__(: __الحياة حلوة بس نفهمها __:)__

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • صديقة الزهور
    زهرة الحوار
    • Oct 2003
    • 4755

    __(: __الحياة حلوة بس نفهمها __:)__








    بسم الله الرحمن الرحيم


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    قرأت قبل يومين موضوع مفيد أعجبني كثيرا


    عبارة عن تلخيص لالبوم رائع


    أحببت ان تشاركوني قراءته فالبرغم من طول الموضوع الا انه يستحق القراءة

    انصحكم بان تحفظوه وتقرأوه في اوقات الفراغ



    ___________________________

    الحياة الطيبة البوم من ستة أشرطة لفضيلة الدكتور / عبد الكريم بكار ( حفظه الله تعالى )..

    تناول أ. د . بكار في هذا الإصدار على نحو مفصل وعميق كثيراً من المعاني

    التي تتصل بمفهوم السعادة والحياة الطيبة ، كما أنه تعرض على نحو شامل للأشياء

    والأمور التي تنغص على الناس حياتهم من نحو ضياع الهدف الأسمى في الحياة

    ونحو السأم والملل والحسد والكبر والغرور والشعور بالاضطهاد والفراغ والبطالة

    والإرهاق والقلق والخوف والأنانية وما شاكل ذلك ..

    كما أنه تحدث في محور ثالث عن الأمور التي تجلب للإنسان الهناء منطلقاً

    من رؤية إسلامية أصيلة لطبيعة النفس البشرية وطبيعة أحداث الحياة التي تمر بها .

    وقد تحدث في ذا السياق عن الإيمان بالله تعالى ومقتضياته ودوره في جلب الطمأنينة والسعادة ،

    كما تحدث عن الاعتدال والتوسط والقناعة والرضا والعمل اليدوي والتبسم والبشاشة

    والرؤية الكلية والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك ..

    وإننا إذ نقدم هذا العمل لنشعر بالثقة بأنه سوف يساعد على دفع الكثير من أسباب الشقاء ،

    كما يساعد على جلب الكثير من أشكال السرور ...

    والله الموفق .....

    " الناشر "


    الشريط الأول ....

    بسم الله الرحمن الرحيم ..
    الحمد لله رب العالمين .. حمد الشاكرين .. والصلاة والسلام على نبي الرحمة وإمام الهدى نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين .. وبعد

    فإن الله جل وعلا ما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا من أجل إنقاذ البشرية من الشقاء ودفعها في اتجاه الحياة الكريمة الهانئة المطمئنة التي تليق بهذا الإنسان المكرم والذي سخر الله له ما في السموات والأرض منةً منه وفضلا .. هذه الحياة ليست هي الحياة الدنيا فحسب وليست هي الحياة الآخرة وحدها .. فالرؤية الإسلامية للدارين تقوم على أنهما يشكلان فصلين من رواية واحدة ومع أن الفصل الأول هو الأقصر وهو الأقل شأناً إلا أنه لا يقرأ الفصل الثاني ولا يفهم ولا يكون إلا بعد قراءته حيث لا حظ في الآخرة ولا في الجنة لمن لم يمر على الحياة الدنيا وهذا يشكل التفاتة مهمة إلى ضرورة عدم الاستخفاف بالحياة التي نحياها هنا على هذه الأرض حيث إنها تستحق منا كل الاهتمام وكل العناية ما دامت تشكل الممر الوحيد إلى الحياة الأبدية الخالدة والدائمة

    ومع أن الله جل وعلا حذرنا من أن ننظر نظرة خاطئة أو نظرة جاهلة أو حولاء للدنيا ومتعها وملذاتها ومشكلاتها ومصائبها فإنه وعد عباده الصالحين بحياة طيبة على هذه الأرض تشكل هذه الحياة عاجل البشرى ومقدمة الجزاء الذي أعده لهم في الآخرة حيث قال جل وعلا ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) وهذه الحياة الطيبة الموعودة على الإيمان والعمل الصالح اختلف فيها المفسرون ، فقال بعضهم : إنها القناعة ، وقال آخر : إنها السعادة ، وهذا ما أرجحه ، وقيل هي حلاوة الطاعة ، وقيل : هي الاستغناء عن الناس والافتقار إلى الله تعالى ، وقيل : هي التوفيق إلى الطاعة التي تؤدي بالمؤمن إلى رضوان الله تعالى ،،،

    واضح جدا أيها الإخوة الربط في هذه الآية بين إكرام الله لعباده الصالحين في الدنيا وبين إكرامه لهم في الآخرة حين يوفيهم أجورهم يوم ذاك بأحسن ما كانوا يعملون ، وقال سبحانه : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) فالثياب الجميلة الحسنة والمطاعم اللذيذة مما أبيح للمسلم إذا خلا الاستمتاع بها من التبذير والكبر والخيلاء وهذه الأمور مشتركة في الدنيا بين جميع الناس برهم وفاجرهم ، مسلمهم وكافرهم ، لكنها في الآخرة تكون خالصة للمؤمنين وخاصة بمن فاز بمغفرة الله ورضوانه ،،،،

    إن الله جلا وعلا قد فطر النفوس على الميل إلى النعيم وإلى الأمن والاطمئنان والرفاهية كما فطرهم على حب التقليل من بذل الجهد والبعد عما يسبب العناء والبعد عما يسبب الألم وكل ما يعكر المزاج ويهدد الاستقرار ، والأشخاص الذين يحبون أن يكونوا أشقياء تعساء غير موجودين ، أو هم في الحقيقة نادرون جداً أو هم مرضى ، وهناك يقين بأن المستمع الكريم يحب بشغف ولهفة أن يكون هانئاً في حياته ظافراً براحة البال ومستحوذا على الكثير من الطيبات ، ولا أدري على وجه اليقين إن كنت من خلال هذا العمل أستطيع أن أساعد نفسي وأن أساعده على بلوغ ذلك ، أرجوا منه ،،،،

    ولا أذكر أنني عالجت موضوعا في يوم من الأيام فيه من الغموض والالتباس والتداخل والتشابك والاستثناءات ما وجدته في هذا الموضوع ، وسيلمس السامع الكريم ذلك من خلال تناولنا لهذه القضية الحيوية جدا بالنسبة إلى كل واحد منا ، وهذه في الحقيقة سميتها قضية تجوزاً ، هي ليست قضية ، إنها أم كل القضايا ، وليست مسألة لكنها أم كل المسائل ، ومشكلة كل المشكلات ،،،،
    إن عقولنا وأمزجتنا مختلفة وإن وقع مسرات الحياة في نفوسنا يختلف من شخص إلى شخص آخر كما أن وقع كرباتها وآلامها وأحزانها في نفوسنا يختلف كذلك ، لهذا فإن كل واحد من يحتاج كي يحيا حياة طيبة إلى وصفة خاصة كما يحتاج المريض الذي يعاني من عدد من الأمراض الخطيرة إلى خطة علاجية دقيقة وشخصية وخاصة ، ولكن مع هذا فإن بين الناس العديد من الأمور المشتركة فنحن البشر محكومون بسنن إلهية واحدة وموحدة ، ولنا نزعات وميول متقاربة ، والأشياء التي تزعجنا كثيرة ومتنوعة ، لكن مع كثرتها ومع تنوعها هي مزعجات بالنسبة إلى كل واحد أو إلى معظم الناس ،،،

    ومن هنا فإننا سننتفع بإذن الله تعالى من وراء زيادة بصيرتنا بما نريده من هذه الحياة وبما لا نريده ، كما سننتفع بالخبرات التي تعلمنا كيف نوجه إدراكنا وكيف نعيد تقييم الأشياء والأحداث من أفق عقائدنا ومن أفق الحاجات والشروط التي يمليها عيشنا في زمان كثير المغريات كثير المتطلبات زمان كثير الأزمات وكثير الفرص أيضا والتحديات ، علينا أن نكون صرحاء وواقعيين حتى لا نقع في التهويل أو التبسيط ،،،،

    إن مفهوم السعادة " الحياة الطيبة " مفهوم غامض يكاد يكون سرا أودعه الله جلا وعلا في العلاقة القائمة بين الإنسان والأشياء ، فالإنسان الكائن المحدود مهما كان نافذ البصيرة ومهما ملك من المفاهيم والأدوات يظل عاجزاً عن إدراك ما يريده في هذه الحياة على وجه التحديد ، حيث إن كل واحد من مشتهياتنا قد يجلب لنا السرور والهناء لمدة ثم يفقد مفعوله وبهجته أو يتحول إلى شيء منغص نتمنى أننا لم نحصل عليه ،،،

    سعادتنا الحقيقية تحتاج إلى علم مطلق بكل الأشياء وهذا ما لا سبيل إليه بالنسبة إلى كل واحد من البشر ولهذا فإن إتباع سبيل الله والامتثال لأمره والبحث عن مراضيه في المنشط والمكره والسراء والضراء إن ها يضمن لنا الكثير الكثير من أسباب الهناء والاطمئنان والفوز ، إنه يرسم لنا كل الخطوط العريضة ، وعلينا نحن باجتهادنا وبحنكتنا أن نبحث في التفاصيل و نتلمس ما يساعدنا على أن نكون أكثر اطمئناناً وأقل تعاسةً وشقاء

    إن ظفرنا بالحياة الطيبة لا يحتاج إلى الكثير من العلم ، ولا يحتاج إلى الكثير من القواعد ، إذ لو أن العلم ينفع في هذا الباب لكان ما كتب عن أسباب السعادة والهناء كافياً لئلا يظل على وجه الأرض شقي واحد ولا تعيس ، إن حاجتنا الأساسية في إصلاح حياتنا الشخصية تتركز في الحكمة ، أي في نوعية القرار الذي يتخذه كل واحد منا ، وفي نوعية الاختيار للطريق الذي عليه أن يسلكه ، إن القليل من الحكمة ينفع المرء ولو لم يتوفر له إلا القليل من العلم لكن الكثير من العلم مع الحرمان من الحكمة قد لا يفيدنا إلا قليلا ، وقد لا نجد فيه أي شيء لإسعادنا ، ولهذا فهناك ما لا يحصى من العلماء التعساء ، وهناك ما لا يحصى من الحكماء السعداء ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ( ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) فلنطالع في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ولنطلع على تراث الأمم ووصاياها وأمثالها وحكمها كي ننير بصائرنا وكي نتعرف على الطريق التي تؤدي فعلا إلى الحياة الطيبة هنا في الحياة الدنيا وهناك في الحياة الآخرة ، الحياة الطيبة قد تلتبس باللذة والنشوة ، وقد تلتبس بالشعور بالرضا عن الذات وعن الأوضاع المعيشية الراهنة ، ولهذا فلابد من محاولة الفصل بينها قبل أ نمضي في حديثنا إلى منتاه ،،،

    لابد أيها الإخوان من القول : إن الله جل وعلا يسير الكون وفق نظم وقوانين كما أنه سبحانه أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ووضع في الإنسان ميولاً فطرية غريزية تلح عليه كي يرضيها وذالك من أجل بقاء الإنسان ومن أجل استمراره في هذه الحياة لكنه في الوقت نفسه سنّ لنا الشرائع التي تتطلب منا تلبية حاجاتنا وإشباع غرائزنا وفق ما يعود علينا بالنفع الشامل وفي الإطار الآمن ، والناس في الامتثال لأمر الله أثناء تلبية حاجاتهم المختلفة هم في الحقيقة أجناس وأشكال ، وأسوأهم حالاً أولئك الذين يبحثون عن النشوة واللذة أينما كانت ومهما ترتب على الحصول عليها من مآثم وأضرار خاصة وعامة ، إنهم أرقاء لدى نزواتهم التي لا تعرف الارتواء ولا تتوقف عند أي حد اللهم إلا حداً واحدا هو حد العجز وحد الشيخوخة والأمراض الفتاكة ،،،،

    ولنضرب مثالاً على ما نريد ، تناولنا للطعام يشكل ضرورة لبقائنا أحياءً ونحن حين نأكل نتلذذ بأكل ما نشتهيه ونصل في لحظة ما إلى حد الشبع وتلاشي الشهية ثم تتجدد الشهية مرة أخرى ونجد لذة جديدة عند تناول ما نشتهي ، إننا نشعر باللذة ما دام الطعام في أفواهنا فإذا تجاوزها ذهبت لذة تناول الطعام ، ومن هنا فإن اللذة تأخذ طابع المؤقت وتأخذ طابع العارض حيث لا يمكن إطالة أمدها والإحساس بها عن وقت تناولها ، ،،

    وهذا شيء أساسي في تفريق اللذة عن السعادة ، الملذات ينقضي الإحساس بها مع انقضاء وقتها تماماً ثم تصبح شيئاً في الذاكرة ، وهذا الذي يشتهي الطعام بقوة إذا أكل عن الحد المعتاد فإن لذة تناول الطعام تكون سبباً في إصابته بالأمراض والأدواء ، وإذا تناول الإنسان ما هو ضار ببدنه فإنه أيضاً يشعر أنه في سبيل الشعور باللذة يلحق بنفسه وبجسده الأضرار والآلام ، ولهذا فإنه وهو يتلذذ بتناول الطعام لا يكون سعيداً على نحو خالص لأن صوتاً من داخله يحثه على الكف عن الطعام ، والعاقل يدرك أن هذه اللذة العابرة قد تخلف له من الأوجاع والأسقام الدائمة ما لا يتحمله بدنه ولاسيما عندما يتقدم به العمر ، ،،،

    وهكذا ، فليست كل لذة سعادة ، مع أن السعادة والحياة الطيبة ترتبطان باللذة لكن ليست كل سعادة متوقفة على اللذة ، كما أنه ليست كل لذة سعادة ، حين نضع صدقة في يد فقير ونسمع منه دعوة صادقة فإننا لا نشعر بلذة لكننا نشعر بسعادة غامرة تصل في بعض الأحيان إلى أن تسيل دموعنا من الفرح بالعمل الذي قمنا به ، وكثيراً ما يتناقش أفراد الأسرة أثناء تناول الطعام وقد يشعرون بسعادة الحوار ومقارعة الحجة بالحجة أكثر من شعورهم بلذة الطعام ، إلى درجة نسيان أنهم يأكلون ، وقد يتطور الحوار إلى شجار فيغلب طابع النكد على الحضور وينسون مرة أخرى أنهم يأكلون ،،،

    إذا كانت اللذة تأخذ طابع العابر والمؤقت وتخضع لغريزة الإرواء المباشر فإن الحياة الطيبة ليست كذلك ، إنها تشبه وضعية من يتربع على قمة من الانشراح والحبور والطمأنينة ورجاء ما عند الله من الخير ، إن من يحيا حياة طيبة يتلذذ بكل شيء في إيطار المباح وفي إيطار الاعتدال ، إنه لا ينساق خلف لذة عابرة متجاهلاً الآثار السيئة والأضرار البالغة التي تترتب عليها في الدنيا أو في الآخرة ، إنه يتصرف في الحاضر مراعياً المستقبل عن طريق تنظيم تناوله للملذات وإيقاف رغباته عند الحدود التي يتطلبها الاستمرار في السعادة والاستمرار في الطمأنينة ،،،

    من شأن طالب الملذات أن يرتمي على كل لذة تعرض ليعب منها على مقدار ما يستطيع ، أما طالب الحياة الطيبة ، فإنه يريد للذته أن تكون شاملة ، تتصل بوجوده كله ، وترعى حاجاته وميوله وقيمه وأخلاقه وتراعي قيم المجتمع الذي يعيش في وما يتصل بمصيره ومستقبله ،،،

    حين ينظم الإنسان طريقة تلذذه بالحياة لتكون على الوصف والوضع الذي أشرت إليه ، فإنه بعون الله وتوفيقه يتمكن من تحويل السرور إلى فرح والإحساس إلى ابتهاج والمتعة إلى حبور ،إنه يشعر أنه على الطريق الصحيح ، وفي الوضعية الصحيحة ، ويشعر أنه ليس أقل من غيره ، وان ما يتوقعه من رحمة الله ولطفه ومعونته سيجعل ما هو قادم من الأيام أفضل وأجمل وأمتع مما هو حاضر ،،،

    إن بين اللذة والحياة الطيبة فارقاً أشبه بالفارق بين الإنفاق الفوري لمالٍ جاهز يمتلكه وبين تكوين رأس مال أو احتياط للأيام القادمة ،،،

    إذا تركنا نفوسنا دون مجاهدة أو استخدام للعقل والذكاء والتدبير فإنها ستندفع إلى البحث عن الملذات كما يندفع الماء نحو الأماكن المنخفضة ، وهذا هو شأن البهائم ، لكن الله جل وعلا لم يكلف البهائم بشيء ولم يعدها بجنان الخلد ولا أعطاها العقل ولا فإنه سبحانه وفر لها الاعتدال ووفر لها الحماية عن طريق الغريزة ، فالحيوان لا يصاب بالتخمة كما يصاب الإنسان ولا يصطاد إلا على مقدار حاجته ، أما الإنسان فإنه مستعد لأن يوقع في الأزمات وفي المآسي ألوفاً من البشر في سبيل إرضاء نزواته ، لذالك هنا نقول فلان صاحب شهوة بهيمية ، ربما تكون هذه العبارة تنطوي على شيء من الظلم للبهائم ، الشهوة الإنسانية حينما تنطلق في أي مجال دون اعتبار أخلاقي أو دون اعتبار ديني أواعتبار إنساني يعني حينما تنطلق تفوق شهوات البهائم بمراحل في الحقيقة ،،،
    إن عقولنا وأمزجتنا مختلفة وإن وقع مسرات الحياة في نفوسنا يختلف من شخص إلى شخص آخر كما أن وقع كرباتها وآلامها وأحزانها في نفوسنا يختلف كذلك ، لهذا فإن كل واحد من يحتاج كي يحيا حياة طيبة إلى وصفة خاصة كما يحتاج المريض الذي يعاني من عدد من الأمراض الخطيرة إلى خطة علاجية دقيقة وشخصية وخاصة ، ولكن مع هذا فإن بين الناس العديد من الأمور المشتركة فنحن البشر محكومون بسنن إلهية واحدة وموحدة ، ولنا نزعات وميول متقاربة ، والأشياء التي تزعجنا كثيرة ومتنوعة ، لكن مع كثرتها ومع تنوعها هي مزعجات بالنسبة إلى كل واحد أو إلى معظم الناس ،،،

    ومن هنا فإننا سننتفع بإذن الله تعالى من وراء زيادة بصيرتنا بما نريده من هذه الحياة وبما لا نريده ، كما سننتفع بالخبرات التي تعلمنا كيف نوجه إدراكنا وكيف نعيد تقييم الأشياء والأحداث من أفق عقائدنا ومن أفق الحاجات والشروط التي يمليها عيشنا في زمان كثير المغريات كثير المتطلبات زمان كثير الأزمات وكثير الفرص أيضا والتحديات ، علينا أن نكون صرحاء وواقعيين حتى لا نقع في التهويل أو التبسيط ،،،،

    إن مفهوم السعادة " الحياة الطيبة " مفهوم غامض يكاد يكون سرا أودعه الله جلا وعلا في العلاقة القائمة بين الإنسان والأشياء ، فالإنسان الكائن المحدود مهما كان نافذ البصيرة ومهما ملك من المفاهيم والأدوات يظل عاجزاً عن إدراك ما يريده في هذه الحياة على وجه التحديد ، حيث إن كل واحد من مشتهياتنا قد يجلب لنا السرور والهناء لمدة ثم يفقد مفعوله وبهجته أو يتحول إلى شيء منغص نتمنى أننا لم نحصل عليه ،،،

    سعادتنا الحقيقية تحتاج إلى علم مطلق بكل الأشياء وهذا ما لا سبيل إليه بالنسبة إلى كل واحد من البشر ولهذا فإن إتباع سبيل الله والامتثال لأمره والبحث عن مراضيه في المنشط والمكره والسراء والضراء إن ها يضمن لنا الكثير الكثير من أسباب الهناء والاطمئنان والفوز ، إنه يرسم لنا كل الخطوط العريضة ، وعلينا نحن باجتهادنا وبحنكتنا أن نبحث في التفاصيل و نتلمس ما يساعدنا على أن نكون أكثر اطمئناناً وأقل تعاسةً وشقاء

    إن ظفرنا بالحياة الطيبة لا يحتاج إلى الكثير من العلم ، ولا يحتاج إلى الكثير من القواعد ، إذ لو أن العلم ينفع في هذا الباب لكان ما كتب عن أسباب السعادة والهناء كافياً لئلا يظل على وجه الأرض شقي واحد ولا تعيس ، إن حاجتنا الأساسية في إصلاح حياتنا الشخصية تتركز في الحكمة ، أي في نوعية القرار الذي يتخذه كل واحد منا ، وفي نوعية الاختيار للطريق الذي عليه أن يسلكه ، إن القليل من الحكمة ينفع المرء ولو لم يتوفر له إلا القليل من العلم لكن الكثير من العلم مع الحرمان من الحكمة قد لا يفيدنا إلا قليلا ، وقد لا نجد فيه أي شيء لإسعادنا ، ولهذا فهناك ما لا يحصى من العلماء التعساء ، وهناك ما لا يحصى من الحكماء السعداء ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ( ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) فلنطالع في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ولنطلع على تراث الأمم ووصاياها وأمثالها وحكمها كي ننير بصائرنا وكي نتعرف على الطريق التي تؤدي فعلا إلى الحياة الطيبة هنا في الحياة الدنيا وهناك في الحياة الآخرة ، الحياة الطيبة قد تلتبس باللذة والنشوة ، وقد تلتبس بالشعور بالرضا عن الذات وعن الأوضاع المعيشية الراهنة ، ولهذا فلابد من محاولة الفصل بينها قبل أ نمضي في حديثنا إلى منتاه ،،،

    لابد أيها الإخوان من القول : إن الله جل وعلا يسير الكون وفق نظم وقوانين كما أنه سبحانه أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ووضع في الإنسان ميولاً فطرية غريزية تلح عليه كي يرضيها وذالك من أجل بقاء الإنسان ومن أجل استمراره في هذه الحياة لكنه في الوقت نفسه سنّ لنا الشرائع التي تتطلب منا تلبية حاجاتنا وإشباع غرائزنا وفق ما يعود علينا بالنفع الشامل وفي الإطار الآمن ، والناس في الامتثال لأمر الله أثناء تلبية حاجاتهم المختلفة هم في الحقيقة أجناس وأشكال ، وأسوأهم حالاً أولئك الذين يبحثون عن النشوة واللذة أينما كانت ومهما ترتب على الحصول عليها من مآثم وأضرار خاصة وعامة ، إنهم أرقاء لدى نزواتهم التي لا تعرف الارتواء ولا تتوقف عند أي حد اللهم إلا حداً واحدا هو حد العجز وحد الشيخوخة والأمراض الفتاكة ،،،،

    ولنضرب مثالاً على ما نريد ، تناولنا للطعام يشكل ضرورة لبقائنا أحياءً ونحن حين نأكل نتلذذ بأكل ما نشتهيه ونصل في لحظة ما إلى حد الشبع وتلاشي الشهية ثم تتجدد الشهية مرة أخرى ونجد لذة جديدة عند تناول ما نشتهي ، إننا نشعر باللذة ما دام الطعام في أفواهنا فإذا تجاوزها ذهبت لذة تناول الطعام ، ومن هنا فإن اللذة تأخذ طابع المؤقت وتأخذ طابع العارض حيث لا يمكن إطالة أمدها والإحساس بها عن وقت تناولها ، ،،

    وهذا شيء أساسي في تفريق اللذة عن السعادة ، الملذات ينقضي الإحساس بها مع انقضاء وقتها تماماً ثم تصبح شيئاً في الذاكرة ، وهذا الذي يشتهي الطعام بقوة إذا أكل عن الحد المعتاد فإن لذة تناول الطعام تكون سبباً في إصابته بالأمراض والأدواء ، وإذا تناول الإنسان ما هو ضار ببدنه فإنه أيضاً يشعر أنه في سبيل الشعور باللذة يلحق بنفسه وبجسده الأضرار والآلام ، ولهذا فإنه وهو يتلذذ بتناول الطعام لا يكون سعيداً على نحو خالص لأن صوتاً من داخله يحثه على الكف عن الطعام ، والعاقل يدرك أن هذه اللذة العابرة قد تخلف له من الأوجاع والأسقام الدائمة ما لا يتحمله بدنه ولاسيما عندما يتقدم به العمر ، ،،،

    وهكذا ، فليست كل لذة سعادة ، مع أن السعادة والحياة الطيبة ترتبطان باللذة لكن ليست كل سعادة متوقفة على اللذة ، كما أنه ليست كل لذة سعادة ، حين نضع صدقة في يد فقير ونسمع منه دعوة صادقة فإننا لا نشعر بلذة لكننا نشعر بسعادة غامرة تصل في بعض الأحيان إلى أن تسيل دموعنا من الفرح بالعمل الذي قمنا به ، وكثيراً ما يتناقش أفراد الأسرة أثناء تناول الطعام وقد يشعرون بسعادة الحوار ومقارعة الحجة بالحجة أكثر من شعورهم بلذة الطعام ، إلى درجة نسيان أنهم يأكلون ، وقد يتطور الحوار إلى شجار فيغلب طابع النكد على الحضور وينسون مرة أخرى أنهم يأكلون ،،،

    إذا كانت اللذة تأخذ طابع العابر والمؤقت وتخضع لغريزة الإرواء المباشر فإن الحياة الطيبة ليست كذلك ، إنها تشبه وضعية من يتربع على قمة من الانشراح والحبور والطمأنينة ورجاء ما عند الله من الخير ، إن من يحيا حياة طيبة يتلذذ بكل شيء في إيطار المباح وفي إيطار الاعتدال ، إنه لا ينساق خلف لذة عابرة متجاهلاً الآثار السيئة والأضرار البالغة التي تترتب عليها في الدنيا أو في الآخرة ، إنه يتصرف في الحاضر مراعياً المستقبل عن طريق تنظيم تناوله للملذات وإيقاف رغباته عند الحدود التي يتطلبها الاستمرار في السعادة والاستمرار في الطمأنينة ،،،

    من شأن طالب الملذات أن يرتمي على كل لذة تعرض ليعب منها على مقدار ما يستطيع ، أما طالب الحياة الطيبة ، فإنه يريد للذته أن تكون شاملة ، تتصل بوجوده كله ، وترعى حاجاته وميوله وقيمه وأخلاقه وتراعي قيم المجتمع الذي يعيش في وما يتصل بمصيره ومستقبله ،،،

    حين ينظم الإنسان طريقة تلذذه بالحياة لتكون على الوصف والوضع الذي أشرت إليه ، فإنه بعون الله وتوفيقه يتمكن من تحويل السرور إلى فرح والإحساس إلى ابتهاج والمتعة إلى حبور ،إنه يشعر أنه على الطريق الصحيح ، وفي الوضعية الصحيحة ، ويشعر أنه ليس أقل من غيره ، وان ما يتوقعه من رحمة الله ولطفه ومعونته سيجعل ما هو قادم من الأيام أفضل وأجمل وأمتع مما هو حاضر ،،،

    إن بين اللذة والحياة الطيبة فارقاً أشبه بالفارق بين الإنفاق الفوري لمالٍ جاهز يمتلكه وبين تكوين رأس مال أو احتياط للأيام القادمة ،،،

    إذا تركنا نفوسنا دون مجاهدة أو استخدام للعقل والذكاء والتدبير فإنها ستندفع إلى البحث عن الملذات كما يندفع الماء نحو الأماكن المنخفضة ، وهذا هو شأن البهائم ، لكن الله جل وعلا لم يكلف البهائم بشيء ولم يعدها بجنان الخلد ولا أعطاها العقل ولا فإنه سبحانه وفر لها الاعتدال ووفر لها الحماية عن طريق الغريزة ، فالحيوان لا يصاب بالتخمة كما يصاب الإنسان ولا يصطاد إلا على مقدار حاجته ، أما الإنسان فإنه مستعد لأن يوقع في الأزمات وفي المآسي ألوفاً من البشر في سبيل إرضاء نزواته ، لذالك هنا نقول فلان صاحب شهوة بهيمية ، ربما تكون هذه العبارة تنطوي على شيء من الظلم للبهائم ، الشهوة الإنسانية حينما تنطلق في أي مجال دون اعتبار أخلاقي أو دون اعتبار ديني أواعتبار إنساني يعني حينما تنطلق تفوق شهوات البهائم بمراحل في الحقيقة ،،،
    " الشعور بالرضا"

    نحن قلنا نفرق بين الحياة الطيبة أو الشعور بالسعادة وبين الشعور باللذة وبين الشعور بالرضا ن الشعور بالرضا شيء غير السعادة وغير اللذة ، إنه شعور تنتجه المقارنة مع الآخرين والتي تفضي إلى الإحساس بالتفوق والكفاءة والنجاح ، حين تكون طبيباً ناجحاً وتتذكر بائع الخضار أو الحداد الذي كان معك في الصف الثالث الابتدائي وربما كان متفوقاً عليك آن ذاك فإنك لا محالة ستشعر بالرضا عن الإنجاز الذي حققته بالنسبة إلى ما حققه زميلك في الدراسة سابقا ، الشعور بالرضا عن الموقع الذي يحتله الواحد منا وعن العمل الذي يعمل فيه لا يخالط شغاف القلب ! لماذا ؟ لأنه عمل عقلي يقنع المرء من خلاله نفسه بأنه قوي وبأنه متفوق وبأنه كفء وهو في تصوري شعور عابر ويمكن أن يتحول إلى نعيم إذا قرناه بالحمد والشكر لله والثناء على ما هدى ووفق وأعان ، وحاولنا تأدية زكاة ذلك ،، فالتفوق على صورة مساعدة لمن يحتاج المساعدة من الأهل والأصدقاء والجار ،،،
    ومع هذا فلنكن على حذر فإن الشعور بالرضا الذي تأتي به المقارنات تذهب به أيضاً المقارنات ، إذا نحن نظرنا إلى أحد الأقران السابقين فوجدناه أكثر منا ثراءً أو أكثر نجاحاً أو أكثر نفوذاً أو أكثر صلاحاً إذا وجدنا ذلك فإن الشعور بالرضا يذهب ليحل محله الشعور بالتعاسة ، ،،

    خلاصة كل ما قلناه هنا وأحب أن أسوق هذه الخلاصة للتركيز على المعاني السابقة ...

