رؤية إسلامية وسطية
زهير سالم*
باختصار
تضع الشريعة الإسلامية القواعد العامة للحياة الإنسانية. وتترك للإنسان في إطارها مساحات واسعة للحرية والاختيار.
وبالمقابل
إذا كانت الديموقراطية سباقاً إلى تكوين الرأي العام للفوز بأصوات الأغلبية.. فقد قرر الإسلاميون أن يخوضوا السباق، وأن يقبلوا بثمرات الميدان.
الإسلاميون والديموقراطية
لماذا هذا البحث ؟
هذا البحث محاولة لحل الإشكال المرتسم في بعض الأذهان عن إمكانية المواءمة بين الشريعة الإسلامية والديموقراطية. إذ يبدو موقف الإسلاميين متناقضاً أو مرتبكاً، في نظر البعض، حين يطرحون تمسكهم بالشريعة وقبولهم بالديموقراطية. يتساءل الكثيرون: كيف يمكن التوفيق بين (الشريعة) الثابتة المستقرة، والديموقراطية النابعة من رؤية بشرية متغيرة خاضعة لمجموعة معقدة من العوامل والمؤثرات؟!
وللإجابة على هذا السؤال، سيمر هذا البحث سريعاً على أطر الديموقراطية ومحددات القرار الديموقراطي. لينتقل إلى الحديث المكثف عن الشريعة الإسلامية من حيث أنها شريعة ربانية مدنية تقوم على إقرار القواعد العامة للحياة الإنسانية، وتترك للاجتهاد البشري المنضبط مساحة واسعة لتقدير مصالح الناس في الزمان والمكان.
وبين هذا وذاك نؤكد أن الإسلاميين المعتدلين قد توافقوا عموماً على أن يكون مدخلهم إلى تطبيق الشريعة في فضاءاتها العامة صندوق اقتراع حر ونزيه يعبر عن رؤية الأكثرية من أبناء مجتمعاتهم. وأنهم مستعدون دائماً للنزول على نتائج هذا الصندوق حتى ولو يكن في جانبهم.
الشورى والديموقراطية
خلفية فكرية وتاريخية
يقرر المفكرون المسلمون أنه لا نزاع حول المصطلحات إذا تطابقت المفاهيم. في التأسيس الإسلامي للحياة العامة المشتركة تقدم القرآن الكريم بلفظ (الشورى) معبراً عن ضرورة مشاركة الرأي العام في مهمات الأمور.
و(الشورى) في اللغة العربية تعني استطلاع أكثر من رأي في الأمر الواحد، وتقليب وجهات النظر فيه، للوصول إلى رأي أو موقف عام يكون أقرب إلى الصواب ويجمع عليه الأكثرون.
في القرآن الكريم سورة تحمل اسم (سورة الشورى) تنبيهاً على أهمية المقصد في الشريعة الإسلامية. وفي هذه السورة يوصف المؤمنون بأنهم (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) ولفظ (الأمر) هنا يشار به إلى المهمات والقرارات الخطيرة.
في آية أخرى يأمر القرآن الكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه (وشاورهم في الأمر) والملاحظ هنا تكرار لفظ (الأمر) الذي يعني كما قلنا القرارات الخطيرة في حياة الأمة.
تجلت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم صور عديدة لتطبيقات الشورى كان معظمها في شؤون الحرب والسلم.
ففي غزوة (بدر)، وهي أول معركة يخوضها المسلمون ضد المشركين لم يأخذ الرسول قرار المعركة إلا بعد أن وقف على آراء أصحابه فصيلاً فصيلاً، ولا سيما الأنصار الذين أخذوا على عاتقهم حمايته في مدينتهم. فوقف في الجيش خطيباً وقال: أشيروا عليّ أيها الناس..
في المعركة التالية (أُحد) كان المشركون يستعدون للثأر من هزيمتهم في بدر، وكان رأي الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض العقلاء من القوم التحصن في المدينة. وكان رأي الأكثرية من الصحابة الخروج إلى الحرب، فنزل الرسول على رأي الأكثرية متجاوزاً رأيه الشخصي.
