- حنان... تذكرين؟ بعد أن تخرجتي من الثانوية طلبتي مني أن أعد لكِ حفلاً و...
قاطعتني قائلة: أمي لا داعي لتذكر ما مضى. المهم الآن صحتك.
** ** ** **
بعد أن حصلت حنان على الثانوية العامة رغبت في عمل حفل بسيط تدعو إليه جميع صديقاتها لكني رفضت بحجة أن نسبتها لم تكن في فوق التسعين. كانت تسع وثمانين ونصف. يومها لم تخرج من غرفتها. طلبت من الخادمة أن تأخذ لها الطعام وما هي إلا لحظات حتى تعود به كما هو!! في اليوم التالي عاتبتني بلطف، وقالت: لو كان والدي على قيد الحياة لما تردد في تلبية رغبتي.
حينها غضبت وصرخت في وجهها، واتهمتها بأنها السبب في موت والدها. لو لم تصر على قدومه للمركز لما مات! فغرت حنان فاها. لم تتوقع مني هذا الرد. بكت بعدها بشدة ومكثت في غرفتها أياماً. امتنعت عن تناول الطعام حتى تعرضت لإعياء شديد وعلى أثره رقدت في المستشفى. من شدة تأثرها ابيضت خصلات شعرها الأمامية!!
** ** ** **
في الكلية بدأت حنان تستعيد حيويتها ونشاطها. الجميع شهد لها بتفوقها وذكائها. كان لأدبها الجم وإصرارها وطموحها الأثر الطيب في استقطاب اهتمام الجميع. أكثر من اهتم بها بروفسور أمريكي من أصل فلسطيني. حدّث إدارة الكلية لتوفر لها عاملة تساعدها على التنقل في الكلية بسهولة وشرح وضعها لهم. كان يطمئن على مستواها الدراسي عاماً بعد عام حتى أنه رشحها للتدريس في الكلية بعد تخرجها أو ابتعاثها لإكمال دراستها في الخارج. كان دائما ما يردد للطالبات أن حنان ابنته التي ليست من صلبه!
** ** ** **
خرجت من المستشفى على أمل أن أجد متبرعاً ينقذني من آلامي. ينقذني من الغسيل الذي لم أعد أطيقه أياماً معدودة.
لبى جميع أبنائي دعوة ابنتي حنان وجاؤوا حاملين هداياهم وورودهم. كان الجميع سعيداً بخروجي لكن حين صارحتهم أختهم بحاجتي إلى من يتبرع لي بكلية انسحبوا الواحد تلو الآخر خوفاً أن نطلب من أحدهم الخضوع للتحاليل ويكون صاحب الكلية المطلوبة!
** ** ** **
والآن ما رأيكم هل أكمل؟!!
تعليق