    الخلاصة : أن الله جل وعلا يحب لعباده أن ينجحوا في الاختبار والابتلاء الذي كتبه عليهم إ أوجدهم في هذه الدنيا كما أن سبحانه أرشدهم إلى كل ما يوفر لهم الحياة الطيبة السعيدة وترك لهم أن يختاروا ما يرونه مناسباً لهم ، وذكرنا أيضاً أن علينا أن لا نخطئ كما أخطأ الملحدون والعلمانيون وأولئك الغارقون في الشهوات حين نظروا إلى الدنيا على أنها هي الفرصة الوحيدة لاقتناص الملذات ، فاختلت حياتهم كلها وهدموا في أنفسهم وأبدانهم العديد من الجوانب دون أن يشعروا أو دون أن يكونوا قادرين على فعل ما يرونه يصب في مصلحتهم الحقيقية ، إن نظرتنا إلى الحياة الطيبة لن تكون أبداً صحيحة وصائبة إلا إذا نظرنا إلى الدنيا على أنها بكل ما فيها ليست سوى الفصل الأول من الرواية ، والحكم على أننا سعداء أو أشقياء من خلالها سيكون مثل حكم الذي حكم على الرواية دون أن يقرأ الفصل الأخير فيها ،،،

    الحكمة هي التي نحتاجها في إدارة حياتنا وحين نحرم منها فإن العلم لن ينفعنا كثيرا في ترشيد اختياراتنا وقراراتنا ، وقد فرقنا كما مر بنا قبل قليل بين اللذة والنشوة بوصفهما أمرين سريعين عابرين وبين السعادة بوصفها الوضعية الجيدة والملائمة لمتطلبات قيمنا وعقائدنا وغرائزنا وحاجات مستقبلنا ، ومع أن السعادة تشتبه باللذة لكن كما ذكرت لا تتطابقان ولا يتوقف على نحو دائم حصول واحدة على وجود الأخرى ،،، هذا ملخص سريع لما ذكرته في الدقائق الماضية ،،،

    ولعلي هنا أسوق بعض الرؤى والخبرات حول السعادة لعلماء ومفكرين وفلاسفة وخبراء مسلمين وغير مسلمين لعلنا نجد فيها ما يهدينا إلى بلورة رؤية أكثر وضوحاً حول هذه القضية المهمة والحية أو قضية القضايا كما أشرت ، ولعلنا أيضا نجد فيها ما يرشد سلوكنا واهتماماتنا في طلب الحياة الطيبة ،،،،

    يقول أحدهم : إن السعادة الحقيقية تكمن في تقدير مواهب الآخرين والفرح لفرحهم ولهذا فإن أسعد إنسان هو ذاك الذي كلما رأى شخصاً مسروراً أحس بالسرور يتغلغل في نفسه ، وبما أن المسرورين في هذه الدنيا كثيرون فإنه سيجد دائماً مصدراً متجدداً لمباهج الروح ، طبعاً لم يسأل صاحب هذا القول نفسه عما إذا كان هذا المبتهج بسعادة الآخرين يعاني من مغص كلوي أو من تراكم الديون أو من قهر عدو ، كيف يمكن تجاوز ذالك بكل ضغوطاته إلى الإحساس بالآخرين ...

    حكيم آخر نظر إلى الوجه الآخر من العملة حين قال : إن القلوب الكبيرة لا تسعد أبداً بسبب ما تحسه من نقص في سعادة الآخرين ، وعلى هذا فالسعادة من نصيب الأنانيين ومن نصيب المغفلين ، فهذا يؤكد ما ذكرته قبل قليل من أن قضية السعادة قضية ملتبسة وقضية غامضة تضطرب فيها الأقوال إلى حد التناقض والتضاد ،،،
    السؤال الذي يطرح نفسه على هذا القول : كيف تكون حال أولئك الذين يحبون العزلة الاجتماعية فلا يشعرون بالسعداء ولا يشعرون بالأشقياء ؟ هل يكونون في منزلة بين المنزلتين ؟ كما تقول بعض الفرق في بعض المسائل !! أي لا مع الأشقياء ولا مع السعداء ؟؟؟؟!!!

    لا ريب أن كل واحدٍ من هذين القولين ينطوي على شيء من المبالغة وينطوي أيضاً على جزء من الحقيقة ..

    يقول ثالث : ضاعف جهلك لتبلغ السعادة . ويعني بذالك أن الذين يدققون في الأشياء ويطلعون على ما في الواقع يجدون الكثير من الخلل والكثير من الفواجع مما يكدر خاطرهم ، ولذا فإن جهلهم يحميهم من ذالك ، ولهذا القول نصيب من الصحة لكن علينا أن لا ننسى المتعة الكبيرة التي يجدها الإنسان في معرفة أسباب الأشياء والحوادث ومعرفة العلاقات التي تربط بينها ، ولذا فإن بعض الفلاسفة يرى أن السعادة الكبرى هي من نصيب من يحسن التأمل في أسرار الوجود ويعرف أكثر عن حكمة الخالق جل وعلا في خلقه ، ،،،

    وقد ذكروا أنه قيل لأبي بكر الخوارزمي عند موته في ساعات الإحتظار أو في بداية الإحتظار قالوا له ما تشتهي : قال النظر في حواش الكتب ، وهو في وداع الدنيا يجد متعة معينة أو فائدة كبرى في أن يكون آخر ما يعمله في هذه الحياة هو أن يقرأ ويطلع ويعرف ،،،،،

    هناك من يرى السعادة كامنة في رؤيتنا للأشياء وتفسيرنا للواقع وردود أفعالنا على الحوادث ويعلل لذلك بأن لكل شيء في حياتنا عشرين ظلاً ومعظم هذه الضلال من صنع الناس ، ويشير إلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام : ( عجباً لأمر المؤمن كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذالك لأحدٍ إلا للمؤمن ) فرؤيتنا للأشياء وعلاقتنا بها وتفسيرنا لها هي الأمور الحاسمة في تقرير كونها أموراً تجلب السعادة أو تجلب الشقاء ،،،،

    هناك قول طريف في شأن السعادة حيث يرى صاحبه أن السعادة في الدنيا ليست سوى شبح يرجى فيطارد ويلاحق فإن وقع في القبضة وصار شيئاً متجسداً ملموساً مله الناس وسئموه وحاولوا البحث عن غيره وكأن سعادة الناس وفق هذا القول الحكيم تكمن في ملاحقتهم لما يظنونه مصدراً لإسعادهم وليس في التمتع به يعني متعة الرحلة أكبر من متعة محطة الوصول أو نهاية الرحلة أو هدف الرحلة في نظر هذا الحكيم وهذا القول مع أنه يلمس جانباً غير قليل وغير صغير من الموضوع لكنه لا يخلوا من شيء من التطرف لأن ما نصل إلي يغير في البيئة التي نعيش فيها ويحسن في ظروف العيش وليس كل شيء نصل إليه يصبح بعد مدة مملولا ...

    بعض الحكماء يرى أن أسعد الناس هم أولئك الذين يكتشفون أم ما ينبغي أن يفعلوه وما يفعلونه في الواقع هما شيء واحد ، أي أن لديهم إحساساً بالتطابق التام بين سلوكياتهم ومواقفهم من جهة وبين معتقداتهم والقيم التي يؤمنون بها من جهة أخرى ، و لا ريب أن من يكون كذالك يظفر بشي قليل من السعادة إنه يطمئن إلى قدر كبير من خيرية ذاته وخيرية مصيره وكثير من النصوص يشير إلى هذا المعنى لكن علينا أن نعمق الفهم حتى لا ننساق خلف الأفكار الجميلة ،،،

    إن المرء حتى يكتشف أنه يفعل كل ما ينبغي أن يفعل يحتاج إلى العصمة وهذه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وليست لعامة الناس ، ثم أن جزءً من أخطائنا يعود إلى اجتهادنا وحين يجتهد الواحد من ويخطئ فإن نتائج اجتهاده الخاطئ سوف تعكر حياته وتجعل سعادته منقصوه ثم ماذا يمكن أن يصنع الخيرون إذا كانت نظرتهم للحياة تميل إلى التشاؤم مثلاً ورؤية السلبيات عوضاً عن الإيجابيات لاشك ، أن ذالك يجلب لصاحبه التعاسة حيث لابد من نوع من الاعتقاد بخيرية العالم أي بوجود الخير لدى كثير من الناس ووجود إمكانية لتمكين ذالك الخير، إذا لم نشعر بهذا بخيرية العالم على الوجه الذي شرحته فإننا سنشعر بالتعاسة وانسداد الآفاق وانقطاع الحيلة ، وفي موروثنا الثقافي الكثير الكثير من المرويات عن أناس أخيار لكنهم أصحاب نظرة سوداوية سلبية.

    الاستقامة على الشريعة مصدر من أعظم مصادر السعادة والطمأنينة ، ومن غير الاستقامة والشعور بحد كبير وبقدر كبير من التطابق بين المعتقد والسلوك بدون هذا لن يكون هناك مطمع بحياة طيبة لكن الاستقامة مع أهميتها ليست الشرط الوحيد ، فهناك شروط أخرى إلى جانبه ،،،

    هناك من يقول أن الصحة هي الشيء الوحيد الذي يجعلك تشعر بأن اليوم الذي تعيشه الآن هو أفضل وقت في السنة ، ولا يخفى على عاقل ألا شعور بالسعادة مع وجود الأسقام والآلام ، لكن الذي ثبت أن المرء يتكيف مع البلوى شيئاً فشيئا ، والحقيقة لو كان الذين يتألمون ، يتألمون ويشعرون بالألم بالدرجة التي نظنها لا واجهوا صعوبات هائلة في الحياة لكن مع الأيام مع الأيام تصغر المصائب وتنخفض توقعات المرء ويتكيف مع المصائب والبلاوي التي يعيش فيها ، يمكن للمؤمن أن يبصر من خلال البلوى أيضاً رحمة الله تعالى ويبصر ثوابه فيخف تأثير ذالك البلاء فيه ، إن الصحة شيء لا نشعر به إلا إذا فقدناه ، ولذا فوجدودها شرط للسعادة..

    لكن أيضا هناك شرط من شروط بعض فلاسفة اليونان مثل أرسطو كان يقول : السعادة تكمن في الحكمة ولا يوجد سعيد في العالم إلا العاقل وعلى هذا فالفلاسفة المفكرون الكبار الذين يشتغلون بالأعمال الفكرية ، المثقفون الكبار هم أسعد الناس في رأي أرسطو وهذا القول قريب من قول من يقول إن السعادة تكمن في العلم ومعرفة أسباب الأشياء ولكن واقع الحياة يؤكد أن عدداً كبيراً من العلماء انتحروا عدد كبير من العلماء كانوا دائماً يعبرون عن الحرمان الذي يعيشونه وعن أنهم أشقياء ، هذا واقع ولا تسطيع أن تقول لشخص يقول إنه شقي أن تقول له أنت مخطئ أنت سعيد هذا صعب ...

    أختم بـقول واقعي وطريف وبعيد عن كل المعايير الموضوعية ، قول يعتمد على الميول الشخصية على الأحاسيس الشخصية وليس على المعايير التي يمكن تداولها بين الناس ، هذا القول يرى صاحبه ليست في المال أو الجاه وليست في الصحة وليست في الفضيلة وليست في الإيثار للآخرين على النفس ولا في أي شيء من هذه ، إنها في شيء واحد ، هذا الشيء هو ظن المرء بأنه سعيد إذا شعرت بأنك سعيد فأنت سعيد ولا تلتفت إن كنت تعيش في الصحراء ، عندك مكيف ليس عندك مكيف ، عندك عشاء ليس عندك عشاء ، عليك ديون لك ديون ، لا فرق ، المهم ما ذا تقول أنت !! فإذا قلت إنك سعيد فأنت سعيد ، ومن الحكمة ومن المصلحة إذا كنت تشعر بهذا أن لا تبحث أبداً عن أسباب سعادة لأنك لو بحثت ربما زال ذالك الشعور ، السعادة شعور بالانشراح والأمن والإقبال على الحياة والهناء فإذا ظن الواحد أنه يملك هذا الشعور فهو إذا كما قلت سعيد بقطع النظر عن كل ما قيل وكل ما يقال حول شروط السعادة وحول مقوماته وحول أسبابها وحول منغصاتها كل هذه ما لها قيمة أمام إقرار الإنسان أنه يتمتع بسعادة وارفة وبهناء كبير ، هذا القول جميل جداً الحقيقة ، وربما كان أرجح الأقوال إذ لا تستطيع أن تقول لشخص يقول عن نفسه أنه يشعر بالسعادة تقول له أنه غير سعيد مهما كان لديك من الأدلة والبراهين على أنه شقي وبائس ، وقد نجهد أنفسنا ونستعين بطبيب نفسي في إقناع شخص بأنه ليس تعيسا أيضا في المقابل قد نبذل كل جهد في إقناع شخص يشعر بأنه تعيس لنبرهن له على أنه ليس بتعيس نبذل كل الجهود ونستعين بمن نستعين بهم ولكن نجد أنفسنا في النهاية عند نقطة البداية وكأننا لم نفعل أي شيء ...
    إن السعادة أيها الإخوة والأخوات تقوم في حقيقة الأمر على جملة من الحقائق وجملة من الأخيلة وجملة من الأوهام تركيبة منوعة و معقدة ، حقائق وأخيلة وأوهام ، فإذا توهم شخص بأنه سعيد فدعه في توهمه يشعر بالغبطة فذالك خير لك وخير له ...

    الأقوال عن السعادة تذكرنا بقصة العميان الذين وضع كل واحد منهم يده على جزء من الفيل ظناً منه أن ذالك الجزء هو الفيل كله ، ثم شرع كل واحد يصف الفيل من منطلق ظنه ، فخرجوا بأوصاف كثيرة متباينة كما خرج أصحابنا عن الحديث عن السعادة ..

    الأقوال التي سمعناها عن السعادة كلها صحيحة وكلها في الوقت نفسه خاطئة ، هي صحيحة إذا قلنا أنها تفسر بعض أسباب أو بعض مظاهر السعادة وهي خاطئة إذا قلنا أنها تفسر الظاهرة بشكل كامل ومشكلة قائلي تلك الأقوال تعميم تجاربهم ورؤاهم الشخصية على نحو ينفي تجارب غيرهم ومرئياتهم ..
    .
    بعد هذا دعونا نتناول ملاحظتين إضافيتين بعد التعريفات الطريفة واللطيفة للسعادة و للحياة الطيبة لعلنا نتمكن من الاقتراب من هذا اللغز الغامض والمحير أكثر فأكثر ..

    * الملاحظة الأولى ...

    تكمن في النصيحة التالية ...

    لا تجعل السعادة هدفاً تسعى إليه ، وهذه النصيحة عجيبة وربما تلقاها كثير من الناس بالاستنكار وهم محقون في ذالك لأننا جميعاً في واقع الحال نطارد شيئاً نظن أن فيه ما هو أريح وأمتع وأنعم وأرفه ، لكن هل نحن مصيبون في ذالك أم أننا نبحر في محيط الوهم الأكبر حيث ننتقل من جزيرة إلى جزيرة ظانين أن الجزيرة التي نصل إليها هي الجزيرة المبتغاة ، حتى إذا ما حللنا فيها اكتشفنا أنها أقل مما نؤمل ونرتجي ، وبعد مدة يصيبنا السأم والملل فننشر الأشرعة ونبحر صوب جزيرة أخرى ..

    تجربة كثير من أهل الفكر والحكمة والخبرة تقول لنا : إن خير وسيلة لبلوغ السعادة هي ألا تتخذ السعادة غرضاً مباشرا ، ولا هدفاً صريحا ، لأنك إذا فعلت ذالك صارت السعادة بالنسبة إليك مثل فريسة يخطئها الصياد كلما سدد نحوها من مكان بعيد ، إنك لو تأملت في حياة معظم الناس وربما كنت أنا وأنت منهم لوجدت أن القسم الأول من الحياة ينقضي في اشتهاء القسم الثاني وما يخبئ هذا القسم الثاني والأخير من مفاجآت سارة ، أما القسم الثاني فإنه ينقضي في التأسف على القسم الأول كما يتأسف الشيوخ على الشباب ، كما قال الشاعر :
    ألا ليت الشباب يعود يوما *** فأخبره بما فعل المشيب

    وكنت قد سمعت من طفلة في السادسة أو السابعة من عمرها ذات يوم ـ هذا الكلام كان قبل عشرين سنة ـ سمعت منها تلخيصاً مفيداً لهذا المعنى ، معنى انتظار القسم الثاني من الحياة والتأسف فيه على القسم الأول ، تلك الطفلة قالت هذه الحقيقة لكن بلغة أخرى حيث قالت : الأطفال الصغار يحاولون الظهور بمظهر من هو أكبر منهم ، أما الكبار فإنهم يحاولون الظهور بمظهر الكبار ، مشكلة السن والتقدم في السن عند الجميع قضية غير مرغوب فيها ولاسيما عند النساء ، هذا الكلام الذي قالته تلك الطفلة من عشرين سنة يتأكد اليوم في الحقيقة من خلال فنون عمليات التجميل التي يقوم بها الكبار من رجال ونساء لإصلاح ما أفسدته الأيام .
    وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

    يقول أحد كبار الأدباء العرب في العصر الحديث : كيف السبيل إلى السعادة والرضا وأنا لم أبلغ شيئاً إلا تطلعت إلى شيء آخر أبعد منه منالا ولم أحقق أملا لنفسي أو للناس إلا اندفعت إلى أمل هو أشق منه وأصعب تحقيقا ؟؟؟؟؟
    فإذا كان الأمل الذي لا حد له ، والعمل الذي لا راحة منه ، إذا كان هذا يعد في نظركم سعادة ، فأنا السعيد الموفور الحظ ، ما في ذالك شك ، أما إذا كانت السعادة هي الرضا الذي لا يشوبه سخط ، والراحة التي لا يشوبها تعب والنعيم الذي لا يعرض له بؤس فإني لم أذق هذه السعادة بعد ، ما أرى أني سأذوقها إلا أن يأذن الله لي فيما بعد هذه الحياة بشيء منها ،،

    تمنى أحدهم أن لو كان الإنسان يولد وهو ابن ثمانين سنة ، ويتدرج في العمر نزولا ليموت وهو ابن عشرين ، فذاك قد يكون هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من أوهام المستقبل حيث أنه يستطيع آنذاك أن يتعامل مع شؤونة بخبرة ابن الثمانين ، وإذا كان هذا عبارة عن أمنية لن تحقق ، لماذا لا نجلس إلى ابن الثمانين لنسأله عن الأشياء التي طاردها من نحو الثروة والمتعة والجاه والشهرة واكتشاف البلاد وما شاكل ذالك !! وكيف كانت مشاعره حين ظفر بها وقبض عليها ، إن هذا خير لنا من أن نسير في طريق صعبة ووعرة ستين أو سبعين سنة لنجد أمامنا لوحة تقول " عفواً الطريق مغلق " ولماذا نذهب بعيدا بعيدا والذي خلق الملذات والمسرات ورتب الأسباب والمسببات يقول في محكم كتابه : ( فمن زحزح عن النار وأدخل والجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) متاع غرور ، يغر الإنسان بكل متاع يناله من الدنيا ، ثم يتبن له أن ذالك الاغترار كان اغترارا ، وذالك الإعجاب كان اغترارا ولم يكن في محله ، ،،،

    إذا كان هذا هو واقع الحال ، فلأولى بنا بدل أن نسعى إلى أشياء محددة نظن أن السعادة كامنة فيها الأولى بنا حين إذٍ أن نتبع في سلوكنا قواعد محددة ـ وأحب أن أشدد على هذه الفكرة ـ نتبع قواعد محددة في حياتنا نعتقد أن في التزامها احتمالاً كبيرا بأن نكون سعداء ، لا نسعى إلى السعادة لنصل إليها بعد خمسين سنة أو ثلاثين أو عشرين أو عشر سنوات ، لا ، من هذه اللحظة الأمور التي نعتقد أنها تجلب لنا السعادة نلتزم بها .. القواعد التي نعتقد أنها ستجلب لنا السعادة نلتزم بها من هذه اللحظة ، ونتعامل مع هذه القواعد بثقة ، كما لو أنها كانت أهدافاً في حد ذاتها ، بدل أن تجعل السعادة هدفاً اجعل التزامك بالقاعدة التي تؤدي إلى السعادة ، كأن ذالك الالتزام عبارة عن هدف في حد ذاته .........
    *الملاحظة الثانية من الملاحظتين التي ذكرت أنني سأسوقهما ...


    هذه الملاحظة تفيد أنه ليس هناك شيء كائناً ما كان يشكل بكل تفاصيله وبكل معطياته على وجه الانفراد حياتنا الطيبة وذالك لأن السعادة عبارة عن نشيج معقد وما يسهم في تحقيقها متعدد الأنماط والأشكال ، يعني مثلاً قد تكون في أحسن حال وتتذكر حدثاً مؤلماً فيعكرك ذالك التذكر وتلك الذكرى يوماً كاملا وقد يملك أحد الناس كل مقومات السعادة الشخصية لكنه يرزق بولد منحرف أو معوق ينكد عليه حياته وينسيه كل ألوان النعم التي يتمتع بها .. إذاً ليس وجود الأولاد وحده مهما كان يشكل نسيج سعادتنا ولا وجود المال ولا وجود المرأة المطيعة التقية الحسناء ولا وجود الجاه الجيد ولا وجود المنصب الكبير كل شيء من هذا لا يشكل بمفرده هيكل السعادة أو جسم السعادة الذي نسعى إليه ، و لو أننا سمحنا لأنفسنا أن توقف قليلاً لنقرأ أهداف الحركة اليومية الدائبة لمعظم الناس فإننا سنجد الأكثرية من العناصر النشطة في المجتمع الأكثرية من هذه العناصر النشطة وقعت في وهم هذا الوهم هو أنها تستطيع أن تغير مجرى حياتها من خلال الوصول إلى شيء ما ، فهذا يعتقد أن مبلغاً كبيرا من المال سوف يجعله في القمة ، ولما لا والمال محور الحياة كما يقولون : الذي ليس معه فلس لا يساوي فلسا ، والذي معه مليون يساوي مليون ، وهذا يعتقد أن وصوله إلى منصب معين أو إلى نفوذ قوي في مجال من المجالات سيفتح أمامه كل أبواب المجد ، وثالث يعتقد أن عليه أن يبني اسماً في مجال عمله وإذا توصل إلى ذالك لم يحول بينه وبين الفوز المعنوي و المادي أي شيء ، ورابع يعتقد أن أبناء هذا الزمان لا يحترمون إلا الشخص الناجح والمتفوق ولذا فإن النجاح بالنسبة إليه يشكل الباب العريض الذي سيدخل منه إلى عالم الأحلام الوردية ، وهكذا ...

    ومع أنني أعتقد أن من الصعب جداً أن نقنع الناس بأن هذا الذي يعلقون عليه كل آمالهم في تحقيق السعادة لا يعدوا من أن يكون واحداً من الأوهام الكبيرة التي دوختنا ودوخت الأمم من قبلنا ، مع أنني أعتقد هذا إلا أن علينا أن نحاول في ذالك لعله يتشكل وعي مستقبل بهذه القضايا فيرتاح بعض المجهدين ويتأنى بعض اللاهثين ، بعض المندفعين ،،،،

    إذا وقفنا تجاه المال والثروة و دورهما في تحقيق السعادة فإننا سنجد أن بني البشر جميعا في حاجة إلى المال حتى تستقيم حياتهم ويتمكنوا من قضاء حوائجهم ، إن قدراً ملائماً منه يعد شرطاً لشعور الإنسان بالطمأنينة لقيامه بالحفاظ على وجوده المادي و المعنوي ، ولكنه ليس الشرط الوحيد فشروط الحياة الطيبة عديدة والمال واحدٌ منها ، المال وسيلة ويساهم في سعادة الناس ما دام يمكن استخدامه من قبل الذين يملكونه ، فإذا فاض عن الحاجة والقدرة على الاستفادة منه فإن علاقة صاحبه به تصبح وهمية ، وأرجوا أن نضع خطاً تحت هذا ، حين يفيض المال عن الحاجة ، ويصبح عبارة عن أرقام تدخل في حساباته وتخرج منها ولا يدري أحياناً في اليوم ما ذا دخل وما ذا خرج ، حينئذٍ علاقة الإنسان بثروته تصبح علاقة وهمية ، علاقة رقمية ،،،

    ومما يذكر على سبيل الرمز والعبرة أن رجلا أخبر أن له دعوتين مجابتين ، فدعا الله تعالى أن يجعل كل شيء تمسه يده ذهبا ، فأعطاه الله تعالى ما سأل ، فكاد عقله يطير من الفرح ، ليس هذا شيئاً قليلا بل شيء كبير ، وانطلق الرجل يلمس بشرهة وبنهم كل ما يجد أمامه فيتحول هذا الملموس إلى ذهب ، حتى إذا جاع صاحبنا أخذا الصحن الذي فيه طعامه فصار كل ما فيه من طعامٍ ذهبا ، وعطش فحمل الكأس ليشرب ، فصار ما في الكأس من ماء أيضاً ذهبا ، لا ماء ولا طعام ، فقعد الرجل جائعاً عطشان ، فأقبلت ابنته تواسيه على هذه المصيبة أن ما بين يديه كله صار ذهبا ، عانق ابنته وهي تواسيه فصارت أشبه بتمثال من ذهب ، وهنا لجأ الرجل بعد أن أصابه ما أصابه إلى الدعوة الثانية ، فما ذا كانت ، دعا الرجل ربه أن يعيد كل شيء كما كان ، لأنه أدرك أن الرغيف للجائع وأن الكأس للعطشان وأن البنت للأب خيرٌ من ملأ الأرض ذهبا ، فالمال الذي بين أيدينا قد يكون وسيلة لتحريرنا من الشعور بالعوز ، ومن ذل الحاجة إلى الناس ، لكن عندما ننهمك في جمع المال أملاً في حياة أهنأ وأرغد ، فإن ذالك المال قد يكون طريقاً إلى العبودية والاسترقاق ، فيهدر المرء كرامته في سبيل الحصول على المزيد منه ، وقد يقترن اكتسابه بالمعاصي من ربا ومن غش والنهب والسلب وأكل الحقوق ، لأن الملاحظ أن من يؤمن بأن المال هو كل شيء يفعل أي شيء من أجل الحصول عليه ،،،،،،،

    طرحت إحدى الصحف الإنجليزية على قراءها سؤالاً هو : ما المال ؟

    فكان الجواب الذي نال الجائزة هو الجواب الذي عرف المال بأنه جواز سفر عالمي يمكن لصاحبه أن يسافر إلى كل البلاد ما عدا السماء ، وهو يجلب كل شيء ما عدا السعادة ،،،،،

    ونحن لسنا مع هذه المبالغة ، فالمال إذا اكتسب من حلال وأنفق في مراضي الله تعالى فإنه يدني صاحبه من الجنة ونعيمها ، وهو إن كان لا يجلب بالضرورة السعادة إلا أن المرء لا يشعر بالسعادة من غير وجود شيء كافٍ أو شبه كافٍ ، لكن أحب أن أأكد أن رجلاً بلا مال هو رجل فقير ، ولكن الأفقر منه إذا أردنا أن نغوص نحو الأعماق الأفقر منه رجل ليس لديه إلا المال ، ليس لديه خلق ، ليس لديه استقامة ، ليس لديه رحمة ، ليس لديه إحسان ، هو فقط يملك المال ، هذا هو أفقر الفقراء .................