في معركة ثالثة معركة (الأحزاب) تحالفت قوات من قريش وسائر العرب مع يهود بني قريظة ضد المسلمين. حين استشار الرسول أصحابه أشار عليه (سلمان الفارسي)، وهو رجل من فارس أسلم، بحفر الخندق حول المدينة لتحصينها، وهي طريقة لم يكن يعرفها العرب من قبل فأخذ الرسول الكريم بمشورته.
في الغزوة نفسها أراد الرسول أن يفل تجمع الأحزاب، فراسل بعض القوى يفاوضها على أن يدفع لها ثلث (ثمار المدينة) مقابل فك الحصار. ولكنه عندما استشار أصحابه من أهل المدينة أبدوا اعتراضهم على الصفقة فنزل الرسول على رأيهم.
في واقعة خامسة يوم بدر عندما نزل الرسول بجيشه في موقع من الأرض، جاءه أحد أصحابه يسأله هل هذا المنزل منزل أنزله الله ليس لنا أن نتحول عنه أو أنه الرأي والحرب؟ فقال الرسول الكريم بل هو الرأي والحرب، فأشار عليه ذاك الصحابي بتغيير الموقع ففعل.
كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ينبه أصحابه دائماً على بشريته وأنه بشر مثلهم ويرفض أن يوصف بوصف أو فعل يتجاوز حدود البشرية. كان يقول لهم (أنا عبد الله ورسوله. فقولوا عبد الله ورسوله).
في إحدى الوقائع حصلت سرقة في المدينة كانت الأدلة الظرفية كلها تدور حول يهودي من يهود المدينة، وحين هم الرسول الكريم أن يأخذ بتلك الأدلة، نزل القرآن الكريم يدفع التهمة عن اليهودي ويشير إلى السارق الحقيقي.
في القضاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دائماً الفرق بين شخصه كرسول مبلغ عن الله، وكقاضي يقضي بالبينات التي بين يديه فيقول: (إنكم تختلفون إليّ وإنما أنا بشر وعسى بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من نار..)
ومن هنا ميز العلماء المسلمون بين تصرفات الرسول كنبي مبلغ عن الله والتي اعتبرت من الشريعة، وبين تصرفاته كإمام حاكم أو كبشر عادي حيث لا تدرج هذه التصرفات في دائرة التشريع.
في واقعة أخرى أشار الرسول على أصحابه أن يتوقفوا عن عملية تلقيح النخل، فجاء الموسم الزراعي ضعيفاً في ذلك العام، فقال حديثه المشهور (أنتم أعلم بأمور دنياكم) منبهاً على أنه مهمته هي البلاغ عن الله تعالى. فكان هذا الحديث فتحاً لآفاق واسعة لحركة المسلمين في شؤون الحياة والقيام بمتطلبات المعرفة والعمران.
ومن هنا أيضاً نجد في القرآن الكريم العديد من التوجيهات لسلوك الرسول الإنساني أو السياسي فيعاتبه مرة لأنه عبس في وجه رجل أعمي، وأخرى لأنه عذر المتقاعسين عن الجهاد.
عندما توفي الرسول الكريم لم يحدد خليفة أي حاكماً من بعده. ترك الأمر شورى بين المسلمين وإنما أوصى (أبا بكر) أن يصلي بالناس إماماً، فهم الناس في هذه الوصية إشارة إلى تقديمه كحاكم للمسلمين. وعندما توفي أبو بكر، رشح عمر بن الخطاب لتولي أمر المسلمين، فبايعه المسلمون. وعندما توفي عمر رشح للمسلمين ستة من الصحابة تركهم يختارون واحداً منهم. وفي عملية التصفية كما نقول بعد أن تركز الاختيار بين شخصين، قام أحد الستة بعملية استطلاع رأي في المدينة حاضرة الإسلام، فدار على الناس بيتاً بيتاً يسألهم عن آرائهم حتى استشار في ذلك الاختيار النساء في خدورهن كما قال.
كانت تلك إشارة متقدمة إلى مشاركة النساء في العملية السياسية وفي تكوين الرأي العام منذ ألف وخمسمائة عام.
إلى جانب ذلك لقد اعتبرت الشريعة (الرأي العام)، في مجتمع إسلامي، حاكماً في ميدان القيم والأفعال. واستعمل القرآن الكريم لفظة (المعروف) كعنوان جامع لكل قيم الحق والخير والجمال. واللفظة مشتقة من المعرفة (savoir ) أي مما تعارف عليه الناس وألفوه. بينما جعل في المقابل لفظ (المنكر) العنوان الجامع لكل خلال الشر، وهو ما استقبحه المجتمع ورفضه الناس. يقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن..).
