

أما الخصلة الأولى.. فقد اكتسبت عزة ورفعة وعلو شأن لما اتخذها الله جل في علاه من أسمائه وصفاته.. وهي الحِلم
قال تعالى: (...وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) البقرة/ آية235
وهي حلية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. فالخليل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) هود/آية 75
وإسماعيل ( بَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) الصافات /101
وشعيب عليه السلام ( الحليم الرشيد ) هود/87
أما خيرة الخلق، فقد وصفه الحليم جل في علاه بأحسن الصفات.. وهكذا كان..
أسر القلوب بحلاوة أنفاسه التي كانت تعبق رحمة ورأفة وعفوا وصفحا وحلما وأناة
فتسابقت إلى رؤيته.. ومنها لم تعد تطيق فراقه.. فتهافتت على عشرته والإيمان بما جاء به.. ومنها إلى ملازمته
كيف كان له أن يدعو أمة بأكملها إلى اتباعه، لو لم يكن كما وصفه خالقه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )القلم/ آية 4
لم يكن لهم الخيرة..
لقد أصبحت القلوب والمهج تهفو إلى تتبع حتى الخطوات التي لامست يوما ما.. نعله
أليس هو بصفوة الخلق وخيرة المرسلين.. ألم يزكيه ربه بكمال الأخلاق فيقول: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... ) آل عمران /159
وصاه عز وجل أن يربي أمته على هذا الخلق: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) سورة الأعراف/ آية 199
وأثنى على من اتصف به ووعده بالجنة (.. وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) سورة آل عمران/آية 133-134
وأما الثانية.. فلا يمكن أن نتحدث عن الأولى دون أن نتحدث عنها وجوبا.. وهي الأناة
والتأني في الأمور كلها خير... وما أكثر ما يهلك الإنسان ويزل بسبب التعجل في الأمور..
إذن.. هما خصلتان متلازمتان توأمان
أما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبت وترك العجلة

خصلتان يحبهما الله..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ( إن فيك خصلتين يُحبهما الله: الحلمُ والأناةُ ) رواهُ مسلم
فلو أنه كلما أخذت أحدنا ثورة الغضب.. استشعر هذا المعنى بكل ما في كيانه..
معنى محبة الله لهاتين الخصلتين..
ماذا ترانا نفعل ؟..
لـ رضخنا إلى ما يحبه الله
لـ استشعرنا مع محبوبات الله.. الآية:
( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)285 /سورة البقرة
وهكذا يجب أن يكون تصرفنا: حلم وعفو وصفح وأناة..
هذه الصفات التي افتقدناها في عصرنا ولم يعد يتصف بها إلا من رحم ربي..
بالرغم من أنها صفات تستوعب بالرحمة جميع الخلق..
فتنقلنا من ضيق النفوس إلى رحابة الصدور..
تُصبرُنَا على أذى الناس.. وتجعل القلوب تهفو إلى القلوب ولا تُنفرها
وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم كان في دعوته للناس صابرا حليما متأنيا..
ولم يكن قط.. فظا غليظا قاسيا أو غاضبا (إلا فيما كان يغضب الله)..
فمدحه خالقه فقال: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) سورة آل عمران/آية 159
قبله.. كانت البشرية حائرة.. لم تعرف معنى للحلم ولا الأناة..
فتصدرت له صلى الله عليه وسلم، بكل غلظة وفظاظة..
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْت إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّة جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ, ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"
موقف رهيب.. لم يكن لأحد أن يتصرف حياله بكل حكمة.. إلا هو.. الرحمة المهداة لهذه البشرية الضائعة ..صلى الله عليه وسلم ..

وليس يتمُّ الحِلمُ للمرءِ راضياً *** إذا هوَ عند السخطِ لم يتحلمِ
كما لا يتمُّ الحِلمُ للمرءِ موسراً *** إذا هوَ عند العُسرِ لم يتحشَّمِ
لا تحسبن الحِلمَ منكَ مذلَّةً *** إنّ الحليمَ هوَ الأَعزُّ الأمنعِ
إن جرَّعُوكَ الغيظ فأجرعهُ لهمْ *** تُؤجَرُ وتُحْمَدُ غب ما يتجرعِ
هذا ما أنشده الأحنف بن القيس.. لعلمه كما نعلم أن الحلم والأناة ليستا بالأمر السهل على النفس..
ففي قول الله تعالى: ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)آل عمران/ 134
دليلٌ على أن كظم الغيظ يشق على الناس.. فمن غلب نفسه فقد كظم غيظه..
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)
فالذي يصبر على أذى الناس ويحتمل ويسامح ويحتسب الأجر من الله .. حق له أن يتصف بالشديد للحق، الحليم المتأني

ولا ييأس من ليس به حلم من أن يكون حليما..
فالحِلم يأتي بـ ترويض النفس، أي تكلف التحلم، أي بالمجاهدة الشديدة في كظم الغيظ
فإذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا.. فلا يهيج الغيظ.. وإن هاج فلن يكون في كظمه تعب..
وكذلك "تُدَرَّبُ النفس على الحلم بالتحلم"
فهلا كابدتَ نفسك وجاهدتَها وكبحتَ جِماحها امتثالا لوصية الله..
ألا تريد أن تكون من الصابرين ذوي الحظ العظيم..
قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فصلت/آية 34