    انتهى الشريط الاول


    يتبع

    اتمنى ان تتابعوا الموضوع
  • شروق الامل...
    زهرة لا تنسى "إشراقة الحرف - زهرة الحوار "
    • Oct 2004
    • 10864

    #2
    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    الله يسعدك دنيا واخرة

    بانتظار الشريط الثاني
    § •°• رحلتي مع السعادة , ومن أين بدأت وكيف أصبحت , شاركوني فرحتي بها •°• §
    الاستغفار بنية طلب شئ معين !!! ما حكمه ؟

    قصص للمداوميين على الأستغفار وقيام الليل

    http://www.lakii.com/vb/a-6/a-754247/

    أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم
    وأتوب إليه


    قال ابن القيّم : إذا أردت أن تعرف قيمتك عند الله فانظر بماذا يشغلك ؟!




    اللهم اغفر للمؤمنيين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات


    تعليق

    • ابو مهند
      عضو نشيط
      • Jun 2005
      • 489

      #3
      موضوع جيد جداً

      لكن لايمكن قراءته في جلسة واحدة

      جزاك الله خير

      تعليق

      • عظيمة الشوق
        زهرة لا تنسى "زهرة الحوار""نبض وعطاء" "شعلة الصوتيات"
        • Sep 2005
        • 4160

        #4
        وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

        أثابك الباري وحفظك صحيح مسلم والبخاري

        << جاري القراءه
        إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ

        تعليق

        • ~ رزان ~
          عضو نشيط
          • Aug 2004
          • 394

          #5
          جزاك الله خيرا

          حفظته عندي لقراءته على مهل

          تعليق

          • الراااايقة
            النجم البرونزي
            • Apr 2002
            • 898

            #6
            جزاك الله خير ،،

            <<< جااااري القراءة ،،،

            بانتظاااااااااااااااااااااااارك ،،

            تعليق

            • ~ ريـــــم ~
              زهرة الحوار
              • Jul 2005
              • 719

              #7
              بقراه في وقت آخر لانه طويل بس واضح انه قيّم

              شكرا لك نجومه

              تعليق

              • صديقة الزهور
                زهرة الحوار
                • Oct 2003
                • 4755

                #8
                الشريط الثاني ....

                دعونا أيها الإخوة نقف وقفة صريحة مع أنفسنا ... فنحن من غير قصد ولا انتباه نشجع على الوقوع في الجرائم الخطيرة ، من خلال إجلالنا وحسدنا لألئك الموسرين الذين جمعوا الثروة على مبدأ " الحلال ما حلّ في اليد " وعلى مبدأ " فليمت عشرة آلاف أو ليعيشوا في أسوأ ظروف من أجل أن يغرق شخص أو أسرة مكونة من عدة أشخاص في نعيمٍ لا يجلب لهم إلا الملل والسأم واحتقار الذات ، ....
                اليس من العجيب أن يعامل الفقير الشريف باحترام أقل من الاحترام الذي يقدم للثري الذي جمع ثروته عن طريق العسف والظلم واللصوصية والتحايل على القوانين السارية ، وهل يمكن أن نقول : إننا حين نفعل ذلك نكون قد كلنا بمكيال الله ، ونكون قد وضعنا الأشياء حيث يضعها الله تعالى ، لا أشك أننا حينئذٍ لا نكون كذلك ،،،
                إن هذا الموقف من كثيرين منا هو نتيجة لوهمنا الكبير بأن المال هو الطريق السريع إلى كل ما نتمناه ، مع أن الأمور ليست كذلك ، فلدا كل واحدٍ منا من موارد السعادة والسرور والهناء ما يفوق ما يؤمنه المال منها ...
                قال أحد القضاة والدعاة المشهورين في مقالة كتبها ونشرها منذ ما يزيد على أربعين عاما ، قال : شكا إلي موظف أن مرتبه قليل وأن هناك من أقرانه من لا يعلم علمه ولا يبلي في العمل بلاءه ، ولا ينفع نفعه ، ومن ذلك فإنه يقبض مرتباً أضعاف ما يقبضه ، فقال له القاضي : أنت بمرتبك القليل تستطيع إن أحسنت التصرف فيه واستشعرت الرضا به أن تكون أسعد مما له الآلاف المؤلفة ، وأنا أعرف رجالاً يدخل على الواحد منهم في يومه ما لا يدخل علي في السنة أو السنتين من المال ، وأنا أعيش عيشاً أرفه وأرغد مما يعيشون ، لا آكل أطيب مما يأكلون ولا ألبس أفضل مما يلبسون ولا أمتع نفسي أكثر مما يستمتعون ولكنني أرضا أكثر مما يرضون ، ولي بعد ذلك لذائذ هم محرومون منها ، لذة المطالعة أمام المدفئة في ليالي الشتاء ، ولذة التفكير الحالم في الفراش قبل النوم ، ولذة المناظرة في مجال العلم والأدب ولذة المحاضرة في النوادي والإذاعات ، وهو يحتاجون إلي يسألونني فأعلمهم ، ويجيئون إلي فأحكم بينهم ، وأنا لا أحتاج إلى واحدٍ منهم ، لأنهم يفضلونني بالمال وأنا لا أطمع في أموالهم ، ولا أرضى أن آخذ منهم شيئا ، وأنا إن أردت القناعة والرضا وجدت من المال ما يكفيني ، وإن لم أقنع ولم أرضَ لم تكفني أموال الدنيا ،،،،
                إن لكل شيء نملكه في هذه الحياة إيجابياته وسلبياته ، له وجهه الإيجابي المشرق وله وجهه السلبي الكالح ، ونحن الذين أيها الإخوان نرى الوجهين معاً أو نرى الوجه الذي نختار والذي نحب ، قد أراد قاضينا رحمه الله أن يري زميله المغبون في مرتبه مقادير النعم التي يملكها المرء والتي يتلذذ بها دون أن يكون له الكثير من المال ، وهذا ما فعله نبينا صلى الله عليه وسلم ـ شرح الوجه الإيجابي ـ حينما عاد أعرابياً يتلوى من شدة الحمى ، درجة حرارته كانت مرتفعة جداً ، فقال له عليه الصلاة والسلام مواسياً و مشجعاً على احتمال المكروه ، قال له : ( طهور ) فقال الأعرابي : بل هي حمى تفور على شيخ كبير لتورده القبور ، انظر الفرق بين قول وقول ، قال له عليه الصلاة والسلام : ( فهي إذٍ ) أي هي ـ الحمى ـ كما ترى وكما تظن حمى تفور توردك القبور ، قد أراد عليه الصلاة والسلام أن يري ذلك الأعرابي الوجه الإيجابي للحمى ، وأبى الأعرابي إلا أن يرى الوجه السلبي ، لا ريب أن من الخير أن يكون لنا بعض المال ، لكن علينا إلى جانب ذلك إذا أردنا أن نكون أخياراً وسعداء من أن نتأكد من أننا لم نفقد ونحن نبحث عن المال الأشياء التي لا تشترى بالمال ، ولنضع أيضاً خطاً تحت هذه ، علينا أن نتأكد ونحن نجمع المال أننا لم نفقد أشياء لا تشترى بالمال ، ،،،،
                بعض الناس أو كثير منهم على الأصح علق كل توازن شخصيته وكل آماله وطموحاته على الشهرة وطيران الذكر بين الناس واكتساب ثناءهم وتقديرهم ومدائحهم ، وهو في سبيل ذلك مستعد لأن يخوض الأهوال كالذي يفعله بعض الناس في بعض المسابقات الرياضية ، وكالذي يمضي ساعات وساعات من التدريب يومياً في سبيل الحصول على المركز الأول ، وبعض الناس الأموال الطائلة في مشروعات خيرية أو على الفقراء في سبيل أن تلهج الألسنة والأقلام بحمده والثناء عليه ، وبعض الناس يجول العالم ويذرعه من أقصاه إلى أقصاه داعياً إلى عملٍ خيري أو جامعاً للأموال من أجل دعم مشروعٍ إنساني وبعضهم وبعضهم ..، ونحن ( لا ننكر حاجة الإنسان إلى التقدير والاحترام والثناء ) وأنا شخصياً أدعوا إلى أن نلبي هذه الحاجة لكل من نعرفه ولكل من تربطنا به علاقة ، بل لمن نمر بهم في الشارع نقدرهم ونحرمهم ولكن في إطار المشروعية وفي إطار الاعتدال ، وهذا شيء غير ما نتحدث عنه حيث إن التجاوب مع طالبي الشهرة قد يجعل الكثير من أبناء المجتمع يختنقون من وراء تقديم ثناء وإطراء لا يعتقدون صحته ولا يؤمنون به ، فيتحولون إلى منافقين مرائين على حين يغرق طالوا الأمجاد المصنوعة في أوحال الفراغ الروحي وفي أوهام الجنون العظمي ، وما نتحدث عنه أيضاً لا ينطبق مطلقاً على أولئك الذين يقومون بالأعمال الخيرية ابتغاء لمرضات الله تعالى أو استجابة لحوافز ومشاعر إنسانية عميقة تعتلج بين ظلوعهم ، إن هؤلاء يستحقون الثناء والدعاء حين لا ينتظرون منا شيئاً من ذلك ، إن المحسنون اليوم كثيرون ، وإن الذين يقومون بآداء أعمال نافعة وعظيمة كثيرون ، لكن حين يرفع لواء المخلصين يوم القيامة فإن قليلٌ من هؤلاء و أولئك ستجده هناك ،،،
                تقول العرب " برق خلب " وهم في هذا يتحدثون عن السحاب يومض برقه حتى يرجى مطره ثم يتقشع دون أن تقطر قطرة واحدة ، هكذا الشهرة ، حيث تسمع الكثير من الثناء والتبجيل ن فإذا عدت إلى نفسك لم تجد شيئاً بين يديك ولا في نفسك ،،،
                العاقل حينما يسمع الثناء ، ويرى ذكره يطير في الآفاق ، يرجع إلى نفسه أعظم أكثر مما يقوله الناس ، قال : لم يأتي الناس بجديد وأنا أعرف قدر نفسي ، وإذا وجد نفسه أقل مما يقولون ، شعر يومئذٍ بنوع من الخذلان ، نوع من الصغار ، لأنه أوقع الناس أو وقع الناس بسببه بنوع من الخديعة وضلال الرأي ،،،،
                الحمقى والمغفلون هم الذين يطربون لثناء الناس ، إما لأنهم لا يعرفون قدر أنفسهم ، وإما لأنهم يشعرون أنهم جاءهم شيئاً لم يتعبوا فيه ولم يكونوا يتوقعونه ففرحوا به ، لكن ذلك لن يكون إلا طرباً مؤقتا ،،،
                يقول أحد مشاهير عصرنا حاكياً قصته مع الشهرة :

                قد هتفت لي الجماهير حتى بحت حناجرهم ، وصفقوا حتى احمرت أكفهم ، وكان الناس يسلمون علي بالأسواق كما يسلمون على قائدٍ مظفر جاء لتوه من معركة عظيمة خالدة ، وكنت أقول لنفسي في كل مرة : رحم الله أبا بكر حين كان يقول عند سماع الثناء ( اللهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تخزني يوم يبعثون " وحين أعود إلى بيتي أجد زوجتي وأولادي يعاملونني كما يعاملوا كل أهلِ بيت كبير بيتهم ، إنها معاملة عادية جداً وأحياناً أقل من عادية ، فأكون بذلك كمن كان يسكن في أعلى ناطحة سحاب فألزم بالسكنى في القبوا الذي في أسفلها ، يكون خارج البيت فيسمع المدائح ، من يطلب الدعاء ، ومن يثني ومن ومن ومن .. ، فإذا جاء إلى بيته وجداً لغةً مختلفة ووجد أمراً مختلفا ، وأسباب ذلك طبعاً كثيرة ،
                يقول الرجل : والآن وقد بلغت خريف العمر ، وذقت حلو الحياة ومرها ، اسألوني إن شئتم ، ماذا بقي من الشهرة العظيمة التي نلتها وهي بحمد الله ما زالت موجودة إلى الآن ؟؟!! صدقوني أنني لا أجد منها أي شيء يبهج نفسي ، ويفرح قلبي ، إنها أشبه بالسراب يراه الناس من بعيد ماءً ، فيغذون السير ويحثون الخطا نحوه ، أما العقلاء من المشهورين فلا يرون فيه شيئا سوى أنه سراب وسراب وحسرة ، وقد بقي لي من كل ذلك شيء واحد ، هو عملُ نلت به الشهرة دون قصد ، وكنت أرجوا ثواب الله فيه ، فأنا متشبث بوعد الله وإحسانه ، فليس لدي غير هذا ،،،
                الشهرة تحولت بالنسبة إلى بعض المشاهير إلى سجن فسيح ، فالأعين تلاحقهم أينما ذهبوا ، ولكل عين ميزانها وتعليقها ، إن الجماهير ترسم للمشهور صورة معينة ، وتطلب منه دائماً أن يظهر في تلك الصورة على مستوى اللباس والعلاقات والكلام والطرح الفكري ، وإذا خرج عما ألفوه وتوقعوه ، سلقوه بألسنة حداد ،،،

                فالمشهور يشعر بأنه مقيد بسلاسل الجماهير ، صحيح أن بعض السلاسل يكون من ذهب ، وبعضها يكون من فضة ، وبعضها يكون من حديد ، لكنها قلب ذلك وبعد ذلك هي سلاسل تقيد الحركة وتحد من اختيار المرء ، إنه طبعاً لموقف متناقض يملى عليك وأنت الشهير الأثير المحسود أن تخضع لأهواء الجماهير ورغباتهم وحماقاتهم أحياناً ولو كان ذلك ينافي الصدق وينافي القيام لله تعال بالقسط ،،،،
                لو ذهبت إلى مقبرة فستجد للقبور أشكالاً ، فبعض الناس تجاوز الهدي النبوي فيها فجعلوها تشمخ على من حولها بالرخام المنقوش ، ولكن بواطنها سواء ، فما فيها جميعاً إلا رمم بالية وعظام نخرة ، ولا تتميز هناك جمجمة الغني عن جمجمة الفقير ، ولم يبقى لأصحابها من دنياهم سوى ما فازوا به من الأجر والثواب بما أخلصوا فيه من أعمال ، أما الذين نالوا المجد من غير طرق مشروعة فقد وجدوا هناك من الخذلان ، ما أنساهم الدنيا وأهلها والعياذ بالله تعالى ،،،،
                هل نقول يا قوم إن الزهاد هم أعقل الناس ؟؟؟
                لأنهم يتصرفون وفق ما تمليه معرفة الحقيقة الكاملة حيث إنهم تحرروا من التشبث بأذيال حياة زائلة ، واستطاعوا أن ينسحبوا في الوقت المناسب من الصراع المحموم واللا أخلاقي على النفوذ والثروة في دار الفناء ، إن الزاهد أدرك ببصيرته خط النهاية وهو واقف عند خط البداية ، فرأى أن المعركة على الشهرة ليس فيها رابح ، ومن يمكن أن يسمى رابحاً لا يبتعد كثيراً عمن يسمى خاسر ، طبعا هذه نقطة مهمة ، ليس الزاهد بالضرورة مخفقاً ، أو عاجزاً أو كسولاً ، ولا نرضى ذلك لأي من أهل الخير ، لكنه أيضاً ليس مهووساً ولا صاحب رؤية عمشاء ، ولا مخدوعاً بالسراب، ومن هذا وذاك جاءت عظمة بطولته ،،،،
                هناك في الناس من رأى أن ولادته الجديدة وإن شئت أن تقول ولادته الثانية ، ستكون عندما يصل إلى تسلم الذروة في شركته ، أو عندما يكون الأول على زملائة ، أو عندما يصبح رأس مال شركته مناظراً لرأس مال شركة فلان من الناس ، أو أو .. ، ومع أننا أمة بحاجة إلى أكبر عدد من الناجحين حتى نتخلص من بعض أزمات التخلف العلمي والتقني ، إلا أن هذا لا ينبغي أ ن يشغلنا عن حقيقة هي أن أعدادً متزايدة من الناس باتت تعتقد أن النجاح سيحقق لها أعظم أشكال السرور ، وقد حدث بسبب هذا الاعتقاد نوع من التحول في المفاهيم ، فقد صار الناس يذكرون كلمة النجاح أضعاف ذكرهم لكلمة الفلاح ، وكلمة الفلاح تعني الطيبة ، وتعني الصلاح ، وترتبط بالفوز الأخروي ، وصار كثير من الناس في تعاملهم مع بعضهم يعطون أهمية متزايدة للثروة والتفوق على حساب الاهتمام بالأخلاق وعلى حساب الاهتمام بالسلوك الحسن و بالتقوى وبالآخرة بشكل عام ، لست هنا أريد مديح الإخفاق ، بل يمكن أن أأكد على أن الناجحين قد يكونون أقل فساداً من المخفقين ، ولديهم أسباب أقل للإساءة إلى الآخرين ، ولديهم أسباب أكثر للإحسان ، لكن نود الإضاءة لهذه القضية من حيث علاقتها بالحياة الطيبة وبالفوز الواسع والذي يشمل الظفر في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة ،،،
                إن النجاح أيها الإخوة وأيتها الأخوات يجر القوة ويأتي بالنفوذ ويأتي بالمال ويأتي بالجاه ، وتكمن السعادة باستخدام هذه الأمور استخداماً حسناً ،،،،
                إن عقيدة المسلم والتربية التي تعرض لها ، والفطرة التي فطر الله عباده عليها ، والأعراف القائمة في المجتمعات ، هذه كلها تتجه جميعاً نحو وجهة واحدة ، هي توجيه الرجل الناجح إلى أن يتسم بثلاث صفات أو ثلاث سمات :

                هي : أن يكون عادلاً ، وأن يكون مشفقاً ، وأن يكون متواضعاً
                العدل منه يقتضي:
                ألا يوقع الظلم بالآخرين خلال مسيرته الحياتية المظفرة ، وهذا يشمل فيما يشمل كسب المال من الحلال بالطرق المشروعة ، وهذا يحتاج إلى طاقة ليست قليلة ، طاقة على كبح النفس عن أن تنساق خلف مغريات الثروة ، وإغراءات الاستحواذ والجمع ،،، ونحن المسلمين نعتقد أن النجاح الدنيوي إذا تم بطرق غير مشروعة كان وبالاً على أهله لأن لذائذه تنقضي في الدنيا ، وتبقى منغصاته في الآخرة يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون ، وإنما نقول هذا الكلام ونحذر هذا التحذير لأن الخبرة علمتنا أن الهامش الذي يفصل بين النجاح من جهة وبين الرشوة واللصوصية والغش والاحتيال والمخادعة والكذب من جهة أخرى ، إذن ذلك الهامش هامش ضعيف ولذا فإنه يمكن للمرء في كثير من الأحيان أن يتجاوزه عن قصد وعن غير قصد ، وهناك مناطق برزخية مشتبهة تفصل بين الحلال البين وبين الحرام البين وتلك المناطق ـ و أأكد هنا على هذه الجملة ـ تلك المناطق هي مجال لاختبار ورع الإنسان وخوفه من الوقوع في الحرام ، إذا أردنا أن نختبر درجة الورع لدى الإنسان فلننظر إلى موقفهه من الأمور المشتبهة ، هل هو مستعد لأن يتنازل عن بعض الأمور التي فيها شيء من الشبهة حتى يجعل منها احتياطيا أو مساحة فاصلة بينه وبين الحرام ، يقول صلى الله عليه وسلم : ( إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملكٍ حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ) .
                الشفقة أيها الإخوان شيء ثاني يحتاجه الناجحون ،
                فالناجح خلال عمله يلتقي يلتقي بالكثير من العناصر الضعيفة التي تحتاج إلى اللفتة الحانية ، والكلمة الطيبة ، وتحتاج إلى المواساة الصادقة ، وإن الوقوف إلى جانب هذه العناصر هو أحد أهم الوسائل التي تجعل للنجاح بعداً إنسانياً وبعداً أخلاقياً ، من خلال الشفقة من خلال الإحسان نستطيع أن نترجم المكاسب الاقتصادية التي نحصل عليها نستطيع أن ترجمها إلى مكاسب روحية واجتماعية ، وبذلك يدخل السرور على المرء ويشعر أنه ابتعد خطوة عن داء الأنانية والأثرة الذي يصاب به كثير من الناجحين في العادة ، الشفقة ترتبط ارتباطاً أكيداً بكرم النفس ومحبة الآخرين ، وهما خصلتان ضرورتان للشعور بالخيرية والشعور بالأمان ،
                التواضع ،،
                هو أكثر الخصائص صعوبة في الاكتساب ، إذ يبدوا أن ثمة شيئاً متأصلاً بعمق في أخلاقيات وفي طبائع الناجحين ولاسيما رجال الأعمال منهم ، وهذا الشيء في إحساسي أنه ضد الضوابط ، ولا أدري لذلك سبباً ألا أنه ربما يعود إلى أن الناجح قام بأعمال كثيرة تقوم على الكفاح تقوم على الشجاعة تقوم على المغامرة تقوم على حب التملك ، وظفره بكل ذلك تجعله ميالاً إلى الغطرسة وإلى العجرفة وإلى الكبر وإلى الاستهانة بالآخرين
                النزاهة في المعاملات المالية ، والاستقامة على الشريعة ، والشفقة والتواضع سمات مهمة يحتاجها الناجحون حتى يكون لتعلقهم بالنجاح بوصفه مدخلاً إلى السعادة وبوصفه مجلبة لها حتى يكون لذلك التعلق معنى مقبول ومفهوم فعلى الناجح أن يحرص على الاتصاف بهذه الصفات ،،

                النجاح مثل النفوذ مثل المال ، مثل الصحة يمكن أن يساعد على جلب الهناء والأمان والطمأنينة إذا استخدم بطريقة صحيحة ، وهذا ما علينا أن ننتبه إليه جيدا ولاسيما في أيامنا هذه حيث انتشر التخفف من المعايير الأخلاقية لصالح تكديس الأشياء ، ولصالح الاستحواذ على المناصب والمكاسب ، والله تعالى المستعان في كل حال ،،،،
                أما الآن فسأتحدث عن الأمور التي تنغص على الناس حياتهم ، وتجلب لهم مشاعر الشقاء ، وهذه الأمور في الحقيقة كثيرة وبعضها يصعب التعبير عنه ، لأنه دقيق للغاية ، وبعض أشكال الشعور بالتعاسة يعود إلى أسباب مزاجية فردية غامضة ، أي لا يعود إلى أسباب عامة يمكن تصنيفها ويمكن جعلها مقاييس يعتد بها ، ثم من جهة أخرى لا ريب أن تأثير كل منغص من المنغصات التي سنتحدث عنها يختلف من شخص إلى آخر ، وعلى سبيل المثال فإن الناس يختلفون في حبهم للذرية ، فإن عاطفة الأمومة تكون مشبوبة ومستعرة لدى امرأة ، وتكون ضعيفة نسبياً لدى امرأة أخرى ، ولذا فإذا حرمت هذه وتلك من الإنجاب فإن تأثير ذلك على تعكير المزاج لديهما سيكون مختلفا ، ومهما يكن الشأن فإن الأمور المشتركة بين الناس في مسألة السعادة وفي مسألة الشقاء وفي غير هذا أيضا لا شك أنها أمور كثيرة ، وهذا ما يسوغ لنا الحديث عن هموم الناس وعن شجونهم وهذا خطابنا مشروعية صفة الشمول وصفة التعميم وصفة الموضوعية ، ،،،