وفي مذاهب التفكير الإسلامي خلاف معمق في موضوع الحاكمية في (الحسن والقبح أو الخير والشر) هل هما شرعيان أو عقليان؟ وينظر الكثير من علماء الإسلام إلى أن الخلاف لفظي، ويؤكدون التطابق بين الشرعي والعقلي مع الاختلاف في ترتيب الأسبقية.
يتضح مما تقدم أن (الشورى) كمصطلح إسلامي عنت دائماً إشراك أكبر قطاع ممكن من الناس في الأمور التي تهم الدولة والمجتمع. حقيق أن الشريعة الإسلامية حددت القاعدة ولم تحدد الآلية تاركة ذلك لأبناء كل زمان ومكان لاختيار الوسيلة الأنسب للتعبير عن رأيهم الجماعي.
لن يفوتنا أن نشير إلى أن الحكام المسلمين في عصور متلاحقة أدخلوا كثيراً من الضيم على مفهوم الشورى وجعلوا من (البيعة) (وهي الآلية التي كانت متبعة لانتقال السلطة من حاكم إلى من يليه) عملية شكلية أشبه بالطقوس التي تمارس ظاهرياً. وحولوا تدوال السلطة الذي ساد في العصر الأول إلى ملك عضوض ونقلوا عن فارس والروم فكرة ولاية العهد!!
حين نقرن الشورى بالديموقراطية نرى أن في محتوى المصطلحين محاولة أفضل للتعبير عن رأي الأكثرية المجتمعية (الرأي العام) بحيث يكون القرار العام نتاج مشاركة جمعية. ولكن أين يتحدد الخلاف بين المفهومين؟
يقتضي منا الحق أن نبين في هذا السياق أن (الشورى) الإسلامية لا تطرح نفسها في فراغ وإنما ضمن أطر وقواعد عامة تنص عليها الشريعة وهذه الأطر والقواعد هي التي سنحاول الوقوف عندها في هذا البحث.
ولكن ومن ناحية أخرى هل تتحرك الديموقراطية في جميع دول العالم في فراغ مطلق؟! أبدو
ندرك أن العملية الديموقراطية ماتزال محاطة بأطر وقواعد القانون الطبيعي إلى جانب إرث قيمي ثقافي وفكري واجتماعي لايزال له وقعه وأثره في الحياة الإنسانية ببعديها الخاص والعام.
وسنعترف جميعاً أن في هذه الأطر والقواعد ما هو مطلق وما هو نسبي. المطلق هو الذي تشترك فيه الأمم والشعوب، وتجمع عليه الشرائع والأديان والثقافات. والنسبي ما كان وليد ثقافة أو ظرف خاص.
حين نقرر السير مع رغبات أو توجهات الرأي العام أو رأي الأغلبية يتطلب الأمر أن نتوقف ملياً عند مكونات (الرأي العام) والعوامل المؤثرة فيه حرصاً على مستقبل الإنسانية والإنسان.
إن ما سنقدمه في هذه الدراسة عن الشريعة الإسلامية يؤكد أن هذه الشريعة بمحدداتها العامة لا تزيد على ضبط الأطر والقواعد تاركة للعقل البشري في الزمان والمكان مساحات واسعة للاجتهاد والتصرف.
وسيبين هذا البحث أن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لا تشكل إلا دائرة محدودة في مقابلة الدائرة الأوسع التي تركتها للاجتهاد البشري. وأن لهذه الدائرة الضيقة من الهوامش ما يؤهلها للصلوح في متغيرات الزمان والمكان. وغني عن البيان أننا عندما نتحدث عن الشريعة لا نتحدث عن العقيدة التي تتمتع بثبات مطلق يقوم على نصوص قطعية في ثبوتها ودلالاتها.
إن حماية الإنسان حياته وعقله وحريته وحقه في الوجود أصلاًً كما حقه في الملكية، وإقرار المساواة والعدل بين البشر على اختلاف اللون والمعتقد والجنس هي الأطر العامة التي تضبط القرار الإنساني في الشريعة الإسلامية والتي يجب أن تضبط كل قرار.
تعليق