أليس هو قدوتنا..؟
هل تستطيع أن تثبتَ أمام موقفٍ واحدٍ من المواقف العديدة التي تعرض لها..؟
مواقف ربما كانت تضعنا في قمة الغضب..؟
ولكن هو.. الرحمة المهداة.. لم يكن يغضب أبدا إلا فيما يغضب الله..
كان الحِلم ديدنه.. والأناة مسلكه..
وإن استقراء بعض الوقفات في سيرته ليأخذ بمجامع قلوبنا ومهجنا..
فهو..
لم يُعهد عليه أنه ضرب خادماً أو امرأة، ولم ينتقم من أحد ظلمه في المال أو البدن ، بل كان يعفو ويصفح كما شهدت له أمنا عائشة فقالت: ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل ) رواه مسلم .
وهو..من خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف طلباً للحماية مما ناله من أذى قومه، فقابله ساداتها بقبيح القول والأذى، وقابله الأطفال برمي الحجارة عليه، فأصابه صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن ومن التعب الشديد ما جعله لم يفق إلا و جبريل رضي الله عنه قائماً عنده يخبره بأن الله بعث ملك الجبال برسالة يقول فيها: إن شئت يا محمد أن أطبق عليهم الأخشبين
فأتى الجواب منه عليه السلام بالعفو عنهم قائلاً: ( أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري
فأي شفقة وأي حلم من إنسان يُضاهي هذا الحلم إلا حلمه عليه السلام
وهو.. من كُسِرت رُباعيته صلى الله عليه وسلم وشُجَ وجهه يوم أُحد، شَقَ ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله ادعُ على المشركين، فأجاب قائلاً لهم: ( إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة ) رواه مسلم
وهو.. من أقبل عليه صلى الله عليه وسلم ذات مرة الطفيل بن عمرو الدوسي طالباً منه الدعاء على أهل دوس لعصيانهم، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رفع يديه مستقبل القبلة قائلا: ( اللهم إهد دوساً ) رواه البخاري
وهو.. من أُخرج من مكة وهي أحب البلاد إليه، وأذاقه قومه ما أذاقوه داخلها وخارجها لمدة سنوات، وجاء النصر من الله تعالى، وأعزه سبحانه بفتحها، قام فيهم قائلاً: ( ما تقولون أني فاعل بكم ؟ ) قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال: ( أقول كما قال أخي يوسف: { لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين } يوسف/92، اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي
هكذا سما تواضعا.. وازدان جبينه بـ حِلمٍ عجيب.. نابعٍ من إيمان عميق
تمخض عنه حكمة ورشدَا.. في أشد المواقف رهبة..

هل تستطيع ان تكون مثل هؤلاء..؟
أناس ما فتئوا يتمثلون الحِلم في حياتهم ويتخذونه ديدنا، والأناة في تصرفاتهم، ويهدون بها غيرهم..
أتعرفون المثل القائل: "أحلم من الأحنف"..؟
هو الصحابي الجليل "الأحنف بن القيس"
كان شديد الحلم حتى صار يُضربُ به المثل في ذلك الخلق..
يحكى أن رجلا شتمه، فلم يردَّ عليه ومشى في طريقه، ومشى الرجل وراءه، وهو يزيد في شتمه، فلما اقترب الأحنف من الحي الذي يعيش فيه، وقف وقال للرجل: إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله قبل أن يسمعك أحد من الحي فيؤذيك
ويحكى أن قومًا بعثوا إليه رجلا ليشتمه، فصمت الأحنف ولم يتكلم، واستمر الرجل في شتمه حتى جاء موعد الغداء، فقال له الأحنف: يا هذا إن غداءنا قد حضر، فقم معي إن شئتَ فاستحيا الرجل ومشى
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، قيل: فما بلغ من حلمه؟ قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته خادمة له بسفود عليه شواء فسقط السفود من يدها على ابن فعقره فمات، فدهشت الجارية، فقال: ليس يسكن روع هذه الجارية إلا العتق فقال لها: أنت حرة لا بأس عليك
وهذا عمر بن عبد العزيز يخرج ذات ليلة ليتفقد أحوال رعيته، وكان في صحبته شرطي، فدخلا مسجدًا، وكان المسجد مظلمًا فتعثر عمر برَجُلٍ نائم، فرفع الرجل رأسه وقال له: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا. وأراد الشرطي أن يضرب الرجل، فقال له عمر: لا تفعل إنما سألني: أمجنون أنت؟ فقلت له: لا.
فقد سبق حلم الخليفة غضبه، فتقبل ببساطة أن يصفه رجل من عامة الناس بالجنون، ولم يدفعه سلطانه وقوته إلى البطش به.
وهذا رجل يسب ابن عباس رضى الله عنه، فلما فـرغ قـال: يا عكرمـة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى

يخاطبني السفيه بكل قبح**** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما**** كعود زاده الإحراق طيبا
ما أجمل مقالة الشافعي.. في هذا الخلق الجميل..
وما أجمل ما قاله هؤلاء في الحلمِ..
قال عمر رضي الله عنه: "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحِلم..."
وقال عمر بن عبد العزيز: ما قرن الله شيئاً إلى شيء أفضل من علمٍ إلى حِلمٍ..."
ويقال ما آتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً, فذلك هو العلم النافع

همسة..
اعلم أن الحلم وسيلة للفوز برضا الله وجنته..
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهْ، دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة، يخيره من الحور العين ما شاء) /أبو داود والترمذي

**بقلمي**
الأحاديث النبوية والأقوال والأشعار
من هنا وهناك
من هنا وهناك
تعليق