                إن معرفتنا بالأسباب التي تجر الشقاء قد تكون أهم من معرفتنا بالأشياء التي تجعل الحياة طيبة ، لأن الله جل وعلا فطر الناس على حب الحياة وعلى التشبث بها وأتاح لهم بفضله وكرمه أنواعاً عديدة من الممتعات ومن المرفهات والمهنئات ، فإذا قلت عوامل التعاسة وعوامل النكد في حياتهم شعروا بطريقة آلية وعفوية شعروا بالبهجة وانتابتهم مشاعر الارتياح ، لا أحد يجلب الشقاء لنفسه عن طريق العمد وعن طريق القصد حتى الذين يرتكبون جريمة الانتحار والعياذ بالله ، حتى هؤلاء ينطلقون من فلسفة أقتل نفسي من أجلها ، وهذا في الحقيقة شيء مؤسف ولا ينطبق على شيء قولهم : ومن الحب ما قتل ، كالانتحار وإزهاق الروح ، لكن الناس بسبب من جهلهم وبسبب من عدم إدراكهم للطبيعة البشرية و طبيعة الحياة يجلبون لأنفسهم كل أسباب الحزن وكل أسباب الألم ، ومهمتنا هنا أن نساعد أنفسنا على إيجاد وعي بهذه القضية لعلنا نعرف كيف ندير أزماتنا وكيف نوجه إدراكنا على نحو أفضل مما هو حاصلٌ الآن ،
                أولا ....
                الشيء الأول في " أسباب المنغصات "
                ضياع الهدف الأسمى أو غياب ذلك الهدف عن الوعي ، عقولنا أيها الإخوان ، أيتها الأخوات ، لا تستطيع تحديد هدف نهائي للعيش في هذه الدنيا ، لأن الله تعالى خلق العقل ليفكر في الوسائل ويفكر في الطرق والكيفيات والأغراض الصغيرة والأشياء المحدودة ، والوحي وحده هو الذي يحدد للناس لماذا هم هنا في هذه الحياة ؟؟ وما لذي عليه أن يفعلوه إذا ما أرادوا استمرار حياتهم بعد الموت على نحو يريحهم ويسعدهم ؟؟
                آيات كثيرة جداً في القرآن الكريم حثت الناس على الإيمان ، حثتهم على العمل الصالح إذا ما أرادوا الفوز بالنعيم الأبدي ، ونصوص كثيرة وضحت للناس أن ينظروا إلى هذه الحياة على أنها مجال اختبار لنا ، كما قال جل وعلا ) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) كما وضحت آيات عديدة للناس أن عليهم إذا ما أرادوا النجاح في ذلك الاختبار أن يتحسسوا ويتلمسوا مراضي الله تعالى فيعملوا من اجلها وأن يتلمسوا مساخطه فيجتنبوها ، وغاية كل غاية وهدف كل مسعى هو الحصول على رضا الله سبحانه وتعالى والذي يعني الاستقرار الخالد في جنات النعيم ، ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ) هذا الهدف هو الذي يجعل كل أنشطة الحياة وكل مسراتها ومزعجاتها ذات معنى بالنسبة إلى المسلم ، فكل ما بأيدينا من قوى وإمكانات وكل ما أمامنا من فرص وتحديات وكل ما بيننا من صلات وعلاقات هو في نظر المسلم الواعي عبارة عن أدوات اختبار لنا وعلينا أن نعرف كيف نستخدمها للحصول على النجاح الذي نتطلع إليه ، هذا الهدف العظيم لا يصح أن يكون جزءً من معتقد المسلم فحسب ، بل ينبغي حاضراً في وعيه وانتباهه عند كل عملٍ مطلوبٍ شرعا ، أو أي عمل يخدم مقصداً شرعيا عاما ، وذلك حتى ينال المسلم المثوبة على أعماله وحتى يظل يقضاً ومشدوداً نحو الهدف الأكبر الذي يعمل من أجل الحصول عليه ، يقول عليه الصلاة ولسلام في الحديث المشهور : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) يقول الإمام أحد رحمه الله تعالى : أحب لكل من عمل عملاً من صلاة أو صيام أو صدقة أو أي نوع من أنواع البر ، أحب له أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل ، لأن وجود النية هو الذي يربط الفعل بالهدف الأسمى ، حين نعمل عملا من أجل الله أي من أجل إرضاء الله سبحانه وتعالى وبذلك يكون ذلك العمل مقرباً لنا من بلوغ الهدف الذي نهدف إليه ، أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك ) بالنية ووضوح الهدف يصبح للحياة معنى ، ويشعر المسلم بالامتلاء العاطفي والوجداني ، لأنه بذلك يشعر أنه على الخير ، وأنه يسعى إلى الخير ، وأن المنتهى الذي ينتهي إليه خير له مما هو فيه في هذه الحياة ، النية تجعل كل حياتنا منطقية ، تجعلها مفهومة ، قابلة للشرح قابلة للتوضيح ، ونجد إشارة إلى هذا إلى قضية أن تكون كل الأنشطة متوجهة باتجاه واحد ، نجد هذا حقيقة ليس على سبيل الإشارة ، إنما نجده واضحا في قول الله جل وعلا : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) إن مما يؤسف له أن أكثر الأمم إحرازا للتقدم التقني والعلمي هي أكثر الأمم شعوراً بالفراغ ، وشعورا بفقد أنشطتها لغاياتها الكبرى ، ومعانيها السامية ، هناك حثُ شديد وقوي وكبير للناس أن ينصرف عن التأمل عن مصيرهم الأخروي وفي مدى تحقيق أنشطتهم وأعمالهم لذواتهم ولسعادتهم ، وذلك كي ينصرفوا إلى الاهتمام بالإنجاز والعمل والنجاح والمتعة ، وقد استجاب كثير من المسلمين لذلك وصرت لا تلمس من معظمهم أن الفوز برضوان الله تعالى يشكل هاجساً لهم ، أو يشكل محوراً لنقاشاتهم ولاهتماماتهم ، لا شك المسلمون يؤمنون بحمد الله تعالى بضرورة العمل للنجاة للآخرة ، ويدركون الهدف الأسمى من وجودهم ، لكن يدركون ذلك بطريقة رتيبة ميتة ، ولهذا فإن ذلك الإدراك لا يصوغ حياتهم ولا يحرك مشاعرهم ، الخطوة الأولى على طريق تحجيم المنغصات وتحجيم المزعجات تتمثل ـ أقول هذا بصدق وأمانة ـ تتمثل في أن نعيد ترتيب حياتنا ونعيد ترتيب اهتماماتنا على نحو يجعل لحياتنا قيمة ، وليس لذلك سوى طريق واحد هو الإصرار على ضبط سلوكياتنا في الاتجاه الذي أراده الله جل وعلا منا ، في الاتجاه الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى لنا ، وهو اتجاه واضح وبين ومسلوك ومطروق لا يزيغ عنه إلا هالك ،،،،
                ثانياً ........

                الأمر الثاني لمنغصات السعادة :
                السأم والملل ، التقدم الذي حدث في العصر الحديث ذلل الكثير من صعوبات الحياة ، حيث تيسرت أسباب ممارسة الأعمال و قلت ساعات العمل وكثرت التدابير الصحية و كثرت الأدوات المعينة على الإنجاز وعلى الإنتاج وأخذت فنون المأكول والملبوس والمركوب في التنوع على نحو لم يكن السابقون قادرين حتى على تخيله ، ما نحن فيه من نعماء الآن الناس قبل مئة سنة ما كانوا قادرين على تخيله فضلاً عن أن يتمنوه أو أن يصلوا إليه ، هذا كله أيها الإخوان على الرغم مما وفره على الناس من عذابات وآلام وجهود بدنية مظنية جعل حيات معظم الناس رتيبة ، تمضي على نطٍ واحد ، في الساعة الفلانية يتناول الموظف الفطور ، في الدقيقة الفلانية يخرج من بيته إلى عمله ، أنماط المراجعين له في عمله صارت محفوظة له عن ظهر قلب ، في ساعة معينة يكون الانصراف ثم الغداء ثم النوم إلى ما قبل المغرب ، ثم مساعدة الأولاد على كتابة واجباتهم ، وبعد ذلك حديث قصير مع الزوجة والأولاد ، يتلوه سماع نشرة الأخبار أو رؤية شيء آخر ، وبعد ذلك يهجم النعاس من أجل الراحة والاستعداد ليومٍ جديد وهكذا ، ومن ليس موظفاً له برنامج يومي مشابه هذه الرتابة في الأنشطة اليومية جعلت أيام السنة متشابهة إلى حد مذهل مما أوجد لدى الناس قدراً لا يستهان به من الضجر والسأم والإحساس بأن الغد لن يحمل أي جديد ما دام اليوم لا يختلف عن الأمس في أي شيء وبالتالي فلا شيء يدعوا إلى الابتهاج أو الانتظار ، يشكل السام العدو الأول للحياة الطيبة ، ويبدوا أن الشعور بالإثارة والدهشة وتوقع الأشياء غير المعهودة وغير المألوفة يبدوا أن هذه الأمور تشكل جزءاً جوهرياً من طبيعتنا نحن بني آدم ، ومن ثم فإن نمط الحياة الذي يحرمنا من هذه الأشياء الإثارة والدهشة ، النمط الذي يحرمنا من هذه الأشياء يجعلنا نشعر بأن الحياة نفسها فقدت مذاقها الأصلي ومتعتها المرجوة ، حين يكون ثمة فروق كبيرة بين الظروف الحاضرة و الظروف الأكثر ملائمة لطبائعنا وحاجاتنا النفسية فإن السأم يبدأ بالتغلغل في نفوسنا ، ،،،
                ويبدوا أن الرتابة وتكرار الأعمال اليومية ليست هي المسببات الوحيدة للملل بل هناك أسباب جوهرية أخرى ،،
                نحن لا نتثاءب ولا نسأم حين تكون عقولنا في حالة تشغيل نشط وفي حالة يقظة تامة ، يعني من الصعب أن نتصور محامياً يتثاءب أثناء مرافعته الأولى أمام المحكمة ، أو نتصور رجل أعمال يصاب بالضجر أثناء توقيع عقد صفقة كبيرة ، هذا يعني أن الكسل الذهني وعطالة عقولنا عن الاهتمام بأشياء نافعة ومهمة توقعنا أيضاً في الملل ، والذي كما أشرت هو العدو اللدود للحياة السعيدة ومع هذا فإني أشعر في بعض الأحيان أن الله جل وعلا زودنا بالسأم لنتخذ منه عازلاً يحول بين نفوسنا وبين الأشياء السيئة التي نراها ونسمعها ، حيث لا يحول بيننا وبين التفاعل بالتالي التأثر بالكلام الرديء والأفكار التافهة شيء مثل الضجر ، وقد يكون للسأم ميزة أخرى نلمسها من خلال التجربة وهي أننا لولا السأم ـ بعد الله ـ لأصبنا بالإرهاق من فرط النشاط والاستجابة للمثيرات المختلفة ، ولذا فـ بعد الله ـ لأصبنا بالإرهاق من فرط النشاط والاستجابة للمثيرات المختلفة ، ولذا فن السأم يشكل فترة استجمام ولطالما كان الملل مقدمة لنشاط عظيم وتحفز نفسي وانطلاق روحي هائل ، الذي يخيف دائماً ليس السأم الدوري الذي يكون بين موجات النشاط والحركة والإقبال والانجذاب ، ولكن السأم الذي يخيم على النفس ويستولي على الشخص في معظم أوقاته ، هذا هو السأم المخيف والمزعج ، لابد مع هذا وذاك أن ندرك أن السأم جزء طبيعي من الحياة ، فأعظم الكتب إمتاعاً وفائدة يحتوي على بعض الفصول المملة ، وأكثر الأعمال حيوية لا يخلوا من بعض الأمور المزعجة ، ولذا فيجب أن نتعلم كيف نتحمل ذلك وكيف نتقبله على أنه جزء ظبيعي من الحياة ، ويجب أن نعلم صغارنا هذا الأمر أيضاً ، فبلوغ المعالي وذرى المجد يتطلب دائماً الصبر ، ويتطلب القيام بأعمال ليس فيها أي شيء من الإثارة والرجال العظام كانوا دائما على مدار التاريخ يقومون بأعمال كثيرة تبدوا للآخرين أنها مملة وعقيمة ، لأن الإنجازات العظيمة تحتاج إلى الحياة الهادئة المنظمة وليس إلى الحياة المتقلبة والمثيرة ، الحياة صناعية التي نعيشها في البيوت المغلقة حالت بيننا وبين الحيوية والنشاط والتفتح والتأثر الذي نجده عند تجولنا لبستان أو عند قطفنا لثمار شجرة أو مشاركتنا في سقاية حقل ، بعدنا عن الحياة الملتصقة في الأرض ، وعدم رؤيتنا الجديد والمتجدد فيها جعلنا لا نرى إلا الإسمنت والحجر والإسفلت والحديد ، بعد هذا وذاك يجب أن لا ننظر إلى موضوع الملل نظرة متعجلة أو نظرة استخفاف ، إذ من الواضح أن كثيراً من الجرائم الكبرى كالاغتصاب وشرب الخمر والقتل وقطع الطريق كان بدافع السأم ، وللسأم والملل نصيب في دفع أصحاب تلك الجرائم إليه ، ،،،،

                إن علينا إذا أردنا أن نتخلص من كثير من السأم أن نقوم بالآتي :
                أولاً :
                أيها الإخوة ، أيتها الأخوات أن ننظر إلى السأم المستمر على أنه داء حقيقي يحتاج إلى علاج وإن من أهم علاجاته العمل وإشغال النفس بشيء نافع ، إن الفارغ كثيرا ما يورد الضجر لأنه أخو العدم ولأنه سكون تام والنفس تواقة إلى المثير وإلى الجديد وإلى المفاجئ ، ،،،،
                ثانياً :
                تنويع الاهتمامات ، شيء جوهري في طرد الملل ، إذ مهم كان العمل الذي نقوم به ممتعاً وشيقاً فإن الانغماس به لفترات طويلة يؤدي في النهاية إلى كلل الروح وفقد النشاط ، الذي يحب التعلم والإطلاع والمعرفة مثلا بإمكانه أن يقطع القارئة في مجال تخصصه واهتمامه ليقرأ في مجلة أو رواية أو في كتاب بعيد عما كان يقرأ فيه ، بل إن في إمكانه أن يستخدم في بعض الأحيان وسيلة أو طريقة تعلم أخرى كأن يحاور بعض الأشخاص في قضية ما ، أو يتعلم عن طريق السماع لبعض المجربين أو الخبراء إلى آخر ذلك ، ،،،،
                الأهم من تنويع الاهتمامات أن يكون في الأصل لدى الواحد منا شيء يهتم به ، يعني أنا ربما كنت متفاهماً تجاه بعض الأشخاص يقولون في أنفسهم تحدثنا عن تنويع الاهتمامات ، سلنا قبل ذلك هل لدينا أصلا اهتمامات هل لدينا أشياء فلا نهتم بها خارج أوقات العمل الرسمي الذي نكسب منه لقمة العيش ؟
                الحقيقة كثير من الناس يعانون من الملل لأنه ليس لديهم أي مشروع أو أي قضية أو عمل يقومون بالعمل فيه أثناء أوقات فراغهم ، ،،،،

                ثالثاً :
                ليحاول كل من تجمعهم أسرة أو رابطة عمل أو صداقة إيجاد شيء جديد يكسر الرتابة ويولد درجة من الإثارة لتغير الأم في وضعية أثاث البيت بين الفينة والفينة وليحاول الأب أن يفاجئ الأسرة بشيء لم تعتد عليه من الخروج على نزهة أو القيام بزيارة إلى بعض الأقرباء أو إلى أحد الأماكن وهكذا ،،،
                رابعاً :
                كثير من السأم يأتي من وراء الأثرة والتمحور حول الذات ، وأعتقد أن القيام بالأعمال الخيرية والتطوعية فوق أنه سبب في الحصول على الثواب العظيم وفرصة لرد ديناً قديم لأمتنا علينا فإنه أيضاً يوجد لدينا فضيلة الاهتمام والمشاركة والمتابعة وهذه أمور أساسية في كسر جمود الروح ،،،
                المنغص الثالث للحياة الطيبة :

                الجهل بطبيعة الحياة ،،
                حيث أن كل واحد وهو يرسم صورة للحياة والأحياء يرسما في حقيقية الأمر من أفق فم ومعرفته وخبراته وهذه الصورة هي دائما محدودة ، دائما جانبية ، دائما جزئية ، وهكذا فالأمين يظن أن كل الناس أمناء ، واللطيف يتوقع من كل الناس أن يعاملوه بلطف ، والكذاب يظن أن كل الناس كذابون ، الذين تعودوا رخاء العيش يصدمون إذا ما مرت بهم أيام شدة ، والذين عايشوا الأزمات والشدائد القاسية يبطرون ويفجرون إذا ما داهمهم الرخاء ، في الحياة دائما مفاجآت وأمور تصدم وتجرح وتخالف التوقعات ، في المجتمع تفاوت واختلاف في العقول والأمزجة والمصالح ، وكل واحد ينظر من زاوية معينة تهمه ، أو لا يستطيع أصلا أن ينر من غيرها ، كثيرون لا يستوعبون شيئا من هذا لأنهم حالمون مثاليون ، رسموا صورة للكون ظنوا هي الصورة الأصلية ، وهي الصورة الوحيدة والصادقة ، وكل ما يخرج عن تلك الصورة و شيء بالنسبة إليهم شيء غير معقول وغير مقبول ، ولذا فإنهم في استمرار في حالة شكوى وعتب على الآخرين و لوم لهم ، إنهم يتجرعون الكثير من الغصص والآلام بسبب جهلهم بالطبيعة التي منحها الله جل وعلا لهذه الحياة ، إذا علمنا أن الدنيا هي دار ابتلاء فينبغي أن نتوقع الابتلاء في كل نواحيها وكل مراحلها ، ابتلاء بما نعرف ، ابتلاء بما نجهل ، ابتلاء بما ننكر وبما نقر ، بما يسوء وبما يسر ،،،
                قالوا الحياة قشور *** قلنا فأين الصميم
                قالوا شقاء فقلنا *** نعم فأين النعيم
                إن الحياة حياة هكذا هي ففارقوا أو أقيموا

                النابهون فينا يقضون الشطر الأول من أعمارهم قبل أن يعرفوا طبيعة الحياة ، أما الآخرون فيخرجون من الحياة إلى عالم الآخرة قبل أن يتعرفوا عليها وذا من جملة النقص المستولي على البشر ،،،،
                المنغص الرابع :
                وهو من أهم ما يكدر صفو الحياة ،،، الحسد ،،، وهو تنمي المرء زوال النعمة عن غيره وانتقالها إليه ، والحسد مركوز في طباع البشر وهو يرتبط في كثير من الأحيان بالمنافسة حيث أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من بني جنسه في شيء من الفضائل المعنوية والمادية ، الحسد يكون غالباً بين الأقران ، بين المتقاربين ، بين الزملاء ، بين الأهل ، بين الجيران ، الشحاذون لا يحسدون أصحاب الملايين ، لكنهك بالتأكيد يحسدون من يتفوق عليهم بالشحاذة من أمثالهم ، الحسد كان ذنب إبليس وهو الذي افتتح طريق هذه السيئة ، حيث إنه حسد آدم عليه السلام لما رآه فاق الملائكة ، حيث خلقه الله تعالى بيده ، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء الأشياء ، ووصف اله تعالى اليهود بالحسد في مواضع من كتابه كقوله سبحانه : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) أيضاً أصحاب ديانة يحسدون أصحاب الديانة ، ،،
                الحسد واسع انتشاره بين الناس ولدى المرء استعداد قوي للإصابة به في سنّ مبكرة جدا ، إذ يمكن للطفل منذ السنة الثانية من عمره أن يحسد أخاه إذا رأى أهله يفضلونه عليه ، إذ إن أدنى تفضيل للأخ على أخيه يلاحه الصغير ، ويبدأ بحسد أخيه والسخط علي والاستياء منه وحين تكون العاطفة لدى الأبوين ضعيفة أو تكون معاملتهم لأبنائهم تنطوي على نوع من الخشونة والجفاء بسبب سوء خلقهما فإن الأطفال أيضاً حين إذٍ يبدؤون بحسد أبناء الجيران والأقرباء ، بل لأنهم في ظنهم قد ظفروا بأهلٍ خير من أهلهم ،،،
                الحسد بين النساء قد يكون أشد انتشارا حتى في الأوساط الراقية والموسرة ، ففي المناسبات العامة وفي الأفراح حين تدخل امرأة حسنة الهندام فإن عيون النساء تنشد إليها وتتسمر عليها وكل واحدة ممن في المجلس باستثناء من هن أحسن منها هنداما غالبا كل واحدة ترسل نظراتها الفضولية إلى تلك المرأة وتحاول جاهدة أن تجد فيها نقصاً أوعيباً ، وهناك ينظر إلى كل قصة أو حكاية تتناول تلك المرأة المتفوقة كل قصة تتناولها بالغمز واللمز تعتبر تلك القصة صحيحة ومسلمة إلى أن يثبت في البراهين القاطعة عكسها ، وهذا ربما كان يعود إلى أن كل امرأة تعتبر النساء الأخريات منافسات لها ، على حين لا يشعر الرجال بهذا الشعور إلا بالنسبة لمن هم في نفس المجال أو نفس المهنة وفي بعض الأحوال الخاصة الأخرى ، أسوأ أنواع الحسد هو ذاك الذي يتجاوز الخواطر والتشهيات والتمنيات إلى إلحاق الضرر بالمحسود من غيبته والكيد له وإطلاق الشائعات عليه ، الحسد ينطوي على سوء ظن بالله جل وعلا ، فكأن الحاسد يعتقد أن ما عند الله تعالى ليس كافياً للجميع فيتمنى زوال النعمة التي أنعم الله بها على غيره عنه وانتقالها إليه ، وينطوي أيضاً على اعتراض على قسمة الله للخير والرزق حينما يتمنى الحاسد انتقال النعمة من المحسود إلى شخص ثالث أو زوالها عنها ، إنه بدل من أن يحمد الله على ما رزقه وعلى ما في حوزته ، يعتصر قلبه الألم على ما في حوزة الآخرين ،،،
                الرجل العاقل في الحقيقة لا يقل فرحه بما لديه من خير ونعمة ورفاهية لأن شخصاً آخر أوتي شيئاً يزيد أو يتفوق على ما عنده ، ولهذا فإن الحسد في الواقع هو شكل من أشكال الرذيلة ، رذيلة خلقية ورذيلة عقلية ، لأن الحاسد لا ينظر للأشياء على ما هي عليه في ذاتها وإنما ينظر إليها من خلال علاقتها بغيره ، وهذا خسف فكري ، سبحان الله ، يلقى الحاسد العقوبة في وقت الحسد نفسه ، في نفس اللحظة دون إبطاء ولا تأخير ، وعقوبته من نوع خاص وفريد ، فهو يغتم وينزعج ويتضايق كلما رأى مظاهر السرور على الآخرين ، إنه يشعر بالقلة و الإملاق والفقر كلما شعر أن الآخرين في نعمة وسعة ، وحين تتمكن هذه الرذيلة من إنسان فإنها تفتح عليه من أبواب التعاسة على مقدار ما يفتح الله على الناس من حول الحاسد من أبواب السعادة والفضل والخير ، ولهذا قال أحد الحكماء ـ الحقيقة كلمة رائعة ـ إذ يقول : ما رأيت ظالما ًأشبه بمظلوم من حاسد ، نكد دائم وحزن ملازم وغم لا ينفذ ، حسب الظاهر هو ظالم ، ولكنه أيضاً في نفس اللحظة هو مظلوم ، والذي ظلمه هو نفسه ـ ظلم نفسه ـ ، مشكلة الحاسد أنه يتحول عند رؤية النعمة لدى الآخرين بسرعة البرق من إنسان فرح بما لديه ، راضٍ بما عنده إلى إنسان ساخط ناقم جاحد لأنعم الله تعالى ، ،،،
                علاج الحسد ،،،
                يكمن في أن يتقي المرء الله تعالى و أن ينظر إلى الحسد على أنه مخالفة وأنه وقوع في أمرٍ منهي عنه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ) ،،،
                ومما يفيد في التخلص أو التخفيف من هذا الداء الدوي ، الإعراض عن التفكير في أمور الآخرين إلا على سبيل الإصلاح والمساعدة ، وتجنب المقارنات والموازنات بين ما يملك الشخص وما يملكه غيره ، إذ إنه طالما جاءت المقارنات بالأمور السيئة والنتائج الخاطئة ،،،
                بعض المسلمين يملكون نوعاً جميلاً ورائعاً من السمو الروحي والخلقي ، حيث إن الواحد منهم حين يشعر بانفعالات الحسد تعتمل في صدره يقاوم تلك الانفعالات ويستغفلها ويحاول التخلص منها ، ولا يكتفي بذلك بل يسعى بالإحسان إلى المحسود والدعاء له ونشر فضائله وهذا الصنف من المسلمين على قلته موجود ، والكرام دائماً قليلون ، وهذا من أعلى درجات الإيمان ، ومن أشرف الصفات التي على المسلم التخلق بها ، ،،،،
                المنغص الخامس :

                العجب والغرور والكبر ،،،
                وهذه الأدواء أدواء مترابطة ومتعالقة ، وظاهرها يعطي مؤشرات خاطئة لأصحابها ، حيث يبدوا المصابون بهذه الأمراض في حالة حسنة ، فهم يشعرون بالتميز ، يشعرون بالنجاح والثقة بالنفس ، يشعرون بالتفوق على الآخرين ، بالوجاهة الاجتماعية ، يشعرون بحاجة كثير من الناس إليهم في الوقت الذي يشعرون فيه بالاستغناء عن كثيرين منهم ، وقد يتساءل سائل كيف تعكر هذه الأدواء أو هذه الأمور صفو الحياة الطيبة ؟! وكيف تصبح مصدراً للتعاسة والشقاء وهي في الظاهر لا تنتج إلا عن بعض الأمور المرغوبة أو المشروعة مثل النجاح والتميز والتفوق والغنى والشكل الحسن وما شابه هذا ؟!!! هذا السؤال في محله ، ومشروعيته تأتي من اختلاط كثير من جوانب الخير بكثير من جوانب الشر ، واختلاط كثير من الإيجابيات بكثير من السلبيات ، ،،،
                الحقيقة أن العقيدة الإسلامية وكل ما يرتكز عليها من آداب وأخلاق وتوصيات ومواعظ تؤكد على حقيقة كبرى هي : أن الإحسان إلى الناس هو باعتبار ما وبمعنى ما إحسان إلى الذات ، كما أن الإساءة إلى الناس هي باعتبار ما إساءة إلى الذات وإلى النفس ، ولما لا يكون الأمر كذلك وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ، ثم إن العبودية لله جل وعلا تتطلب من المؤمن الانكسار والتذلل بين يدي الله تعالى ، وتتطلب اتهام النفس وحسن الظن بالناس ، والتواضع والاعتراف بالخطأ ، وما شابه هذا من هذه المعاني ، وهذه الأمور كلها تكون معدومة أو منقصوة لدى المعجبين بأنفسهم والمغرورين بما يملكون والمتكبرين على الآخرين ، وهذا يجعل الواحد منهم في مواجهة نفسه وفي مواجهة الفطرة التي فطره الله عليها وفي مواجهة نواميس الوجود وقوانين الحياة ، ولذا فإن المغرور والمعجب بنفسه والمتكبر يشعر بين الفينة والفينة بأنه ليس في الموقع الصحيح ، ولاسيما حينما يرى إعراض الناس عنه وجفاءهم إياه ، حتى أهل بيته يشعرونه بأنه أقل بكثير مما يرى نفسه ، ويصدمونه أحياناً بهذه الحقيقة ، وهذا يؤجج في داخله صراعاً خفياً ومستمراً يشوه كل جمال حياته الباطنية ، ويجعله بحاجة إلى علاج وإلى إنقاذ مما هو فيه ، وإذا كان المتكبرون والمغرورون غير قادرين على الإحساس بذنوبهم وتجاوزاتهم فإن حوادث الأيام والليالي ستتكفل بتعليمهم عن طريق الانهيار والمصائب المتتابعة ما كان عليهم أن يتعلموه عن طريق الاستبصار الذاتي والفهم الخاص وعن طريق الاعتبار بالآخرين ، وهذا سيجعل الظروف التي يعيشون فيها سيئة وتزيد في تأزمهم الداخلي وتجعل عيوبهم أكثر بروزاً أمام الآخرين ، العجب بالنفس ينطوي دائماً على اعتقاد بالكمال بالتفوق على الآخرين ، وهذا فيه تزكية للنفس ، والله جل وعلا يقول : ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) طبعاً ليس المقصود بالتزكية هنا التطهير ، وإنما مديح النفس والاعتقاد بكمالها ، ،،،
                إن العجب بالنفس شيء يكرهه الله لعباده ، وقد أذاق الله سبحانه المسلمين طعم الهزيمة يوم حنين في بداية المعركة ، وأشار القرآن الكريم إلى أن ذلك الانكسار كان بسبب العجب كما قال سبحانه : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ) ويوم حنين كما نعرف جميعاً قال بعض المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، عندهم ثقة بذلك العدد الضخم نسبياً الذي كان يقاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه : ( إذا رأيت شحاً مطاعا ، وهوىً متبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ) فالعجب يسهم في إفساد الحياة الاجتماعية ، ويضعف حركة التبادل في المشاعر والأفكار ، مما يجعل مفسدة الاختلاط بالناس أكبر من المصلحة المرجوة ، ولهذا فالصيرورة إلى نوع من مجانبة الناس واعتزالهم تكون أنفع للمسلم آنذاك ، من الناس من يعجب بجماله وقوته وصحته وشكله ، ومنهم من يعجب بذكائه وفطنته وعلمه واطلاعة ، ومنهم من يعجب بشرفه ونسبه وحسبه ، ومنهم من يعجب بماله وجاهه ونفوذه وسلطانه ، ومنهم ومنهم .. ، ،،
                والحقيقة أن العجب ينطوي على نوع من اللؤم والجحود ، لأن المنطق يقضي إن كان لدى المرء فعلا ما يتميز به على غيره بإعلان الشكر لله وحمده والإخبات له والتواضع له وليس الفخر والاعتزاز ، لا ريب أن من حق المرء أن يعرف قدر نفسه ، وأن يعرف لدى ما لديه من إمكانات ومواهب وهذا يعد ميزة ، لكن لابد مع هذا من الشكر والحمد والانفتاح على ما لدى الآخرين ، فالكمال في كل شيء نسبي وهو قابل للضمور إذا أحطناه بالعجب ، وقابل للنمو إذا اعتقدنا أن لدى الآخرين شيئاً يمكن أن تعلمه وأن نستفيد منه ،،،،،،
                الغرور شيء قريب جداً من العجب ، إنه نوع من السكون إلى الهوى ، والإخلاد إلى موافقته دون مجاهدة ولا محاولة للتمييز بين الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وما يليق وما لا يليق ، ،،
                إن الله جل وعلا وصف الشيطان بأنه غرور ، فإيقاع الناس في الغرور عمل شيطاني والاستجابة لوسوسات الشيطان في الانخداع ببعض الميزات هو هزيمة أمام الشر الذي يمثله الشيطان ويرعاه ، الغرور شيء كريه لأنه يؤذي صاحبه من جهات عديدة ، المغرور غير قادر على الاعتراف بأخطائه في سلوكه وعلاقاته واجتهاداته ، كما أنه غير قادر على الاعتراف بنقاط الضعف التي لديه ليجد من يساعد على تجاوزها ، والغرور يجعل المرء يستخف بالآخرين ويزدريهم ، كما أنه يجعل صاحبه يشعر بنوع من التشبع الزائف ببعض القيم ، ويشعر بغير حق بأهميته الشخصية ، ،،،
                إن الغرور على صلة وثيقة بالأنانية الفردية وهو يعمل بقسوة في نفس صاحبة وفي الحياة الاجتماعية ، حيث يتطلب الغرور من الآخرين أن يعملوا باستمرار شيئاً لصاحبه من نحو الخضوع والمديح والتبجيل والاعتراف أمامه بالضعف ، والاعتراف بالمسكنة والحاجة ، بعض الحكماء لفت النظر إلى نقطة مهمة ـ في تصوري قل ما ننتبه إليها ـ يقول أحد الحكماء : إن أتعس اللحظات هي لحظة الانتصار لأنها في بعض الأحيان تكون عبارة عن مقتله إذ كثيرا ما تكون بداية لمرحلة من الشعور بالغرور ، وهذا حق وصدق ، وشواهده التاريخية الواقعية أكثر بكثير من أن تحصى ، إن في نفس كل واحدٍ منا أيها الإخوان مسحة من الغرور وعلينا ألا نسمح لها بالتضخم ،،،
                إن الحياة لقصيرة مهما طالت ....................

                انتهى الشريط الثاني

                تابعونا


                تعليق

                • صديقة الزهور
                  زهرة الحوار
                  • Oct 2003
                  • 4755

                  #9
                  نبض داعيه &ابو مهند & فـــاقـــدة غـالي ** & ~ رزان ~ & الراااايقة & ~ ريـــــم ~

                  شكرا لكم متابعتكم

                  جزاكم الله خير

                  تعليق

                  • صديقة الزهور
                    زهرة الحوار
                    • Oct 2003
                    • 4755

                    #10
                    تفضلوا الشريط الثالث
                    عسى ان تكون فيه الفائدة


                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    الشريط الثالث ....

                    إن الحياة لقصيرة مهما طالت ، ولحظات الغرور ليست سوى قطرات الماء لا معنى لها في محيط الزمان الكبير ، أيها المغرور إنك تؤذي نفسك بموقف ذهني خاطئ ، والكون يستمر في حركته وفي اتجاهه على ما هو عليه دون أن يتأثر بشيء ، رأيت في الحياة أشخاصاً أعمى الغرور بصائرهم فأخرجهم من كل دوائر المنطق والمعقولية ، وصار الواحد منهم أشبه بالديك الذي يعتقد أن الشمس لا تشرق إلا كي تستمتع بصياحه ، ،،،،
                    أما الكبر فإنه أعظم شراً من العجب ، وأعظم شراً من الغرور ، لأنه يشتمل عليهما ويزيد بخصلتين قبيحتين ، هما ازدراء الناس ورد الحق ، أنفةً من اتباعه والاستسلام له ، قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) قال رجل : يا رسول الله ــ التبس الأمر على الناس ـ قال يا رسول الله : إن الرجل يحب أن يكونه ثوبه حسناً ونعله حسنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس ) أي : رد الحق وازدراء الناس والاستخفاف بهم ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : ( أل النار كل عتلٍ جواظ مستكبر وأهل الجنة كل ضعيف مستضعف ) وقال سبحانه وتعالى : ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) ،،،
                    المتكبر ينشر في المجتمع معادلة الازدراء المتبادل ، يزدري الناس لأنه يراهم أقل منه ، والناس يزدرونه لكبره وسوء خلقه ، قال أحدهم واصفاً هذه الحالة :
                    مثل الجاهل في إعجابه ** مثل الناظر من أعلى الجبل
                    يحسب الناس صغارا وهو في ** أعين الناس صغيراً لم يزل

                    ويبدوا أن المتكبر يدخل نفسه في دورة من العلاقات المريضة ، فهو يتكبر على من دونه بمقدار إذلاله لنفسه أمام من يرى أنهم فوقه ، وكثيراً ما يكون الكبر ستراً لنقص جوهري في الذات وتغطية على عيب أساسي في الشخصية ، كما قال أحدهم :
                    لما عرف أهل النقص حالهم عند ذوي الكمال استعانوا بالكبر ليعظم صغيراً ويرفع حقيرا وليس بفاعل ، لا يستطيع الكبر أن يقوم بهذه المهمة ، ويصل الكبر في بعض الأحيان إلى درجه يحتاج معها صاحبه إلى علاج ، كما هو الشأن في المصابين بجنون العظمة ، وهؤلاء في عصر الثروة ، عصر القوة و التقنية المتقدمة ، باتوا كثيرين ، قد كانت العرب قديما تضع حذيفة الأطرش في مقدمة المتكبرين حيث أنه كان لا ينادم أحداً لتكبره ، يسامر أحداً لتكبر، لا يتباسط إلى أحد ، ويقول إنما ينادمني الفرقدان ، ما شاء الله هذا الرجل لا يدري أنه لا يستطيع عزل مجتمع بأكمله لكنه يعزل نفسه ويورثها آلام الوحشة والغربة وهو بين أهله وفي دياره ، وهذا لا شك وأمثاله يحتاجون إلى علاج مضاعف ، ويذكرون أن ابن عوانه كان من أقبح الناس كبراً حيث روي أن قال لغلام له ـ خادم ـ: اسقني ماء ، قال الغلام نعم ـ أجابه ـ فقال ابن عوانه : إنما يقول نعم من يقدر أن يقول لا ، اصفعوه ـ أي اضربوه ـ فصفع الغلام ،،،

                    لا يستطيع المرء أبداً أن ينعم بالسعادة والطمأنينة وهو ينشر بين الناس الحقد والكراهية ، ولا يستطيع أحد أن يؤذي الآخرين باحتقارهم دون أن يناله حظ من أذاهم ،،،
                    المغرور والمعجب بنفسه والمتكبر يضعون مادة عازلة بينهم وبين المسرات التي ينالها المحسنون والأخلاقيون والطيببون من جراء حبهم للناس وحب الناس لهم " وعلى نفسها جنت براقش "
                    المنغص السادس :

                    الشعور بالاضطهاد بالتآمر وقهر الآخرين ، وهذا الشعور مستشرٍ بين الناس وهو واحد من الأمور المهمة في إفساد متعة الحياة وتكدير الخاطر ، في أمة الإسلام كثيرون جداً يعتقدون أن السبب الجوهري لتخلف الأمة لا يعود إلى قصورها الذاتي ولا إلى الأخطاء والخطايا التاريخية المعاصرة والحاضرة ، وإنما يعود إلى المآمرات التي تحاك من الأعداء خارج حدود العالم الإسلامي ولاسيما الدول الغربية ، ولهذا فإنهم كثيراً ما يعتقدون أن انحطاط تلك الدول أو دمارها هو الذي سيخلص العالم الإسلامي من أوضاعها الراهنة ، والذين يعيشون في الغرب من هؤلاء المسلمين يعدون من البراعة الشخصية الخروج على القوانين المرعية هناك في سبيل الحصول على بعض المكاسب أو إلحاق الضرر باقتصاد تلك البلاد أو ببعض الأشخاص هناك ،،،
                    وحين تجالس هؤلاء تجد أنهم يشعرون بدرجة عالية من المرارة واليأس ولما لا يكون الشأن كذلك وهم يعتقدون أن مفتاح كل تقدم يمكن أن ننجزه ليس بأيدينا وإنما بأيدي خصومنا التاريخيين والمنافسين لنا في عالم اليوم ن ، هؤلاء الناس نفضوا أيدهم من أي عمل إيجابي بنائي لأنه في نظرههم ليس مجديا ،، مع أن القرآن الكريم يعلمنا أن المشكلة الجوهرية ليست في تسلط الأعداء ولكن في ضعف دفاعاتنا و ضعف التزامنا وقيامنا بأمر الله تعالى ، المشكلة في ضعف همتنا ، في انخفاض إنتاجيتنا وسيطرة الكثير من الأدواء والعاهات الخلقية علينا على نحو ما نلمسه في قول سبحانه : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) حين هزم المسلمون في أحد ، قال بعضهم : كيف نهزم ونحن جند الله فنزلت الآية ، ،،
                    ويقول سبحانه : ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) هؤلاء الذين يشعرون بقهر الأمم لأمة الإسلام يظلون غير قادرين على تقييم أحوالهم ونقدها وإصلاحها وتجد الواحد منهم يسلك في الاستسلام للأوضاع السيئة مسلك الجبريين الذين يعتقدون أن الإنسان لا يعدوا أن يكون كالريشة المعلقة في الهواء تميلها الرياح يمنة ويسرة ، مع أن هؤلاء ليسوا جبريين في معتقدهم ولكن اعتقادهم بهذا السيطرة الرهيبة علينا جعلهم مشلولي الحركة كما هو شأن من يعتقد الجبر ،،،

                    على الصعيد الفرد الداخلي تلقى كثيرين من الناس يعتقدون أن عدم استقرارهم في مؤسسة أو في شركة أو مهنة يعود أساساً إلى الظلم الذي وقع عليهم أو إلى عدم تحملهم لمشاهد التسيب والفساد الذي وجدوه في المؤسسات التي عملوا فيها ، ومع أن وجود ما يتحدثون عنه قد يكون صحيحا إلا أنك تجد عند البحث والتدقيق أنهم لم يستطيعوا القيام بواجباتهم المهنية والوظفية على الوجه المطلوب فتم الاستغناء عنهم ، وهناك أشخاص يشعرون أن حياتهم معرضة للخطر بسبب الحقد والحسد الذي يكن بعض الناس لهم ولذا فهم في توجس دائم ، وهؤلاء في الحقيقة يحتاجون إلى علاج نفسي ،،،
                    وهناك فريق ثالث من الناس منزعجون دائما لأن من يقيمون علاقات معهم لا يعاملونهم بالكياسة والرقة واللطف والعطف الذي يستحقونه ،،
                    وأخيرا نموذج المحسن ، الذي يعمل دائماً الخير للناس ويمد لهم يد العون والمساعدة على الرغم من عدم طلبهم لذلك لكنه مندهش وفزع أن أولئك الذين تلقوا مساعدته لا يظهرون له أي اعتراف بالجميل ، ،،
                    يشترك كل المضطهدين في أنم يسيئون فهم الحياة ، وفهم العلاقات بالآخرين ، بل يسيئون فهم أنفسهم أيضا ، ومع أنك قد لا تعثر على أي علاج ناجح لبعض حالات هوس الاضطهاد إلا أن الحالات الخفيفة التي يشعر بها من ليس مصاباً بالتصلب الذهني قد يكون لها بعض العلاج ، ،،،
                    وأعتقد أن ما سأقوله الآن قد يكون نافعاً في الحالات المشار إليها :ـ
                    أولا ..
                    على المرء فيما يواجهه من نقود وحملات تبدوا عدائية ، أن يتهم نفسه ويراجع مواقفه وعلى سبيل المثال : فإن هناك من يكره الغيبة ويمسك لسان عن الحديث عن أي أحدٍ بسوء ، والذي كثيراً ما يحدث أن يقاوم هذا الشخص أو هذا المرء الكلام في غيبة فلان من الناس عشرين مرة وفي عشرين موقف ، لكن في موقف من المواقف غلبته نفسه فتكلم عليه بكلام لا يرضاه وحدث أن قام من بلغه بذلك الكلام فشن حملة ضده هذا الرجل الذي يقاوم الغيبة نسي الموقف الذي اغتاب فيه فظن أنه يتعرض لهجوم ظالم والأمر ليس كذلك ، وهذا الأمر في خبرتي ومعرفتي يتكرر يومياً في المدينة الواحدة مرات عديدة إن لم نقل عشرات المرات ،،،
                    ثانياً :
                    على المرء ألا يبالغ في تقدير صفاته الخاصة لا من حيث عظمة الفضيلة في ولا من حيث قلة الشر لديه ، فإذا فعل ذلك يكون قد ترك في حياته في علاقاته هامشاً للخطأ وهامشاً لإمكانية المؤاخذة من قبل الآخرين ،،
                    ثالثاً :
                    علينا ألا نتوقع أن يهتم بنا الناس كما نهتم بأنفسنا ، فالناس ينظرون إلى أمور الحياة من زاويتهم الخاصة وليس من زاويتك أو زاويتي ، وعلى هذا فليس للمرأة العجوز أن تتوقع من ابنتها أن تعزف عن الزواج رغبةً في البقاء إلى جوارها كي تقوم على خدمتها ، وليس للأهل أن يتوقعوا من ابنهم أن يطلق زوجته أو يعيش معها في نكدٍ دائم تلبية لرغبتهم في سكناه معهم ، وهنا أقول : علينا أن نعترف أننا نتصرف في بعض الأحيان بنوع من الأنانية والجشع وعدم الشعور بالمسؤولية ، وإذا لم يفعل الناس ما نريد ويستجيبوا لرغباتنا تضايقنا وشعرنا أنهم يضطهدوننا ،،
                    رابعاً ..
                    هذا الأمر الرابع من الأمور التي تساعد على تخفيف الشعور بالاضطهاد ، على كل واحدٍ منا أن يدرك أن الناس الآخرين يصرفون من وقتهم في التفكير فيه أقل بكثير من الوقت الذي ينفقه في التفكير بذاته ، الواقع أن لدى جميع البشر مشاغلهم وشؤونهم الخاصة التي تستنزف طاقاتهم في الليل والنهار ، وليس لدى كثير منهم أي وقت للتفكير فيه أو السؤال عنه أو الانشغال بحياكة المكايد له ،،،
                    إنني أيها الإخوة الكرام ، أيتها الأخوات الكريمات أعتقد اعتقاداً جازما أن ما نفعله بأنفسنا على مستوى أمتنا وعلى مستوى مجتمعاتنا وعلى مستوياتنا الشخصية والخاصة إن ما نفعله تعجز أكبر قوة معادية في الأرض أن تفعله معنا ، فالقصور ذاتي والإخفاق داخلي وما يتم تجاهنا من مؤامرات هو شيء طبيعي ولو كنا في موقف قوة لفعلنا مثله وربما أكثر منه ، فبدل أن نتجه إلى التفكير فيما يحاك ضدنا علينا أن نتجه إلى سؤال أنفسنا لماذا يحاك ضدنا كل هذا ؟ والجواب قطعاً سيكون لأننا النقطة الأضعف ، ،،،
                    أنت حينما تريد أن تفتح ثقباً في جدار لا تأتي إلى عمود الإسمنت فتحفر فيه ، تأتي إلى نقطة هشة فتحفر فيها ، علينا أن نعود إلى قول الله جل وعلا : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
                    لنعد إلى ذلك فهماً وتحليلا وعملا وسنجد خيرا كثيرا ،،،
                    الأمر السابع من المنغصات للسعادة وللحياة الطيبة :

                    الفراغ والبطالة ، وهما من مصادر النكد ومن مفسدات الحياة الطيبة ،،
                    إن الله جل وعلا خلق لكل واحدٍ منا يدين لكي تعملا وتنتجا ، فإذا توقفتا عن العمل بصورة غير معتادة ولا طبيعية ، شعرنا بأن شيئاً ما ينقصنا ، وشعرنا باضطراب داخلي عنيف ، حين يكون الإنسان باطلا عن العمل لفترة طويلة فإن أحواله المادية تصبح قلقة وربما وقع في حرج شديد من العيش ، وتصبح الحياة بالنسبة إليه عبارة عن وحدات زمانية يجب التخلص منها بأقل قدر من المعاناة ، وفي تصوري أن أكثر من خمسين في المئة من المسلمين يعيشون في وضعية دفع الأيام إلى الأمام كما يدفع المرء شيئاً يريد أن يتخلص منه ، وهذا وحده كافٍ لنزع الكثير من أردية السعادة والسرور عن أية حياة وأي عيش ، ليست مشكلة البطالة محصورة في فقد المرء لمصدر قوته وقوت عياله وإنما يتولد عنها آثار نفسية واجتماعية وسلوكية خطيرة فحين يجلس المرء مدة طويلة من غير عمل فإن ارتكاسات كريهة تصيب شخصيته بوصفه إنساناً وبوصفه كائناً يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً ومنتجاً وعاملا ، وفي هذه الحالة يمكن أن يفسد احترامه لنفسه وثقته بذاته هذا إذا لم تؤدي البطالة إلى انهيار حياته الأسرية وتسمم الجو الذي يعيش فيه صغاره وأولاده ، وهذا كله في كفة وإمكان انغماسه في اللهو مع قرناء السوء وإمكان إدمانه للمخدرات والمكيفات في كفة أخرى ، وحين يحدث ذلك فإن العاطل عن العمل يكون أقرب إلى المعوق والمشوه ، وقد صدق من قال : إن البطالة أم المعائق ،،،
                    الفراغ يجعل المرء في مواجهة نفسه وهذا أمر صعب وسيء حيث يبدأ آن ذا لا يرى فيها إلا النقائص والسلبيات ونقاط الضعف وأرجوا أن نفكر ملياً في هذا الكلام ، ،،،
                    لماذا حين يكون الإنسان باطلا عن العمل ويواجه نفسه لا يرى إلا النقائص والسلبيات ولا يرى إلا الرذائل التي يمكن أن تكون لديه ، في تصوري هذا يعود إلى أن فضائل الإنسان لا تتجلى إلا في أوقات العمل وفي أوقات الكد والتعب والعطاء والإنتاج والفاعلية حينئذٍ تتجلى فضائلنا ونرضى عن وضعيتنا وتأتينا حينئذٍ الأفكار الإيجابية عن ذواتنا و كل فكرة إيجابية تطرد فكرةً سلبية ،،،
                    البطالة في الحقيقة هي عطالة كاملة حيث يخرج الباطل عن العمل من دورة الحياة التي تشكل مصدر إمتاع كبير للإنسان ، في دورة الحياة تكون حياتنا موزعة على حلقات متناوبة من العمل والفراغ والتعب والراحة وال×ذ والعطاء والتأثير والتأثر ، أما في حالة البطالة فإن المرء يعيش في فراغ يحده الفراغ من جهاته الست ، كبار السن الذين يحالون إلى التقاعد أو المعاش كما يقال في بعض الدول ، يعيش كثير منهم في معاناة صامتة لا يمكن أن يعرف حجمها المنهمكون في أعمالهم ومهماتهم ومسؤلياتهم ، إنهم يشعرون بالخسارة وتصبح حساسيتهم نحو الضغوط مفرطة كما يشعرون بزيادة اعتمادهم على غيرهم وحاجتهم للمساعدة من سواهم ، وللأسف لم يأخذ كبار السن حقهم منا من الدراسة والمساعدة والمعاونة مع أنهم كانوا يتألقون في المجتمع في فترة عملهم وفي فترة إنتاجهم وبعد إحالتهم للتقاعد ، كثير منهم صار في أوضاع سيئة وعلى المجتمع أن يساعدهم كما ساعدوه في يوم من الأيام ،،،
                    أيها الإخوان ، العمل بالنسبة للإنسان العاقل الراشد يشكل وسيلة وهدفاً في آن واحد ، والبطالة تقضي على الوسيلة والهدف بضربة واحدة ، ومن هنا فإن على كل واحد منا وفي أي سنّ كان أن يفكر بما يمكن أن يسميه الاحتياط المهني ، كما نفكر كيف نحتاط للأمور المالية وعلاقاتنا الاجتماعية ، ،،،
                    الاحتياط المهني معناه : تعدد اهتمامات المرء وتعدد المهن أو الأشياء التي يمكن أن يعمل فيها إذا حال تقدم العمر أو حالت ظروف معينة دون العمل في بعض منها ، ،،
                    أعرف شخصاً مهندساً ودارساً لبعض العلوم الإنسانية ، اقتضت ظروف عمل زوجته أن يسكن في قرية يصعب عليه فيها أن يجد عملا ذا أجرٍ مجزٍ ومكافئ للجهد الذي سيبذله ، وبعد شهرين أو ثلاثة أشهر من القعود في البيت شعر أن الحياة ما عادت تطاق فذهب إلى إحدى المؤسسات التي تعمل في مجال تمديد الكهرباء للمنازل ، وقال لصاحب المؤسسة : أريد أن أعمل عندك مجانا ، فاستغرب صاحب المؤسسة و سرته المفاجأة لأنه سيحصل على إنجاز وعلى عمل وعون مجاناً ، وفعلاً بدأ الرجل بالعمل الجاد والمثمر مسلحاً بالخبرة الطويلة التي يمتلكها في هذا المجال ، وبعد شهر واحد قال صاحب المؤسسة : ليس من الإنصاف أن تنفعني كل هذا النفع ولا تأخذ على ذلك أجرا ، هنا وجد ذلك المهندس نفسه في موقف قوة موقف كما يقال يتيح له التفاوض من موقع قوة ، وكان ذلك ، قد تعلق به صاحب المؤسسة وصار اعتماده عليه كبيرا ، ودفع له بالتالي مرتباً مجزياً ،،،
                    لو تأملنا أيها الإخوة والأخوات في أحوال العاطلين عن العمل مع تقديري البالغ لصعوبة كثير من الظروف في كثير من البلاد ، لو تأملنا في أحوالهم لوجدنا أن لديهم خلطةً سيئة من الكسل والفوضى وضعف الاهتمام واليأس والارتباك وضعف الكفاءة وضعف الـتأهيل الذاتي والمهني ، إنني أعتقد أن هناك دائماً فرصاً لكن الذين يستفيدون منها هم الأشخاص الأفضل والأكفأ والأنشط ، إن أي عمل شريف وبأي أجرٍ كان يمكن أن يؤمن للواحد منا درجة من السعادة أفضل بكثير من الوضعية النفسية التي نكون فيها في حالة البطالة وفي حالة الفراغ ،،،،
                    وسوف أتحدث عن دور العمل في توطيد أركان الحياة الطيبة عند الكلام عن أسباب ومقومات السعادة بحول الله وطوله .......
                    ثامناً من منغصات السعادة ...
                    الفجوة بين الطموح والإنجاز ،
                    كثيراً ما تشكل مصدر إزعاج مستمر لكثير من الناس ، وإن علينا أن نقول في البداية إن من المهم أن يكون للمرء آمالاً يطمح إلى تحقيقها ، وأن يكون هناك أهداف يسعى إلى الوصول إليها ، فالحياة من غير شيء يكون أمامنا تعني الجمود وتعني التكلس ،،،
                    التقدم الحضاري بطبيعته يجعل طموحات الناس تتسع ، فالذي يغري بالسعي إلى المزيد من الرفاهية وإلى المزيد من اقتناء الأشياء والمزيد من استهلاكها هو الرفاهية نفسها ، لكن الإمكانيات التي تساعد على تحقيق ما نتشوف إليه لا تنموا ولا تتطور بقدر تضخم تطلعاتنا ، فيكون لدينا من ثم شعور مستمر بأن ما نجده أقل بكثير مما نطلبه ، في عالم المسلمين فقر وعوز واسع النطاق في الحقيقة ، لكن طموحات كثير من الناس ليست مستمدة من واقع المسلمين وإنما من واقع العالم الصناعي للثراء العريض ، وهكذا فالحسرة تكاد تجتاح كثيرا من النفوس من خلال ما يشاهدون من مظاهر البذخ والرفاهية في الفضائيات وفي الإنترنت وفي وسائل الإعلام المختلفة ، ،،،
                    هناك لون آخر من ألوان التعاسة يحل بنا نتيجة خطأ في فهم الأشياء وفي تصورها ، إذ إننا كثيراً ما نتخذ قراراتنا بناء على أفضل التصورات وأفضل التوقعات وأحسن الاحتمالات ثم نصدم بعد ذلك ونقع في الإحباط نتيجة تخلف النتائج المرجوة ،،،
                    التجارة في أذهاننا للربح ، والدراسة للنجاح ، والسفر للمتعة والترويح ، ولا يحسب حساب أي شيء آخر ربما يقع ، ولذا فإن التفاؤل الذي يزيد عن حده ينقلب في يوم واحد إلى تشاؤم وإحباط ، ،،
                    أن يكون هناك مسافة بين ما نريد وبين ما هو موجود هذا شيء جيد ، لكن لنضغط على أنفسنا كي تبقى تلك المسافة في حدود الممكن وفي حدود المقدور عليه فتقدم بطيء مستمر خير من قفزة في الهواء لا نعلم ما الذي تسببه لنا ، ،،
                    الأمر التاسع من منغصات الحياة الطيبة

                    الإرهاق والقلق والخوف والتوتر العصبي ،،،
                    هذه في الحقيقة أمور باتت شائعة في زماننا هذا إلى حد أنها صارت تهدد الحياة الآمنة الطيبة ، وباتت فعلا أبرز مظاهر العصر الحديث ،،،
                    الزمان الذي نعيش فيه بمتطلباته الكثيرة و شروطه القاسية ومستوياته العالية وتعقيداته الكبيرة هذا الزمان صار يتطلب من الواحد منا المزيد من التفكير ، المزيد من الحذر والاهتمام ، وزاد الطين بلة ، ضعف الاهتمام بالجوانب الإيمانية والروحية لدينا ،،،
                    إننا نشعر في بعض الأحيان أننا في حاجة إلى قدر كبير من التوازن حتى لا نحيد عن الطريق الصحيح وصار مثلنا مثل الذي يسير على حبل مشدود فهو مطالب أولا بأن يسير ومطالب ثانيا بأن يبذل قصار جهده في حفظ توازنه حتى لا يسقط ، ولهذا فإنه ليس هناك أي سبيل لتفادي القلق والتوتر العصبي بصورة كلية ،،،
                    التعب الجسماني المحض بدون أن يكون مفرطا يظل أقرب إلى أن يكون سبباً من أسباب السعادة وهو يفضي إلى النوم الهادئ ويجعل قابلية المرء لتناول الطعام جيدة ، كما أنه يضفي نكهة ممتعة على المسرات المتاحة في الأجازات والرحلات وأوقات الفراغ ، وحين يكون التعب الجسماني مفرطاً وقاسياً فإنه يغدوا أحد الأعداء المهمين للسعادة والانشراح ، ولذا فينبغي العمل على تفاديه والتقليل منه إلى أقل حد ممكن ،،،
                    بعض الناس يصاب بالإرهاق الشديد والتوتر العصبي بسبب اعتقاده أن العمل الذي يؤديه عمل مهم وخطير ويجب إنجازه خلال فترة محددة و إلا حدثت كارثة ويعتقد أن أخذ استراحة ليوم أو يومين يعد أمراً غير معقول ولا مقبول ، ومع أن مثل هذا الاعتقاد قد يكون صحيحاً في أوقات طارئة ونادرة إلا أن من الصحيح أيضا أن معظم من يعتقد أن عمله مهم جدا يكون مبالغاً في ذلك ومنطلقاً من تصورات خاطئة ، ولو أن طبيباً حاذقاً نظر في أمر هؤلاء لأمر بأخذ إجازة إجبارية لكل من يعتقد أن عمله مهم وخطير ،،،
                    القلق في الحقيقة هو نوع من الخوف ، وجميع أشكال الخوف ينتج عنها التعب أو الإرهاق العصبي ، والحقيقة أنه لا يكاد إنسان يخلوا من شيء من خوف ، فهذا خائف من زوال منصب يحتله ، وذاك خائف من خسارة مالية كبرى تلحق به ، وثالث خائف من إطلاع الناس على بعض أخطائه وعيوبه ، ورابع خائف من حسد الناس وتواطئهم عليه ، وهكذا ...
                    الإرهاق العصبي لا يسبب الإزعاج لنا ويكدر صفو حياتنا فحسب بل إلى جانب ذلك يجعل اهتمامتنا بما يجري حولنا محدودة ، وقد يكون ما يدور حولنا خطير جدا ، ويحتاج منا إلى ما يشبه الاستنفار لكن الإعياء الذي نحن فيه يجعل تفكيرنا بذلك تفكيرا هامشيا ، ويجعل انطباعاتنا عنه بالتالي مبهمة ومشوشة ،،،
                    نحن في الحقيقة في حاجة إلى أن ندرب أنفسنا على مواجهة القلق والإرهاق والخوف حتى نتخلص من الأوهام التي تقتل طاقاتنا الحيوية وتبدد صفاءنا وهدوءنا وراحتنا ،

                    ولعل مما يفيد في هذا الشأن الأمور التالية :ــ
                    أولاً :
                    علينا أن نؤمن أن القلق لا يجرد الغد من مآسيه لكنه يجرد اليوم من أفراحه ، وإذا كان هذا هو الشيء ، فشيء من الثقة بمعونة الله تعالى وشيء من التوكل عليه وشيء من الإيمان بالقضاء والقدر والاستسلام لأمر الله تعالى أقول إن شيئاً من هذه المعاني يخفف عن المسلم الكثير من مخاوفه وأحزانه ويمده بعزم جديد وكلما زادت ثقتنا بالله تعالى وزاد توكلنا عليه انخفضت درجة الخوف ودرجة القلق من المستقبل لدينا ،،،
                    ثانياً :
                    إن المتاعب التي نواجهها يجب أن تحملنا على التفكير العميق وليس على القلق ، وأنا أعتقد أن عدم مواجهتنا الجادة والصريحة والمكشوفة للأمور التي تخيفنا وتزعجنا هو السبب في سيطرة تلك الأمور علينا ولو تأملت في أوضاع الشخصيات القلقة لوجدت أن هناك رفضاً تاماً لمناقشة أي شيء ، حيث أن لديهم استسلام تام للأوهام والهواجس المزعجة ، ويعتقدون أن ما يخشون فقده سيفقد وما يخشون وقوعه سيقع ولا فائدة ترتجى من التفكير فيه ، وهذا خطأ فادح ،،،،
                    ثالثاً :
                    حين تكون قلوبنا مثقلة بالأسى ونحن نتألم من فرط الحزن أو خيبة الأمل فلنحاول التخلص من ذلك وإن شئت أن تقول لنحاول مقاومة ذلك عن طريق الإيمان بأننا ما زلنا رغم كل ما جرى نملك شيئين :
                    دعاء الله تعالى والتضرع إليه بأن يكشف البلوى ويزيل الغمة
                    والأمر الثاني هو العمل على التخفيف من الآثار السيئة التي تترتب على وقوع ما يقلقنا وقوعة ،،

                    رابعاً :
                    يمكن تحجيم القلق بتفعيل رؤيتنا للحياة الدنيا ، فكل ما يجري في هذه الدنيا من مآسي ومصائب وكوارث يأخذ طابع العابر والمؤقت ، وإن أعظم العواصف التي تثور في حياتنا لا تعدو إذا حققنا النظر وتأملنا جيدا أن تكون في نهاية الأمر أكثر من زوبعةٍ في فنجان كما يقولون ، إن الواحد منا ليس سوى جزءٍ صغيرٍ جداً من العالم ويجب أن يعرف قدر نفسه ولا يبالغ كثيراً في تضخيم أهميته ، نحن في حاجة إلى نوع من الترويض العقلي ونوع من السيطرة على أفكارنا ، والحقيقة أن معظم الناس لديهم مشكلة ضعف توجيه أفكارهم و السيطرة عليها ومناقشتها وتقييمها ، والقيام بذلك في تصوري ليس بالأمر الصعب كما قد نتوهم في كثير من الأحيان ،،
                    خامساً :
                    لا تفكر في مشكلاتك و وفي الأمور التي تزعجك إلا إذا علمت أن هناك جدوى للتفكير ولا فائدة من التفكير إذا لم يكن لدى المرء بعض المعلومات حول الأمور التي تزعجه و إلا لم يستفد من التفكير شيئا ، أما في الليل فلا تفكر أبدا سواء أكانت هناك جدوى من التفكير أو لم تكن وذلك حتى لا يحرم الإنسان نفسه من النوم والراحة التي يحتاجها للعمل و الآداء الجيد في يومٍ جديد ،،،،
                    سادساً :
                    منحنا الأهمية الزائدة لأي موضوع يسبب لنا الإزعاج ويسبب لنا الغم والخوف ،
                    يقول أحد الفلاسفة المعاصرين : قدمتُ في شبابي عدداً لا يستهان به من المحاضرات العامة وفي بداية الأمر كان كل جمهور من السامعين يفزعني ، فكان توتر أعصابي يجعلني أتكلم برداءة و تأتي خطبتي مشوهة جداً وكنت أخشى من هذا المأزق كثيراً حتى إنني كنت أتمنى في بعض الأحيان لو كسرت رجلي قبل الصعود إلى المنصة و تقديم المحاضرة ، وحال انتهاءها أكون مرهقاً من عنف التوتر العصبي ، وتدريجياً عودتُ نفسي على الشعور بأنه لا فرق إذا تكلمتُ بطريقة جيدة أو تكلمت بطريقتي الرديئة فسوف يظل الكون على ما هو عليه ولن تخرب الدنيا في كلا الحالتين ، ووجدت أنه كلما قلّ اهتمامي إذا تكلمت جيداً أو رديئاً قلّ الكلام الرديء الذي أتكلمه ، وهكذا أخذ التوتر العصبي يقل تدريجياً حتى وصل تقريباً إلى نقطة التلاشي ،،،

                    وأنا مع ذلك الفيلسوف في أن كثيراً من الآلام و المتاعب النفسية يمكن التعامل معه بهذه الطريقة ، فنجاحاتنا وإخفاقاتنا ليست مهمة إلى الدرجة التي نفترضها عادةً ، ولستُ أريد هنا الخروج عن الرؤية الموضوعية للأشياء ولكن أحب أن أقول لنضع الأمور في سياقها العام ، إذا كان ذلك يخفف من أحزاننا التي مهما كانت شديدة ومهما كانت مؤذية فلن تغير من واقع الحال أي شيء ، أنت الآن في الأربعين وقد حصلت على الثانوية منذ اثنين وعشرين عاما ، ما ذا لو كنت حصلت عليها منذ واحدٍ وعشرين عاما أو منذ ثلاثةٍ وعشرين عاما ، ما التأثير العظيم الذي سيتركه دخول الوظيفة أو الجامعة في حياة إنسان بشكل مبكر سنة أو متأخر سنة ، إذا أردت رأيي الشخصي قلت لك : لا شيء هناك أبدا مما أظن ومما تظن ومما يظن الناس ، فتأثير المشكلات مهما عظمت لا يدوم و يتناقص مع كل ساعة تمر فلا داعي لتنغيص الحياة بشيء قضى الله فيه بما أراد وأحب ،،،،،
                    سابعاً :
                    من أمراض عصرنا التي تشكل نوعاً من الإفساد المستمر للسعادة ما يمكن أن نسميه " إلحاح الإنجاز " حيث تجد أن كثيراً من الناس ولاسيما رجال الأعمال و كبار الموظفين أصيبوا بهوس إنجاز الكثير من العمل في أقل وقت ممكن ، إلى درجة يصعب معها فهم المنطق الذي يسيرهم والفلسفة التي ينطلقون منها ، هم دائماً في عجلة من أمرهم و دائما لا وقت لديهم ودائما ما هو مطلوب منهم أكبر من طاقتهم هكذا يتوهمون ، هناك أشخاص يحمل الواحد منهم ثلاثة جوالات ، هل تصدقون هذا ؟ ولا يسكت واحد منها حتى يبدأ جرس الآخر بالرنين ، إنهم أشبه بمن يقذف في الهواء خمس أو ست كرات بصورة مستمرة وعليه حتى لا يخسر ألا يقع أي منها على الأرض ، إن هذا الأسلوب في العمل ضار جداً بالقلب وضار جداً بالصحة النفسية وضار بالحياة الأسرية ، ما يكون منه طارئاً أو مؤقتاً يحتمل ، لكن من يعرف منا هذا الصنف من الناس يجد أنهم أفضل من ينطبق عليهم المثل الصيني " لا شيء يدوم أكثر من المؤقت " إنه كلما زادت إنجازاتهم زادت مشاغلهم وزادت متاعبهم وشعروا أن الأربع والعشرين ساعة في اليوم لم تعد كافية ، ولا أعرف أنا شخصياً أي طريقة لإقناع هؤلاء بأن كل من يسابق ظله أو يحاول الإمساك به سيخسر السباق في النهاية ،،،،
                    نحن من كثرة حبنا للإنجاز ما عدنا نلمس إلى المحسوس والسريع و أهملنا ما يمكن أن يقوم به عقلنا الباطن من أعمال ممتازة ، الذين يشتغلون بالقضايا الفكرية والقضايا الثقافية ورجال الأعمال وكبار الموظفين كل هؤلاء يجدون أنفسهم باستمرار أمام أفكار تحتاج إلى بلورة وأمام أساليب تحتاج إلى تطوير وأمام مشكلات تحتاج إلى حلول ، ونحن غالباً نتجه إلى حصر الذهن فيما نواجهه وجعل الوصول إلى شيء فيه هماً وغماً مقيماً ومزعجاً ، مع أن هناك أسلوباً كثيراً ما ينجح في التخفيف من هذا وهو تشغيل العقل الباطن و الإلتفات بوعينا إلى الاهتمام العادي بأمور أخرى ،،،
                    يحكي بانتراند راسل أشهر الفلاسفة الإنجليز في العصر الحالي عن تجربته الخاصة في هذا الشأن فيقول : وجدت إذا كان علي أن أكتب عن موضوعٍ صعب أن علي أن أفكر فيه جديا وأوجه اهتمامي الكلي إليه لساعات قليلة أو أيام قلائل ، وبعد إنتهائي من التفكير أصدر أوامري إن صح التعبير كي يمضي العمل تحت الأرض في اللاشعور وبعد أشهر أعود إليه بوعيي فأجد أن العمل كله قد أنجز ، وكنت قبل اكتشاف هذه التقنية أقضي تلك الشهور الفاصلة بين التفكير والتنفيذ في قلق الوهم لأني لم أكن أحرز في هذه الفترة الفاصلة أي تقدم ، ،،،،
                    أيها الإخوان ، أيتها الأخوات ، إن كل عمل مهما كان خيّراً ومهما كان مفيدا قد ينقلب إلى سوء و بلاء وخسائر فادحة إذا جانبه شيئان " الرفق والتوازن "
                    الرفق والتوازن هما الطابع الجميل والحكيم الذي يتركه الكبار على أعمالهم وعلى إنتاجهم ، ،،
                    العاشر من منغصات الحياة الطيبة ....

                    إتجاه المرء إلى اتخاذ الملذات أساساً ورأس مالٍ جوهرياً للحصول على السعادة ،
                    وكنا قد أشرنا إلى ارتباطٍ وثيق بين اللذة والسعادة لكنهما لا يتطابقان فقد نجد السعادة دون لذة وقد نجد اللذة دون سعادة ، ومما يؤسف له أن أعداداً متزايدة من الناس و لاسيما الشباب والفتيان والفتيات صار لديهم اعتماد أساسي في الحصول على السعادة والأمن والاطمئنان على ما ورد إلينا من العالم الغربي والصناعي عامة من تقنيات ووسائل تقوم أساساً على الرفاهية وعلى السعي إلى الانتصار على الإملاق والعوز والجهد والملل ، بل على الشيخوخة أيضا والقبح ، فقد نشطت في الآونة الأخيرة عمليات التجميل للرجال والنساء وهي أشكال وفنون كثيرة كما كثرت الأدوية المنشطة وتلك المقاومة لتكلس الخلايا أوشيخوخة الخلايا وقد صار مستقراً في أذهان الكثيرين منا أن الإنسان السعيد هو دائماً شاب وأن المرأة السعيدة هي دائماً جميلة ،،
                    السعادة صارت لدى الكثيرين تكمن في التسلية والمرح والرحلات والخروج إلى المتنزهات بل إن الأمر تجاوز كل هذا إلى وجود مساعٍ مسرفة لإحداث نشوى مصنوعة في الروح عن طريق العقاقير المخدرة ، وهي كثيرة ومتنوعة وعلى من يقع في حبالها أن يزيد من تناولها حتى لا تفقد تأثيره ، وهكذا تصبح الحياة السوية ، الحياة الطبيعية لدى المدمنين حياة لا تطاق ، ويؤدي بهم ذلك في نهاية الأمر إلى تدمير حياتهم الروحية والنفسية والاجتماعية ،،،،،
                    إن السعادة التي تتطلب النشوة هي سعادة دائماً زائفة ومزورة وإن من المؤسف مرة أخرى أن الأجيال الجديدة باتت تتلقف شروط الحياة السعيدة من التربية المشوهة الموجودة في كثير من البيوت ومن حملات الدعاية والإعلان التي تصور للناس أنهم إذا لم يتحولوا إلى مستهلكين نهمين لكل شيء فإنهم سيكونون متخلفين وبعيدين عن الحضارة و تذوق ملذات المعاصرة والحدث ، ،،،،
                    وإذا عدنا إلى قرارة أنفسنا وإذا عدنا إلى ما تعلمناه من مبادئ ديننا ومن حكمة الأمم وجدنا أن السعادة الحقيقية تكمن في أمور كثيرة ذات علاقة بالقيم والمبادئ والأفكار والسمو والتضحية والعطاء غير المشروط كما وضحنا وسنوضح في موضع آخر ، ونحن لا نتجاهل قيمة كل ما يتمتع به الناس بطريقة مشروعة لكن الاعتراض على جعل الملذات أساس السعادة مع أنها لا تعدوا أن تكون أشياء تكميلية ، إن الواحد منا يدرك بوضوح الفراغ الروحي الذي يشعر به عقب انقضاء أي ملذة من ملذات الجسد وحين تكون تلك اللذة تمت عن طريق غير مشروع فإن المرء يشعر بعتمة روحية وبوخز الضمير وبشيء من احتقار الذات ،،،
                    الأمر الحادي عشر من الأمور التي تؤثر على نحو سيء في سعادة المرء ،
                    الرياء ، والحرص على رضا الناس ونيل ثناءهم ودفع ظنهم ومراعاة أذواقهم وملاحظاتهم على نحو مبالغ فيه ، شيء مطلوب في الأصل ألا نقف مواقف التهم وألا نتصرف تصرفات تجعلنا موضع نقد من الآخرين ، هذا في تصوري مبدأ مسلم به ، لكن المشكلة تكمن في الشطط في الانصياع لرغبات الناس والشطط في حب الاستحواذ على ثناءهم وتقديرهم ،،،
                    كيف يحس بكرامته واطمئنانه وسروره من يشعر أنه مهزوم أمام الآخرين ، ولذا فإنه يفعل أشياء لا يعتقدها خوفاً منهم ويخفي أشياء من أجلهم يجب في الأصل أن يظهره ، إنه يلبس لكل حالة لبوسها وله أكثر من قناع وقد بذل جهوداً مضنية طول حياته من أجل رسم صورة براقة له في أعين الناس وعليه الآن أن يبذل جهوداً أخرى فيما تبقى من عمره حتى لا تخدش تلك الصورة ، ولا يهم ما إذا كان ذلك يتطلب النفاق والرياء والكذب والمديح وكتمان الحق والسكوت على المنكر ، إن همه باختصار أن يبدو لائقاً اجتماعيا في نظر الناس ولا يأبه كثيراً لنظر الله تبارك وتعالى له ،،،،
                    صنف من هؤلاء الذين يسيطر عليهم هاجس نظرة الناس إليهم يقومون بأعمال وأنشطة اجتماعية عديدة بغية ظهورهم في شريحة أو طبقة أعلى من طبقتهم الحقيقية ، فهم يقدمون الهدايا القيمة لمن يعتقدون أنهم أرفع درجة منهم كما يقومون بزيارتهم وعرض بعض الخدمات عليهم ، هذا الصنف يشعر بآلام نفسية مبرحة غامضة وخفية ، وتلك الآلام مردها في الحقيقة لفقد الانسجام بين روحه وعقله ونفسه من جهة وبين سلوكاته ومجاملاته الاجتماعية ، كما أنها تعود أيضاً إلى النظرة الدونية التي تتكون لديهم عن أنفسهم حيث يشعرون في أعماقهم أنهم غير صادقين ولا عزيزي النفوس ولا مستقيمين ولا أقوياء بما فيه الكفاية ، إن الذين يكدرون حياتهم من أجل الآخرين أو من أجل نيل شيء لا يستحقونه وليس لهم لا تكون علاقتهم بالله جل وعلا إلا هامشية ولا تكون دعائم الإيمان في أنفسهم إلا مزعزعة ، قد قال الله تعالى في المنافقين : ( يراءون الناس ولا يذكرون الله إلى قليلا ) وهذا الصنف في حاجة ماسة إلى أن يعرف أن ما فقده بمراءاته ومجاملاته هو أكثر بكثير من كل الأشياء التي سيكسبها وبكل المقاييس ، وإن لنا في تكاليف الحياة ومتطلبات القيام بأمر الله تعالى لشغلاً عن كل شغل كما أن فيها من الجزاء ما يفوق بما لا يدع مجالاً للمقارنة ما يمكن أن يربحه من وراء لبس قناع وخلع قناع ، ،،،
                    أحد الموظفين المرموقين كان يقول لرئيسه في العمل كلما قابله : أحلامك أوامر ، أي إن ما تحلم به و تتخيله و تتمنى الحصول عليه أعده بالنسبة إلي أمراً واجب التنفيذ ، ومن كثرة تكرار ذلك فإن مديره تضايق منه وصار يقول له يا فلان لا تبالغ وما تقوله غير معقول فما يكون من صاحبنا إلا أن يقسم الأيمان أنه لا يبالغ وأنه يعني ما يقول وأنه مستعد لأن يفدي ذلك الرجل ـ أي رئيسه ـ بنفسه إذا لزم الأمر ،،
                    إننا جميعاً نعرف أشخاصاً كثيرين يكفون عن بعض أعمال الخير ويحرمون أنفسهم من ثوابها خشية أن يتهمهم بعض الناس بالرياء أو يفسروها تفسيراً خاطئا ، وهذا من علامات الحرمان وعلامات الخذلان ، إن الحضارة ولا شك تعني المزيد من الإحساس بالآخرين لكنها تعني أيضاً استقلال الشخصية والحساسية نحو الكرامة الشخصية و تنفيذ القناعات الخاصة ، ومهمتنا دائماً أن نقوم بسلوك المسلك الصحيح نحو كل ذلك ،،،،
                    الثاني عشر من المنغصات ..
                    الأنانية .. والتمحور حول الذات وتضخيم الأنا ، هذه أمراض خطيرة من أمراض عصرنا ، وهذا المرض ، وهذه الأمراض تجلب لنا الكثير من المزعجات مع أن الظاهر أن الأناني شخص يخدم ذاته ومصلحته على أفضل وجه ممكن ، لكن الأمور في الحقيقة أعقد من أن تفهم على هذا النحو ، ،،
                    إن كثيراً من مباهج الروح ومسرات الخاطر يأتي من وراء تفكير الإنسان في مسائل غير شخصية ، أي من وراء تفكيره في مسائل لا يعود عليه منها نفع خاص ومباشر ، وعلى سبيل المثال فإن مورداً من أعظم موارد السعادة يتمثل فيما تجلبه لنا الحياة الاجتماعية من أمنٍ وسرور ولا تستقيم هذه الحياة إلا بالبذل والعطاء المجاني ، سواء على مستوى الأسرة أو على مستوى الجوار أو على مستوى الأصدقاء والزملاء أو على مستوى العام ، فقد مضت سنة الله تعالى في اجتماع الناس أن يكون ما يعود على حياتهم المعنوية من تدعيم وتقوية مكافئاً لما يبذلونه من مال ومن وقت وجهد وعطاء غير مشروط على الصعيد المادي ،،
                    ولك أن تتصور معي صداقة من غير تبادل لأي شيء مادي أو منزلاً يتقاضا فيه الزوج من زوجته أجرته أو ثمن الطعام الذي تأكله وتتقاضا المرأة من زوجها ثمن خدمة أولاده وت ربيتهم وتنظيف البيت وطهي الطعام ، ولك أن تتصور حينئذٍ النزاع اليومي والحساب المصلحي و الأناني الذي يتم في كل الأوقات ، لاشك أن الحياة آنذاك ستكون مرهقة غاية الإرهاق ،،،
                    شعار الأنانيين " أنا ومن بعدي الطوفان " وتحقيق هذا الشعار على الوجه الأكمل يقتضي رذيلتين " الشح " بكل ما يحمله من معاني الأثرة والإمساك و " الجشع " بكل ما يحمله من معاني الشعور بالحاجة والرغبة في الاستحواذ على ما في أيدي الآخرين ،،،
                    البخل حين يحل في نفس إنسان يجعل تلك النفس أم تعاسته ومصدر شقاءه ، فالبخيل المقتر مهما ملك يكون في حالة أشد من حالة الفقير ، إن الفقير يفتقد بعضاً أو كثيراً من الأشياء لكن الشحيح الأناني يفقد كل شيء وتملأ قلبه الحسرات بسبب عدم امتلاكه الإرادة التي يحتاجها للإنفاق على ما يشتهيه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم )
                    أما الجشع وحب الاستئثار الذي يصاب به الشخص الأناني فإنه يشكل جذراً مفزعاً من جذور الرذيلة ، والإنسان الجشع يسلك مسالك يتنزه عنها الحيوان بالغريزة التي وضعها الله تعالى فيه ، قد صور ذلك أحد الشعراء حين قال :
                    الذئب يترك شيئاً من فريسته ** للجائعين من الذئبان إن شبع
                    والمرء وهو يداوي البطن من بشمه ** يسعى ليسلب طاوي البطن ما جمع

                    الذئب حين يشبع لا يدخر وإنما يترك باقي ما افترسه يترك باقي الفريسة للذئاب الجائعة حتى تأكل منها ، أما الإنسان الجشع فإنه وهو يداوي بطنه من التخمة وإنه وهو حائر في التصرف في الأشياء الهائلة التي يملكها إنه في هذه الحالة يسعى ليسلب طاوي البطن ما جمع يسعى للانقضاض على الأشياء القليلة جداً التي يملكها الفقراء المعدمون ،،
                    الطمع حين يتحكم بإنسان يحول نبله ومروءته وذكائه إلى شيء يشبه البلاهة فالإنسان الطماع الجشع يتصرف تصرفات لا يتصرفها من رزق أي قدر من العقل والحكمة والكياسة ،،
                    يقول أحد الكرماء : وهبني أحدهم نعجة فأهديت إليه ناقة ثم أهداني نعجتين فبعث إليه بناقتين وبعد ذلك جاء إلى حظيرتي ـ إلى الزريبة أو الإسطبل الذي فيه نياق هذا الرجل الكريم ـ جاء وأخذ يعد النوق التي فيها طبعاً ليهدي له بعددها غنماً ويسوقها ، وصدها صاحبنا صفقات رابحة ، قطعاً إن ذلك الكريم وجد أنه إذا لم يكن للجشع أي حدود فلابد من أن يضع لكرمه بعض الحدود ، ،،
                    يحب الناس الشهيد لأنه يشكل في نظرهم النموذج الأرقى والأعظم للعطاء والبذل كما قال : والجود بالنفس أقصى غاية الجود ،،،
                    ويكره الناس الشحيح والأناني و يستخفون به وينبذونه لأنه في نظرهم في درجة أقل من درجة إنسان ، وهكذا فالمرء الذي يتمحور حول ذاته يواجه صراعاً مراً في الداخل على الصعيد النفسي والروحي ويواجه صراعاً في الخارج على الصعيد الاجتماعي ، وهو الخاسر المهزوم في كلا الصراعين ،،،،
                    الثالث عشر :من المنغصات
                    اليأس والتشاؤم ، ورؤية الجانب السلبي من الأشياء و والشعور بانسداد الآفاق وانقطاع الحيلة ، هذه الأشياء مصادر في تصوري لإفساد الحياة الطيبة ،مصادر لانحطاط الشخصية وفقدان إمكانية التطلع إلى ما هو أحسن و أقوى ، لقد كان عليه الصلاة والسلام ( يعجبه الفأل ويكره التشاؤم ) ،،
                    حين يسافر الإنسان في طلب علم أوفي تجارة أو قضاء مصلحة فإن هناك احتمالاً لأن يتعرض لحادث وأن يسطوا عليه اللصوص أو يتعرض لخديعة أو ضياع ، وهناك احتمال أن يمرض ولا يجد من يمرضه ويساعده وهناك وهناك .. ، لكن إلى جانب هذه الاحتمالات السيئة هناك احتمال أكبر لتحقيق الهدف من السفر والفوز به وهناك احتمال أن يتحقق أكثر مما كان مرجواً ومتوقعا ، المتشائم يرى الاحتمالات السيئة فقط والمتفائل يرى الاحتمالات المشرقة كل منهما يرى نصف ما يمكن أن يقع ، ولهذا فإننا مع التفاؤل ينبغي ألا ننسى احتمال وقوع غير المرغوب فيه ،،
                    المتشائم يحمل نفسه بفعل اتجاهه السوداوي متاعب جمة هي أشد وقعاً على أعصابه من المصائب و الملمات التي يمكن أن تقع وحين يقوم المتشائم بالعمل فإنه يبذل اقل الجهد لأنه يفتقد الحماسة للجد والنشاط ،،
                    والخلاصة أن المتشائم يعيش في نكدٍ دائم لأنه بين أمرين سيئين مكروه يصيبه ومكروه يتوقعه حتى في الوقت الذي ينال فيه الخير والفلاح يتذكر ما يمكن أن يأتي بعد هذا الخير من سوء ومن شر ونكبات ، ،،،
                    إن من أشد ما يعانيه الإنسان و يكابده هو أن يموت بداخله شيء وهو ما زال حيا وذلك الشيء هو الأمل والرجاء بتحسن الأحوال ، ولذا قالوا: إن أفقر الناس من ليس له أمل يحفزه على العمل ، ،،،
                    تبدوا الحياة في نظر المتشائم أضيق من عين الإبرة أو سم الخياط بالتعبير القرآني ، ولذا فإنه يشعر إذا أصابته أزمة أو شدة أنها ستقضي عليه حيث لا فرار ولا خيار ولا تراجع أمامه ، وهذا كما يعلمنا القرآن وكما تعلمنا الخبرة والتجربة ليس بصحيح إطلاقاً إذ ما من بلاء إلا يمكن التخفيف منه وما من أزمة إلا يمكن كسر شيء من حدتها وما من داء إلا له شكل من الدواء قد لا يقضي عليه لكن قد يجعل التعايش معه ممكنا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله ) ويبشرنا الله جل وعلا ببشارة عظيمة تنطوي على لفتة عجيبة في سخاءها وفي عطائها وقدرتها على تفريج الكروب يقول سبحانه : ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) اليسر موجود في نفس اللحظة التي نرى فيها العسر لكننا بحكم تربيتنا وبحكم قصورنا الثقافي نرى العسر وحده دون اليسر ونرى الأبواب المغلقة دون الأبواب المفتوحة ،،،
                    فيا أيها المتشائمون تجاوبوا مع هدي القرآن وبشائره الكثيرة لأنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين بالنصر والتمكين والعزة في الدنيا والآخرة وبالسعادة الأبدية في الآخرة ،،
                    إذا أردنا أن نبحث عن مصادر للسعادة والطمأنينة فإننا سنجد الكثير الكثير هذا عمر رضي الله تعالى عنه يعلمنا كيف نستنبط دواعي الحمد والشكر والاغتباط من قلب المصيبة .............


                    انتهى الشريط الثالث

                    تعليق

                    • صديقة الزهور
                      زهرة الحوار
                      • Oct 2003
                      • 4755

                      #11
                      سم الله الرحمن الرحيم

                      الشريط الرابع ....

                      إذا أردنا أن نبحث عن مصادر للسعادة والطمأنينة فإننا سنجد الكثير الكثير ،
                      هذا عمر رضي الله عن يعلمنا كيف نستنبط دواعي الحمد والشكر والاغتباط من قلب المصيبة ، فقد أثر عنه أنه قال : " ما أصابتني مصيبة إلا حمدت الله فيها على ثلاثة أمور ــ ما هذه الأمور الثلاثة ـ قال :
                      أن لم تكن في ديني ـ لم تكن معصية أو لم تكن شيئاً يجر المعصية ــ
                      وأن كانت هكذا ولم تكن أكبر ـ كانت هذه المصيبة بهذا الحجم ولم تكن أكبر مما حصل ـ
                      وحمدته على الثواب الذي أرجوه من ورائها "
                      إن الأحزان تحفزنا على العمل والصعود إلى المرتفعات ، وبمقدار ما تكون أحزاننا عميقة بمقدار ما يكون لها الأثر في تغيير أوضاعنا وتحسين أحوالنا بشرط أن نتقبلها بتفهم ووعي و أن نعرف كيف نستخدمها في التقدم والارتقاء ..

                      الرابع عشر من المنغصات ..
                      كثيرا ما يكون مصدر شقاء الإنسان عقله وليس قلبه ، فالعقل الذي يتبع طريقة متصلبة في التفكير يسبب لصاحبه الكثير من العناء لأنه يري صاحبه العالم على غير ما هو عليه ، وتختلط عليه الأهواء والرؤى ، وتصبح ممارسة الاضطهاد ضد المخالفين أمراً مشروعاً وعادلاً وعاديا ، وإذا صار صاحب العقل المتصلب صاحب سلطة فإنه يمارس الطغيان في أبشع صوره وهذا كله يحرم صاحب العقل المتصلب من نعمة التبادل مع الآخرين ونعمة تجديد الرؤى والأفكار وكشف العطب في بعض جوانب ثقافته ، وعلينا أن نعترف في البداية أن لدى كل واحدٍ منا درجةً ما من التصلب الفكري ، فنحن لا نستطيع بصورة دائمة وضع الحواجز ولا أن نفرق بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في الجزم بالعقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى وكل ما هو موضع إجماع وبين التصلب الذهني المذموم الذي يتجلى في النقص في المرونة الذهنية ويتجلى في التمسك بأمور خلافية اجتهادية على أنها أمور قطعية لا يصح الاختلاف فيها ، ونحن في الحقيقة كثيراً ما نتأذى ونؤذي غيرنا من خلال التعبيرات القاطعة التي نستخدمها غير مبالين بمشاعر الذين يستمعون إلينا ،،،،
                      ومن ذلك مثلاً ما نسمعه من قول كثير من الناس : أنا لا أقول هذا أبدا ، يقول له واحد قلتَ كذا ، فيقول : أنا لا أقول هذا أبدا ، وبعضهم يقول لك : كلامك لا يمكن قبوله ـ ويكون كلامي موضع نقاش ـ ويقول عن آخر : فلان داما يكذب ، مع أنه ليس هناك شخص يكذب في كل كلامه ، لا بر ولا فاجر ، لا مسلم ولا غير مسلم ، هناك من يقول لك : كل جاهل سيء ، مع أن هناك بعض الجهلة الذين لديهم أصالة في الشخصية أو بعض الأصالة في الشخصية أفضل بكثير من بعض المتعلمين ، وهناك من يقول لك : من قال إن أمة الإسلام فقيرة ـ أقنعه بعض الكتاب غير الموضوعيين بأن أمة الإسلام تملك ثروات هائلة فجعل يقول هذه المقولة بدون النظر إلى الواقع وتبدل رأس المال وانتقاله من الثروات إلى ما تملكه الأمم من أفكار ومفاهيم ونظم وأطر للعمل والإنجاز والتقنية ، هذا كله تحول وجعل القول إن أمة الإسلام غنية أو من أغنى الأمم كلام يحتاج إلى مراجعة ويحتاج إلى نظر ،،،
                      الكثير من القطيعة الاجتماعية والثقافية والكثير من أسباب ضمور الحوار وركود حركة الجدل والنقاش يعود إلى مشكلة التصلب الذهني حيث يشعر الناس بعدم الفائدة من مجالسة فلان أو محاورته أو محاولة حل بعض المشكلات معه ، وتكون النتيجة أن يشعر المصابون بهذه الآفة بالعزلة الاجتماعية والثقافية والتي تسبب لهم آلاماً نفسية شديدة و تشعرهم بأنهم مظلومون مضطهدون مع أنهم في الحقيقة هم الذين بدأوا باضطهاد غيرهم حين سفهوا أقوالهم وآرائهم وحين حرموهم من أي فرصة لإثبات صحة ما يذهبون إليه ،،،
                      يغلب على صاحب التصلب الذهني سوء الظن بالآخرين وضيق الأفق والشعور بأن الآخرين يتآمرون عليه أو على أمته ولذا فإنه يفسر معظم الأحداث السيئة التي تقع له على أنها بسبب مكائد حاكها الخصوم والمنافسون والأعداء ، ونتيجة لهذا فإنه كثيرا ما يشعر أنه مقهور وأنه مغلوب على أمره ، وهذا كله يجعل خاطره مكدرا ويجعل روح الانتقام لديه الروح العدوانية تكون هذه الروح لديه في حالة من التوثب والجاهزية ، ربما كان التعليم القائم على التلقين والحفظ والشرح المذهبي الضيق من جملة الأسباب التي تكون العقلية المتصلبة ، ولهذا فإنني أعتقد أننا في حاجة ماسة إلى إثراء الدراسات المقارنة في كل العلوم الإنسانية والاجتماعية وتعزيز الحوار والنقد العلمي والثقافي والاجتماعي في إطار الآداب الإسلامية المرعية ، ،،،،
                      إن للعقل في إسعاد الناس وإشقائهم دوراً هو في العادة أكبر مما يتم الاعتراف به ، وقد آن الأوان لإعادة فحص كل الأفكار وكل المفاهيم التي تجعل حياتنا مضطربة وقلقة وبائسة ، ،،،
                      وهناك أيها الإخوة ، أيتها الأخوات العديد من الأشياء التي تعكر صفو الحياة أعرضنا عن الحديث عنها حتى لا نتجاوز المساحة المحددة في هذا العمل وذلك من نحو " الحقد ، والكراهية ، والغضب ، والاكتئاب ، والاعتماد الزائد على الآخرين ، و الشعور المبالغ فيه بالذنب ، والنقص في احترام الذات ، وإدمان الهروب من الحقيقة ، وما شاكل ذلك من قضايا وموضوعات " لكن آمل أن يكون فيما قدمناه ما يكفي لإدراك المنغصات الأساسية للحياة الطيبة ، والله مولانا ونعم المولى ونعم الوكيل ،،،،،
                      أما الآن فسأتحدث بحول الله وطَوْله عن الأمور والشروط والمقومات والأسباب التي تجعل حياتنا ثرية بالهناء والسرور والأمن والسعادة بإذن الله تعالى ، ،،،

                      وما سنذكره ننطلق فيه كما انطلقنا في منغصات السعادة من أفق عقيدتنا الإسلامية ومن أفق ما تراكم لدى البشرية من خبرات وما خبرته في حياتي الخاصة وحياتي الشخصية ، وكما أن وزن كل منغص في إفساد الحياة الطيبة يتفاوت بين شخص وآخر ، كذلك ما يجلب الهناء يختلف تأثير كل عنصرٌ من عناصره باختلاف الناس واختلاف أوضاعهم وأحوالهم واختلاف تطلعاتهم وأمزجتهم ولهذا فإن ما يعده أحد الناس شيئاً مهماً لراحته وسعادته ينظر إليه آخرون على أنه شيء ثانوي أو أحياناً شيء تافه ، ولكن بوصفنا مسلمين فإن المتوقع أن نعطي انتباهاً واهتماماً خاصاً للمسائل والقضايا التي تتصل بعقيدتنا ومبادئنا و تتصل بنظرتنا العامة للحياة ، لأن روح التدين التي تتغلغل في أعماق كل مسلم تجعل حياتنا قلقة وقاتمة كلما جرحنا صفاء التوحيد أو خرجنا عن مقتضيات الإيمان بالله تعالى ،،،،
                      إن الأمور التي تثري حياتنا بالهناء كثيرة في الحقيقة ولا يمكن استعرضها جميعاً فلنعرض إذا إلى أهما باختصار من خلال المفردات الآتية :ــ
                      أولاً :
                      الإيمان ، ،،
                      وهو المحور الذي يدور حوله عدد من الأمور المؤثرة سعادة المؤمن ، ولما لا والإيمان هو الذي يصوغ وجودنا المعنوي ، وهو دليلنا إلى عالم الغيب وهو إلى جانب ذلك الأساس الذي يرتكز إليه الرضا بالقضاء والقدر ويرتكز عليه أيضا الصبر على البلاء وهو أيضاً الأساس الذي نبني عليه تقييمنا للأشياء وتصنيفنا للحوادث والمواقف التي نشاهدها والتي تعرض لنا ، ،،،
                      ليس المقصود بالإيمان هنا مجرد التصديق بوجود الله تعالى ، ولا بمجرد الإقرار بأن لله تعالى علينا حقوقاً ، إنه يتجاوز ذلك إلى نوع من الشعور الخاص بالله تعالى ، ونوع من ميل القلب إليه سبحانه ، والأنس به ، والاطمئنان بذكره ، والحياء منه ، والهيبة له ، وهذا الإيمان الخاص وهو ما يسميه بعضهم بالمعرفة وهي التي يتحدث عنها الخواص من الصالحين والمتقين ولا ريب أن ذلك ينبغي أن يكون دائما في إطار المشروع وفي إطار المسنون وفي الإطار العقدي و إلا انقلب إلى بلاء ، المعرفة التي تحدث عنها بعض الصالحين هي عبارة عن إحساس قوي بمعية الله سبحانه وتعالى ، وقربه ، وإطلاعه على عبده وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النوع الراقي من الإيمان اسم ط " الإحسان " وذلك كما تعرفون حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال : ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وقال سبحانه : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) وقال جل وعلا : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ) والآيات والأحاديث التي تدل على قرب الله جل وعلا من عباده عديدة ، وهي جميعاً تستحث المسلم على أن يشعر بهذا القرب ليشكل هذا الشعور مصدراً للأنس والطمأنينة والقوة وليتخذ منه حافزاً على العمل وعلى الاستقامة ويتخذ منه رادعاً عن الخطايا والرذائل ، وهذا ما نلحظه في سير كثيرٍ من رجالات الإسلام السابقين والمعاصرين ،،،،
                      يقول أحدهم : دخلت على محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه انقبض ـ أي ظهرت عليه علامات الانزعاج وعدم الرضا ـ فقلت : كأنك تكره أن يأتي إليك الناس ـ تكره أن يزورك الناس ـ قال أجل ، قلت : أوما تستوحش ، قال : كيف أستوحش وهو يقول ـ أي الله جل وعلا ـ في الحديث القدسي : ( أنا جليس من ذكرني ) كيف رجل يذكر الله جل وعلا ويشعر أن الله جليسه ثم يستوحش ، هذا لا يكون ، ،،،
                      وكان حبيب أبو محمد يخلوا في بيته ويقول : " من لم تقرّ عينه بك فلا قرّت عينه ، ومن لم يأنس بك فلا أنس " قال معروف العابد المشهور لرجل : " توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك وحتى ترفع إليه حاجتك "
                      " لذة المناجاة والشعور بمعية الله " هذان الأمران هما جوهر التيار الروحي الذي يجب أن ننشئه اليوم لمواجهة التيار المادي الهائل ، التيار الشهواني الذي جعل الناس ينتشرون في كل اتجاه بحثاً عن المتع والملذات لكن للأسف في كل مرة يشعرون بخيبة الأمل ، كما هو شأن شارب ماء البحر كلما ازدادا شربا ازداد ظمأ وعطشا ، الإيمان الحي الفاعل يدفع المسلم إلى الاعتماد على الله تعالى ، الاعتماد الصادق والأكيد والقطعي والقوي في استجلاب المصالح ودفع المضار في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة ، حيث يسود المسلم شعور قوي بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سوى الله سبحانه وتعالى ، وقد شرع للمسلم أن يردد كل يوم : { اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت } هذا هو التوكل ، إن المسلم يبذل جهده إلى الوصول إلى النتائج المرغوبة وهو يخطط في سبيل ذلك و يبرمج و يأخذ بكل الأسباب المتاحة ، لكن يعمل كل ذلك وهو في نفس الوقت يؤمن أن النتائج النهائية بيد الله تعالى ، وحين يقضي الله جل وعلا أمراً على خلاف ما يسعى إليه وخلاف ما يرغب فيه فإنه يسلم الأمر إلى الله تعالى و يرضى به تمام الرضا ، ويعتقد أن نوعاً من الخير ونوعاً من النفع يكمن فيما قضاه الله تعالى وقدره ، يقول جلّ وعلا : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ويقول ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكلم ) ويقول : ( فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا ) ،،،،
                      التوكل الصحيح يصحبه أخذ بالأسباب ويعقبه رضا عميق بالنتائج ، ما يقضيه الله جلّ وعلا نافذ ، ومن توفيق الله للإنسان أن يرضى بذلك ، وقد ورد في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط ) وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : ( اللم إني أسألك الرضا بعد القضا ) وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول : " إن الله بقسطه وعدله جعل الفرج في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " وكان الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول : " أصبحتُ وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر " يعني استسلمت إرادته لإرادة الله تبارك وتعالى استسلام المسرور بشيء لشيء يحبه ، نوع راقي من الخضوع للمشيئة الإلهية ونوع راقي من الرضا السار المبهج لما أراده الله تعالى ، ،،،
                      الحقيقة أيها الإخوان يعني في تصوري لا معنى لتحرير الإرادة من سلطان الأشياء إذا لم نخضعها بعد ذلك إلى سلطان الله أو إلى إرادة الله تبارك وتعالى ، ،،
                      " التوكل والرضا بما قسمه الله تعالى " يشكلان أفضل واقٍ وأفضل عازل للمسلم عن الإرهاق العصبي الذي يصيب الناس بسبب معاكسة الظروف لهم وبسبب عدم تحقق رغباتهم وتحقق طموحاتهم ، ،،
                      فد تجاوز الأمر في الحقيقة عند بعض الصالحين مسألة التأثر بالمحن إلى الانشغال بالثواب الذي أعده الله تعالى للصابرين والثواب الذي أعده لأهل البلاء وأهل المصائب وهؤلاء ـ يعني بموضوعية ـ في الأمة ليسوا كثيرين ، لكنهم يقدمون النموذج ويدللون على ما يمكن أن يفعله صدق الإيمان وصدق اليقين بالله تعالى ،،،
                      قد كان سعد بن وقاص رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل معروفاً بين الناس بأنه مستجاب الدعوة ، وكان قد كف بصره ، كان الناس يأتون إليه يطلبون منه الدعاء و يشعرون بالإجابة ، فقال له أحدهم : يا عم ، إنك تدعوا للناس فلو دعوت لنفسك فردّ الله عليك بصرك ، ماذا كان جواب سعد ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : يا بني ، قضاء الله عندي أحسن من بصري ، " يعني أن أوافق إرادة الله جلّ وعلا وأرضا بذلك وأنتظر المثوبة عليه هذا خير لي من نعمة البصر إذا ردت إلي ،،،
                      وأي مسلم يسمع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم ردّ عليه أهل الطائف شر رد وأساءوا إليه أيما إساءة أي مسلم يسمع دعائه ثم لا يحس بالرضا العميق يجتاح كل كيانه ويغمره فيقتبس من ذلك الدعاء العزيمة التي لا تلين والصبر الذي لا ينفذ ، قال صلى الله عليه وسلم في دعائه ذا ( اللهم أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ! أم إلى عدوٍ ملكته أمري ! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لكَ العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ) ،،،
                      كانت الروح حرة طليقة ، وحين واجهها الجسد بحاجاته التي لا تنقضي من الطعام والشراب واللباس والمسكن والانتقال وغير ذلك حين واجها بكل ذلك حولها إلى سجين وأسير ، ولهذا فإنها تحتاج إلى تحرير حقيقي ولاسيما في هذا الزمان حيث أخذت حاجات الجسد في الازدياد ، ففي كل يوم أشياء جديدة ، يشعر الناس بنوع من العوز والافتقار إن لم يمتلكوها ويتمتعوا بها ، وفي كل يوم تتحول أشياء كنا يوماً ما نعده كمالية تتحول لأن تصبح في نظرنا ضرورية ، ولهذا فإننا في حاجة إلى ثورة أو انتفاضة روحية في وجه الخنوع للمطالب المادية المتزايدة كما يفعل العظماء الحقيقيون في كل الأمم ،،،

                      روى الطبري في تاريخه أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أمر ـ وهو أمير على المؤمنين ـ أمر رجلاً أن يشتري له كساءً بثمانية دراهم ، فاشتراه له وأتاه به ، فوضع عمر يده عليه وقال : ما ألينه وأحسنه ، فتبسم الرجل الذي أحضر الكساء ، فسأله عمر : لما ذا تبسمت ؟ قال الرجل : لأنك يا أمير المؤمنين أمرتني قبل أن تصل إليك الخلافة أن أشتريَ لك مِطْرفَ خز ـ عبارة عن كساء فيه صوف وحرير ـ فاشتريته له لك بألف درهم ، فوضعت يدك عليه وقلت : ما أخشنه ، وأنت اليوم تستلين ـ أي تحكم بالليونة ـ أنت اليوم تستلين كساءً بثمانية دراهم ؟!! فقال عمر ـ رحمه الله تعالى ـ : ما أحسب رجلاً يبتاع كساءً بألف درهم يخاف الله ، ثم قال يا هذا : إن لي نفساً تواقةً إلى المعالي ، ما نالت شيئاً إلا تاقت لما بعده ، ونفسي اليوم تتوق إلى الجنة ،،،،
                      الإنسان الملحد اليوم والإنسان المسلم المستغرق في المعصية إلى حدٍ ما يعانيان من أزمةٍ صامته تطحنهما طحنا دون أن يشعر بهما أحد ،، الملحد يخاف من الأمراض القاتلة ، يخاف من عناء الشيخوخة ، ويخاف أكثر وأكثر مما بعد الموت حيث ليس لديه أي إيمان يمنحه أي يقين فيما ستؤول إليه أحواله بعد الموت ، وقد صور أحد الفلاسفة الغربيين هذه الوضعية تصويراً دقيقاً حين قال : إن فرح الشباب ونشاطه يرجعان من ناحية إلى أن الموت يكون خافياً عنا حينما نكون صاعدين إلى أكمة الحياة لأنه يكمن هناك في أسفل الجانب الآخر فإذا دنونا من ختام الحياة فإن كل يوم نحياه ـ وأرجوا أن تضعوا تحت ما سيقوله الآن أكثر من خط ـ يقول فإن كل يوم نحياه يبعث فينا نفس الإحساس الذي يحسه المجرم في كل خطوة يخطوها إلى المقصلة أو المشنقة ولكي يعلم الإنسان أن الحياة قصيرة لابد له أن يعيش طويلا ـ وهذه حكمة بالغة ـ لن نتأكد من أن الحياة التي نحياها هي قصيرة أكثر مما نظن حتى نعيش طويلا ، لأن الأمور لا تظهر على حقيقتها إلا بعد أن تنتهي ،،،،،
                      يقول ذلك الفيلسوف أيضاً : إلى عامنا السادس والثلاثين نكون من حيث طريقة بذلنا لنشاطنا الحيوي أشبه بالذين يعيشون على أرباح أموالهم ، يأخذون في الغد ما ينفقونه اليوم ، جسم شاب يتجدد ويكتسب نشاطه ومعالم العنفوان والحيوية بادئة ، ولكن موقفنا بعد هذه السن يمكن أن يكون كموقف صاحب المال الذي يبدأ في الإنفاق من رأس ماله ، وإن فزع الإنسان من هذه الكارثة هو الذي يجعل حبه للامتلاك يزداد كلما تقدم به السن ، هذا فيلسوف من كبار فلاسفة الغرب يصور لنا حال الإنسان عند تقدم السن به ، هذه تمثل رؤيا للإلحاد رؤيا للكفر رؤيا للبعد عن إدراك الهدف الأسمى من وجودنا على هذه الأرض ، ،،،
                      لنستمع الآن إلى المظلة الروحية الآمنة التي يوفرها الإيمان الحي الفاعل ، يقول سبحانه : (( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون *لا يحزنهم الفزع الأكبر و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )) هذا هو يوم النعيم ، هذا هو يوم العطاء غير المحدود ، هذا يوم التمنيات ، تمنى لتجد ما تتمناه يبن يديك ،،،
                      كان أحد أساتذتي ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ يقول معبراً عن منطق الإيمان في هذه القضية المصيرية ـ قضية ما بعد الموت ـ يقول : إن المسلم إذا أدى ما فترضه الله عليه وانتهى عما نهاه عنه لم يكن بينه وبين أن يدخل الجنة إلا أن يموت ، انظر كيف جعل استمرار العيش واستمرار الحياة في هذه الدنيا حاجزا بين المسلم وبين دخول الجنة ، قارن هذا مع ما ذكرناه عن ذلك الفيلسوف لترى أن لدينا حقيقتين ورؤيتين متضادتين ، ،،،
                      كان لي صديق ـ رحمه الله ـ وكان باحثاً في العلوم الشرعية ، أصيب بالسرطان وعانا منه مدةً تزيد على سنة أو سنة ونصف ، وكان يتردد على الولايات المتحدة من أجل متابعة العلاج ، وحين وصل الطبيب الأمريكي الذي كان يشرف على علاجه إلى طريق مسدود ، وانقطع لديه الأمل والرجاء من الشفاء ، وجد في نفسه نوعاً من الحرج من أن يخبره بأنه لا فائدة ترتجى من وراء المزيد من إنفاق المال وأخذ الأدوية والعناء والسفر والعودة إلى آخره ، وقد لمح صاحبنا ـ رحمه الله تعالى ـ ذلك في وجه الطبيب ، فقال له : قل ما عندك ولا داعي للحرج فنحن المسلمين تبدأ حياتنا الحقيقية بعد الموت ـ طبعاً استغرب الطبيب غاية الاستغراب هذا المنطق ـ رجل مشرف على الوفاة ويخبر الطبيب بأن هذه الحياة التي نحن فيها هي حياة صورية أقرب إلى أن تكون زائفة ، وأنه مقبل على الحياة الحقيقية ، هكذا تكون الحياة بالإيمان ، عبارة عن فترة زاهية و منعشة ومرطبة باليقين ونهايتها انتظار لموعود الله جل وعلا وفضله وثوابه لعباد الصالحين ،،،
                      الأثر الأخير من الآثار المهمة للإيمان الذي أريد أن أشير إليه هنا : هو الإخلاص ، حيث التوجه الكامل والتام بالأعمال الصالحة إلى الله تعالى ، دون مراعاة أحد ، أو انتظار الجزاء من بشر ، الإخلاص يبني علاقة خاصة بين العبد وبين ربه جل وعلا ، وتلك العلاقة كما تجعل الإنسان المسلم في موقف النزاهة والبعد عن الأغراض الخاصة والمكاسب والمنافع المادية والشخصية تضعه في موقف الواثق بجزاء الله له في الدنيا والآخرة ، ولذا فإن المخلص ما دام لم يقصد بعمله غير الله تعالى فإنه لا يرجوا من أحدٍ سواه أي معروف ، إن الإخلاص صورة راقية من النبل ، وصورة راقية من السمو الإنساني ،،،
                      ويذكرون في هذا السياق أن جيشاً مسلماً حاصر مدينة ذات سور منيع شهوراً طويلة وفي ليلة جاء إلى القائد أحد الجنود قائلاً : لقد نقبت في السور نقبا يمكننا أن ندخل منه إلى داخل المدينة ونفتح باب السور ، فأرسل معي من يدخل النقب ، فإذا فتحنا الباب فأدخل الجيش ، فأرسل معه رجالاً ، دخلوا من النقب ، وفتحوا الباب ، واستولوا على المدينة ليلاً ، وأرسل قائد الجيش من يبحث عن صاحب النقب حتى يجزيه على عمله ، فبحثوا وسألوا فلم يجبهم أحد ولم يقل أحد إنه فعل ذلك ، وفي اليوم الثاني واليوم الثالث نادى المنادي ينشد صاحب النقب ، لكن دون جدوى ، في اليوم الرابع جاء جندي إلى القائد يقول له : أنا أدلك على صاحب النقب ، فقال : أين هو ؟ قال الجندي : شرط علي ثلاثة شروط ليدلك على نفسه ! قال القائد : وافقت على الشروط فما هي ؟ قال : يشترط ألا تكافئه على عمله ، وألا تدل أحداً عليه ، وألا تطلبه لمقابلتك مرة ثانية ، هذه هي شروط هذا الرجل ـ لا يريد مكافئة ، لا يريد أن يدل القائد أحداً عليه ، لا يريد أن يصبح معروفاً بين الناس ، يريد هذا العمل أن يبقى بينه وبين الله جل وعلا والطلب الثالث أو الشرط الثالث قال : لا تتطلبه لمقابلتك مرة ثانية يعني هو لا يريد بهذا العمل أن يصبح من حاشية القائد ، لا يريد أن ترتقي مرتبته في الجيش لأنه قام بما قام به ، قال القائد : وافقت على ذلك ، قال الجندي : أنا صحاب النقب ـ هذا الرجل الذي ينقل له الشروط هو نفسه صاحب النقب ـ نقبته ابتغاء مرضاة الله ، ثم ذهب الجندي وقد دهش القائد ، لكن ما لذي جرى بعد ذلك ، كان ذلك القائد كلما صلى دعا الله سبحانه وتعالى أن يجعله في الجنة مع صاحب النقب ، قارن أخي الكريم ، أختي الكريمة ، لنقارن هذا المشهد من الطمأنينة والثقة بما عند الله تعالى ورجاء ثوابه ، لنقارن هذا مع مشهد شخص آخر أنجز إنجازاً ما فهو يبحث عن جائزة أو وسام ثم يقام له حفل تكريم يقلد فيه الأوسمة ويمطر بعبارات المديح والثناء ، أو يبحث عمن ينشر له دعاية في الصحف أو يكتب عنه مقالاً أو يجري معه مقابلة ، قارن لترى الفرق بين المواقف التي يصنعها الإخلاص وبين المواقف التي تصنعها المصلحة ، إنه مشتهى للنفوس أن يشتهر الإنسان لكن ذلك المشتهى متصل بالشهرة الزائفة وبشيء من الرياء ، إنه نشوة لكنها سريعة ولذة عابرة أما أحوال المخلصين فإنها حالات من الانشراح والضياء والوضوح الدائم والمتجدد ،،
                      ثانياً : من موارد السعادة

                      الاعتدال والتوسط ،،،
                      الاعتدال والتوسط يشكلان عصارة من عصائر الحكمة المهمة في عصرنا ، وهما موردان من موارد الحياة الطيبة والسعادة والاطمئنان ، وإنما أقول هذا لأن كل فضيلة تضل محفوفة برذيلتين ، " رذيلة التفريط والتقصير و رذيلة الإفراط والإسراف "
                      إن طاقاتنا محدودة وأوقاتنا وأعمارنا وقدراتنا على الاهتمام والتركيز هي الأخرى أيضاً محدودة ، وإن اهتمامنا بأي فضيلة من الفضائل على نحو مسرف يخل بتوازننا العام لأنه يفوت علينا الاهتمام بفضائل أخرى و يصرفنا عن الاهتمام بأداء بعض الواجبات الأخرى ، وهكذا نتيجة عدم لزوم الاعتدال والتوسط تنقلب الإيجابيات إلى سلبيات و تنقلب النجاحات إلى هزائم ، وإن مما يلفت الانتباه اليوم أن الناس كلما تقدموا في سلم الحضارة وفي سلم المدنية نسوا الحاضر من أجل المستقبل ، وعندما يخيب المستقبل آمالهم يدركون أنهم لم يعيشوا أبدا ، ولذا فإننا لا نعثر حولنا ولا أمامنا إلا على أناس سقطوا في الطريق وهم مخدوعون في الغالب ، وعليهم علامات البؤس والنكد والخيبة ، شيء مؤسف أن تجد نفسك بلا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل ، ولهذا فإن الحكمة تقتضي أن نلزم الاعتدال في التعامل مع كل الأزمنة وكل الوعود وكل الأشياء وكل الآمال وكل المعطيات حتى لا نسقط في الطريق على أمل أن نصل إلى شيء ما ، تنتهي الأعمار ولا نصل ، لكن نشعر أننا أضعنا الكثير الكثير ، كثيراً ما نرى أشخاصا مغرقين في التفاؤل ، ونرى آخرين غارقين في التشاؤم ، الكل يتحدث عن أمور مدهشة واستثنائية ستقع ، المتفائل ينتظرها بفارغ الصبر فيضيع اللحظة الحاضرة من يده ، والمتشائم يخاف من القادم فيشل الخوف قدرته على العمل والتفكير والاستفادة من الحاضر ، ثم يدرك كل واحد منهما المتشائم والمتفائل أن حركة الحياة خاضعة لأقدار الله تعالى وليس لأمنيات المتفائلين ومخاوف المتشائمين ، التطرف موجود في التركيب العقلي لمعظم البشر وهو أيضاً موجود في الموروث الثقافي عند جميع الأمم ، بل أنا أحياناً أقول ربما كان الغلو والتطرف في الميل إلى الأشياء وإهمال أشياء أخرى جزءً من التراث ليس الثقافي للبشرية وإنما من التراث الجيني للبشرية ، يعني كأنه شيء يتوارثه الأبناء عن الآباء فسيولوجيا وليس تربوياً ، ،،،
                      واجبنا دائماً أن نقاوم القرارات والعادات والسلوكات و المواقف المتطرفة ، وقد تكرم الله جل وعلا فجعل هذه الأمة أمةً وسطاً ، فتعاليم ديننا تنزع إلى الوسطية في اتجاهها العام وفي فلسفتها وفي معالجاتها للأحداث ، وينبغي أن نكون نحن في حياتنا الشخصية ، في رؤانا ، في تعاملاتنا ، أن نكون كذلك ، نلزم الطريق الأوسط ، إنني أرى كثيراً من الشباب الذين أهملوا صحتهم وواجباتهم الاجتماعية سعياً وراء المجد والنجاح في عالم الأعمال ، وهذا من قلة البصيرة ، حيث إن عليهم أن يعلموا أن في العالم الحديث ليس ثمة نجاح من غير اعتدال ، عدم الاهتمام بالصحة يهدم القوى الحية ، فيرى الإنسان نفسه وقد أصابه الكلل في وقتٍ مبكر ، وإهمال الشأن الاجتماعي يحرم المرء من مصدر من أعظم مصادر البهجة والسعادة ، ،،،
                      إن المطلوب من الشباب أن ينموا في أنفسهم وفي عقولهم روح التواضع والاهتمام بالآخرين في سلوكهم الخاص وفي أعمالهم و وظائفهم و أنشطتهم العامة ، وإنما أقول هذا وألح عليه بقوة لأن الشعور باللياقة والمهارة والقدرة الشخصية التي اتخذت شكل الثورة في أيامنا هذه ، أقول إن الشعور بهذه الأمور يدفع المرء دفعاً إلى العدوان على الآخرين من خلال إهمالهم وتجاوزهم وعدم الالتفات إلى أمزجتهم و مصالحهم ، وهذا يسبب الشقاء للمرء ويشعره بغربة الروح ويوجد له الكثير من المصاعب ، كما أنه بالتالي يجعله يواجه مصاعب الحياة بدون أصدقاء ، وبدون مخلصين يساعدونه على النجاح ، في حمى عالم الأعمال و معاركه الطاحنة قلّ ما نعير هذه الأمور اهتماماً يذكر ، وإنما أركز على هذه القضية لأن القطاعات الخاصة هي في ازدياد مستمر ، والذين يشتغلون فيها في ازدياد مستمر وهذه الأمراض التي أتحدث عنها أو هذه الأشكال من الخلل في التوازن بدأت تنتشر لدى الجيل الجديد وللأسف فإنها تنتشر لدى الجيل الحي لدينا ، يعني الجيل الأكثر عطاءً ، الأكثر إصرارا ، الأكثر نجاحاً ، الأكثر فهماً ، تنتشر لديه هذه الأمراض ، وهذه الأدواء كما قلت تفتقر إلى الاعتدال وتفتقر إلى التوسط ،،،
                      نحن في حمى العمل قلّ ما نعير هذه الأمور التي ذكرتها اهتماما يذكر ، كما لا نعير جرحا المجابهة الضارية خلال الحرب الاهتمام الذي يستحقونه ، أحياناً لا يلقون أي اهتمام ، ،،،،
                      في المقابل هناك شباب ورجال وكهول ألغو قاعدة الكفاح وبذل الجهد من حياتهم ، ولذا فإنهم يفاوضون دائماً على الفُتاة ، دائماً يرضون بالحد الأدنى ، بالأقل ، وعندما تضيق السبل السهلة وتكثر الحجارة في الدروب الواسعة يصبح الطريق المنحدر المعبد أكثر إغراءَ ، فيسيرون فيه ، يميلون إلى الأشياء السهلة فتتراجع ملكاتهم وقدراتهم ويصبحون عالة على الأمة عوضاً عن أن يكونوا لها سندا ، ويصبحون آخذين عوضاً عن أن يكونوا معطين ، الاعتدال مطلوب ، فالغرور كالشعور بالذلة وجنون الاشتغال بالإنجازات الكبيرة كالكسل والفوضى والصلابة التي تصل إلى حد العناد والليونة التي تصل إلى حد الضعف ، والعقلية المغامرة التي تصل إلى حد التهور كل هذه الأمور لا تقود إلى أي سعادة كما لا تقود إلى أي نجاح ، ،،،
                      إنني أشعر أن معظم الناس يفقدون شيئاً أطالوا في البحث عنه دون أن يجدوا إلا القليل منه ، إنه الاعتدال والتوازن والتوسط وإعطاء كل ذي حقٍ حقه ، هذا هو الذي يجعلنا نعمل ونعمل ونعمل ، دون أن نشعر أننا فرطنا أو أضعنا شيئاً أساسيا ، ،،
                      ثالثاً : من موارد السعادة ومن موارد الحياة الطيبة :

                      القناعة والرضا بما وهبه الله تعالى للعبد ،
                      والقناعة في الحقيقة تشكل باباً كبيراً من أبواب الهدوء والاطمئنان ، لأن إصرار الإنسان على أن يحوز كل شيء هو ضربٌ من الجنون ، وإنما التفريط في كل شيء والإعراض عنه هو نوعٌ أيضا آخر من الجنون ، وإن القناعة هي كنز الحكيم ، وبيت قصيد الحكمة ، ،،،
                      إن السعيد يعرف أن لا يستطيع أن يحصل على شيء ، ولذا فإنه يضبط ذوقه وعمله ولذته ، ويعتدل في طموحاته ، والطموحات أيها الإخوان هي ذلك الهوى الكبير في نفوس البشر ، والتي يصعب جداً من غير وضع حدودٍ لها الشعور بالاستقرار وإيجاد الوقت الكافي لإرواء المباهج والمسرات الروحية ، ولهذا هناك أكثر من توجيه نبوي للأمة في ضرورة الرضا بما قسم ، وعدم مدّ الطرف إلى بعيد ، يقول صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغنى عن كثرة العرق ـ أي المال والأشياء ـ ولكن الغنى غنى النفس ) ويقول صلى الله عليه وسلم : ( قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ) وهنا نشدد على كلمة قنعه الله بما آتاه ، لأن الإنسان إذا كان رزقه ضيقاً ولم يقنع ، فإن ضيق الرزق هذا قد يدفعه إلى حسد الناس وإلى السخط على الله تعالى ، وقد يدفعه إلى أن يسلك غير مشروعة في سبيل جعل حياته أكثر ثراءً وأكثر راحة ، و بما أن الإنسان مهما أوتي فسيجد دائماً من أوتي أكثر منه ، فقد وجهنا عليه الصلاة والسلام إلى أن ننظر عند الحاجة نظرة متوازنة ومتعددة الاتجهات ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : ( انظروا إلى من هو أسفل منكم لا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدرُ ألا تزدروا نعمة الله عليكم ) هذا هو الأصل ، أن ننظر في أمور الدنيا إلى من يملك اقلّ منا حتى نستشعر نعمة الله علينا ، لكن إذا حدث ونظرنا إلى ما هو فوقنا في أمور الدنيا فلننظر نظرةً أخرى إلى من هو دوننا ) يقول صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري : ( إذا نظر أحدكم إلى من فضلّ عليه ـ أو فضُل عليه ـ في المال والخلق ت يعني في الشكل في القوة ـ فلينظر إلى من هو أسفل منه ) حينئذٍ يحصل التوازن ، تعرف أنك لست الأقل ، لست الأشد بؤساً ، لست الأشد فقراً ، لست الأشدّ حرماناً ، هناك من هو محروم أكثر ، وهناك من هو متعب أكثر ، حين ننظر إلى من هو فوقنا فالدواء كما يصفه لنا عليه الصلاة والسلام أن ننظر إلى من هو دوننا ،،،
                      في قضية الدين ينظر الإنسان نظرة معاكسة مختلفة ، تنقلب القضية ، لا ينر إلى من هو دونه ، يقول : الحمد لله أنا صحيح لا ألتزم بصلاة الجماعة ولكن اصلي ، فلان لا يصلي لا جماعة ولا غيرها ، هذا خطأ ، هذا من علامات الحرمان ، في قضايا الدين ننظر إلى من هم فوقنا ، ننظر إلى من هم سابقون علينا ، لنقتبس من روحهم من عزائمهم من ثباتهم ، ولا ننظر إلى من هم دوننا ، لأن النظر إلى من هو دوننا في مسائل التدين هذا في الحقيقة فيه نوع من الإهانة لقيمة الحياة الآخرة التي يستقيم الناس من أجل بلوغها بأمان وبسلام ، ،،
                      يقول أحدهم : حفيت قدماي ولم أستطع شراء حذاء ......


                      انتهى الشريط الرابع

                      تعليق

                      • صديقة الزهور
                        زهرة الحوار
                        • Oct 2003
                        • 4755

                        #12
                        بسم الله الرحمن الرحيم

                        الشريط الخامس ....

                        يقول أحدهم : حفيت قدماي ولم أستطع شراء حذاء فحصل عندي نوع من التبرم بحكم القضاء ، نوع من السخط ، هل يعني وصلت القضية أن الإنسان لا يجد حذاء يلبسه هكذا هي الدنيا ، قال : ثم دخلت مسجد الكوفة وأنا ضيق الصدر فوجدتُ رجلاً بلا رجلين فحمدت الله تعالى وشكرته على نعمته ، أنت تفقد الحذاء ، ذاك يفقد الرجلين ،،،
                        الساخطون الشاكون والمتباكون على ما فاتهم من متاع الدنيا حرموا لذة القناعة فهم لا يشعرون بما يتمتعون به من نعم غامرة ، فقد ألفوا تلك النعم ، وبعضهم حصل عليها بسهولة وهم يقولون دائماً ينقصنا كذا وكذا ، ونريد كذا وكذا ، ولا يقولون عندنا كذا وكذا ، يعني بدل أن نقول ينقصنا كذا وكذا لماذا لا نتذكر أننا نملك كذا وكذا وكذا في كل اتجاه وعلى كل مستوى ، نحن إذا أراد الواحد منا أن يكون سعيدا هذا أمر ممكن تحقيقه ، لكننا في الغالب نريد أن نكون كغيرنا من الناس وليس أي ناس ولكن الناس الذين يظهرون أنهم يملكون أكثر مما نملك و يتمتعون بما لا نستطيع التمتع به ، وهذا أمرٌ عسيرٌ دائما ، لأنه يغلب على ظن معظم الناس حتى المحسودين منهم يغلب على ظنهم أن غيرهم أسعد وأحسن حال منهم وأقل شعوراً بالأزمات والمشكلات منهم ، فلما تأتي أنت و تريد أن تكون دائما مثل فلان وفلان سوف تتعب ، وسوف تجد أن ما هو مطلوب لك دائما هو فوق طاقتك وهو أكثر مما هو متاح ، وهذا مصدر من مصادر الشقاء ،،،
                        إن أكثر ما يؤذي أحاسيس الرضا والطمأنينة أن نضعها موضع تساؤل ونضعها موضع شك وتردد ، وذلك حين نسأل أنفسنا هل نحن سعداء أو لا ،،،،
                        السعادة أيها الإخوة ، أيتها الأخوات ، تحب الغفلة وتكره الأضواء وتؤذيها المقارنات وتؤذيها التطلعات غير المحدودة ، فلننتبه إلى هذه المعاني إذا أردنا ألا نحط رحالنا على بوابات الشقاء ، ،،،
                        من المهم حتى نكون سعداء أن نؤمن إيماناً لا تردد فيه أن السعادة مع قلة المال وضعف النفوذ وندرة الأشياء تضل شيئاً ممكنا وعلينا أن نتعلم من الطيور شيئاً في هذا الشأن ، العصفور لا يقل مرحه وتغريده عندما لا يحصل على غير كسرة الخبز ، يجب أن نؤمن دائماً كما يؤمن البحار أن الرياح الطيبة ستهب لتجري سفينته في الاتجاه المطلوب ، و أن نؤمن أن العشب سيظهر مرة أخرى حتى لو كانت الأرض قاحلة أو مغطاة بالثلوج ، ،،،
                        السعادة باختصار ليست شيئاً ظاهرياً ، وليست أسبابها ملموسة دائما ، الخيال والاعتقاد والتفاؤل والأمل والثقة بالله جل وعلا ، والاعتقاد بأن المحن لا تدوم و أن مع العسر يسرا ، كل هذه الأمور تفتح لنا أبواب الحياة الطيبة على مصراعيها دون أن يكون بين أيدينا الكثير من الأشياء ، هذا ليس ادعاءً ، ولا تعزيةٍ لأصحاب الحاجة أو للعناصر الهشة والضعيفة فينا ، هذا هو الحقيقة الساطعة والملموسة ، ،،
                        أختم الحديث عن القناعة بما روي أن رجلاً سأل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : ما خير شيء أعلمه لولدي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر : علم ولدك الفقه الأكبر ـ هناك فقه أصغر وهو فقه الفروع وهناك فقه أكبر وهو فقه النفس ـ قال له علمه الفقه الأكبر ، ما الفقه الأكبر ؟ قال : القناعة وكف الأذى ، القناعة وكف الأذى هما الفقه الأكبر في حياتنا الخاصة و الاجتماعية في نظر فقيه النفس عمر ابن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ
                        رابعاً : من موارد السعادة
                        هناك ما يشبه الإجماع بين خبراء الحياة وأساتذة الحكمة على أن العمل والكدح وبذل الجهد يعد مصدراً أساسياً من مصادر الحياة الطيبة ، وهو إلى جانب هذا قد يكون شرطاً لها ، أي من غير الممكن أو من الصعب على أقل تقدير أن ينعم المرء بالسعادة والرضا إذا كان يجد نفسه بصورة دائمة معطلا عن العمل ، كما أشرنا إلى هذا من قبل ، وفي هذا السياق نجد أن فينا من تداعبه أحلام الفراغ ، ويغبط أولئك الذين لا يلتزمون بأي عمل ولا يبذلون أي جهد ، وإنما فرغوا أنفسهم لاصطياد الملذات من كل الأنواع وهذا في تصوري وهم كبير ، أن نحلم بحياة خالية من المهمات ، خالية من المسؤوليات ، خالية من الواجبات ، خالية من المتطلبات هذا وهم كبير في نظري ، العمل نعمة كما أن الصحة كذلك نعمة ، وكما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفه إلى المرضى ، كذلك العمل تاج على رؤوس العاملين لا يعرفه إلا من ذاق طعم البطالة الطويلة الأمد ، ،،
                        نحن أمة في حاجة ماسة إلى أن تعيد بناء نفسها في كل المجالات ، إذا ما أرادت ألا ينهار موقعها العالمي أكثر فأكثر ، وإن أحد المداخل الأساسية لذلك ـ أن نحافظ على موقعنا وأن نتخلص من الكثير من مشكلاتنا ـ أحد المداخل الأساسية لهذا يكمن في إرساء تقاليد ثقافية عميقة وشاملة تمجد العمل الصامد وتنظر بعين التقدير والاهتمام إلى كل جهد بناء يبذله المسلم على صعيده الشخصي وعلى صعيد تحقيق مصلحته الخاصة أو على صعيد النفع العام والمصلحة العامة ، ،،
                        كانت العرب في الجاهلية تحتقر المهن والعمل اليدوي عامة ، وكان أحب الأموال إليهم ، الأموال التي يحصلون عليها من وراء التجارة والأموال التي يحصلون عليها من وراء القتال والغزو والسلب والنهب القبلي ، لأنها تدل على البطولة والبأس والشجاعة ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن تتسع دائرة العمل إلى أبعد مدى ممكن وهذا لا يكون إلا إذا انتشر في الأمة حب العمل اليدوي وتخلص الناس من النظرة الدونية إليه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لأن يأخذ أحدكم أحبله ـ أي حباله ـ ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) ويسأل الناس ـ أي يشحذ منهم و يطلب منهم المساعدة ـ وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : ( ما أكل طعام قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده ) وفي حديث آخر أن زكريا عليه السلام كان نجارا ،،،،
                        ونظراً للأهمية البالغة للاهتمام بالعمل وبذل الجهد ، بوصفه سبيلاً مهما وطريقاً عريضاً لسعادة الأفراد والمجتمعات ، فإني أحب أن أفيض في القول فيه راجياً أن نستطيع تشكيل انطباع جديد وإيجابي حول ارتباط السعادة والانشراح بالعمل وبذل الجهد ،،،

                        ولعلي أسوق ذلك في المفردات التالية ..
                        أ /
                        يشكل العمل حاجزاً ممتازاً بين المرء وبين تمحوره حول ذاته ، وغوصه في همومه الشخصية ..
                        قليلون أولئك الذين تجنبوا بصورة دائمة الوقوع في الضائقات المالية وقليلون أولئك الذين لا يلقون نوعاً من الإخفاق في أعمالهم ووظائفهم ، وقليلون أولئك الذين لا يعانون شيئاً من القلق بسبب مرض ولد ورسوب آخر أو الشجار مع زوجة أو قريب أو زميل إلى آخره ، في أي حالة من هذه الحالات يكون من الحكمة اللجوء إلى العمل بوصفه عازلاً لنا عن أن نستغرق في همومنا ومشكلاتنا ونحن نشعر بالعجز عن معالجة تلك المشكلات في الوقت الذي نجد فيه أنفسنا غير قادرين على التخلص من هواجسها ومزعجاتها ، يعني حين نشعر بأننا عاجزون عن الحل ونخضع للهواجس والوساوس حولها ، حينئذٍ تصبح هذه الحالة مصدر للإزعاج ،،،

                        المطالعة في كتاب مثلاً تنقلنا بعيدا عن همومنا الشخصية لتفتح لنا آفاقاً رحبة من الاهتمام المتنوع بقضايا علمية ومعرفية وثقافية لا تتصل بالحالة النفسية للواحد منا ، القراءة أو الاشتغال بتعلم مهارة من المهارات أو الانشغال بأداء عمل من الأعمال هذه الأمور تشكل فرصة لكل مهموم ولكل منكوب كي يجد السلوى والانصراف عن همومه المقيمة والجاثمة على صدره ، في أوقات الفراغ يسجن الإنسان مع نفسه ويواجهها وتواجهه ، عندها تبدأ سلسلة من الانفعالات المزعجة كتلك التي يواجهها الناس الذين يعيشون في السجون ، بل أشد ، فهذا يسيطر عليه انفعال الإعجاب بالذات واكتشاف ميزاتها وما يتبع ذلك من الشعور بالظلم والهضم له من قبل الآخرين لأنهم لم يقدروه حق قدره ولم يعطوه ما يسحقه من تبجيل ، وآخر يسيطر عليه على العكس من هذا الإحساس بالإثم والمهانة واحتقار الذات وثالث تسيطر عليه هواجس الخوف أو الحسد لفلان وعلان وهذه الأمور مؤذية للصحة النفسية و وجالبة لأسباب التعاسة ، في القراءة وفي العمل المتنوع ما يخلصنا من هذه الأشياء التي ذكرتها ،،،
                        المهم وفي كل الأحوال ألا يكون العمل الأساسي لنا أو العمل الإضافي أو غير المنتظم شاقاً ومتعباً جداً ، لأن هذا النوع من العمل يجعل اهتمامنا بما يجري حولنا معدوماً أو محدوداً جداً ، مما يعني أن ننصرف في أوقات الفراغ إلى الغرق في همومنا الشخصية ، والآن صار بعض المعالجين النفسيين يستخدمون القراءة وسيلة لجعل المريض الذي يعاني من التمحور حول ذاته لجعله ينصرف بعيداً عنها إلى حيث يقوده الكتاب الذي يطالع فيه ،
                        ب /
                        الأمر الثاني من المفردات التي أحببت أن أذكرها عن العمل ..
                        من المدهش أن العمل مهما كان صغيراً يحمل ميزات الأعمال الكبيرة على المستوى النفسي وعلى المستوى التنفيذي والواقعي ، إذا نظرنا في أحوالنا وفي أحوال الناس من حولنا ، وجدنا أن هناك الكثيرين ممن لديهم أفكار جميلة ورائعة لكن تلك الأفكار ظلت سنوات طويلة ومازالت حبيسة الأدراج ، لماذا ؟ لأن الناس لم يقوموا بأي خطوة عملية في سبيل تطبيقها والاستفادة منها ، نحن نجد أنفسنا في كثير من الأحيان عاجزين عن كسر رهبة الخطوة الأولى ، وهذا العجز يشكل لنا مزعجا مقيما كما يوفر مصدراً لاتهام الذات بالضعف والقصور ، حين نعمل على تنفيذ فكرة نؤمن بها نكون قد كسرنا رهبة البداية وانطلقنا واثقين بقدرتنا على الإنجاز ،،

                        العمل أيها الإخوة مهما كان صغيرا يساعدنا على اكتشاف أنفسنا ، وفي الحقيقة يظل الواحد منا جاهلاً لمواهبه وقدراته ومهاراته الحقيقية ، ما لم ينزل إلى الميدان ، هناك ممارسة نعرف حجم ما لدينا وحجم ما نحن في حاجة إليه ، لذلك الفارغون العاطلون عن العمل يحملون الكثير من الأوهام عن أنفسهم وعن الحياة من حولهم ،،
                        العمل بالإضافة إلى هذا وذاك يغير المعطيات التي بين أيدينا ، الثروات التي لدى الأمم والأموال التي بين أيدينا هي ثمرات الجهد الذي بذلناه وهذه الأموال تخفف عنا الكثير من الصعوبات التي يواجهها المعوزون كما تساعدنا على تغيير البيئة التي نعيش فيها لتكون أكثر ملائمة للحياة الهانئة والمستقرة ،،
                        العمل هو الذي يأتي بالأمل وهو الذي يجعلنا نستسهل الصعوبات لأننا من خلاله ومن خلال الجهد نباشر الممكن ، ومباشرة الممكن وحدها هي التي تقلص مساحات المستحيل ومساحات الأشياء الصعبة ،
                        جـ /
                        نحن في حاجة إلى مقياس جديد ننظر من خلاله إلى الحياة أو دعوني أقول نغير العداد الذي نعد من خلاله الأعمار ، العداد الموجود الآن عداد كمي حسي ، يعد الساعات ، يعد الشهور ، يعد السنوات ، فلان عاش ثمانين سنة ، وفلان عاش سبعين سنة وفلان ما زال في الثلاثين وهكذا ، هذا العداد يقيس شكل الحياة لا يقيس روحا ، لا يقيس مضمونها لا يقيس قيمتها ، لا يقيس الإنجاز الحقيقي فيها ، العداد الجديد يجب أن يعد الأعمال والمنجزات و والمبرات والهدايا التي يقدمها الواحد منا لجماعته وأهله وأمته ، نحن في حاجة إلى أن يدرك الناس أن الحياة الطويلة ليست بالضرورة هي الحياة الجيدة ، والحياة القصيرة ليست أيضاً بالضرورة هي الحياة التي تستحق الندب والعويل والرثاء ، الحياة الطويلة هي الحياة الممتلئة بالأفكار الممتلئة بالمشاعر ، المشحونة بالأحاسيس بالأعمال الجليلة بالإنجازات العظيمة ، هذا هو المقياس الذي يجب أن نتعلق به ونحسب الأعمار على أساسه ، قد مرّ على هذه الأرض قبلنا أعداد هائلة من البشر كما سنمر نحن بدورنا ولم يسجل التاريخ لأي ممن مضى عناوين للعظمة والخيرية بناءً على أنه عاش مئة سنة أو مئةً وعشرين ، إن التسجيل دائماً كان بناءً على الأعمال والآثار التي تركها السابقون ، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق عاش ثلاثةً وستين عاماً كما تعرفون لكن الأثر الذي تركه في البشرية يزيد على آثار ملايين الرجال الذين عاش الواحد منهم أكثر من مئة سنة ، الإمام الشافعي رحم الله عاش خمسةً وخمسين عاماً والإمام النووي رحمه الله عاش خمسة وأربعين عاماً ، هل تصدقون أن رجلاً توفي في الخامسة والأربعين استطاع أن يترك لنا هذه الموسوعات الفقهية الرائعة وكتباً أخرى كثيرة في غير الفقه ، ،،،
                        إن ملئنا لحياتنا بالأعمال التي تنفعنا في الدنيا ونجد آثارها في الآخرة هو الذي يجعل حياتنا تطول وتطول ، إنها تطول بالسعادة التي يتركها العمل في نفوسنا وتطول بالأجر الذي ننتظره من الله جل وعلا يوم لا ينفع مال ولا بنون ، هذا هو التحدي فهل نقبله ونغير العداد ليصبح عداداً يعد المضامين والمعاني وليس الأنفاس وعدد دقات القلب ، إذا استطعنا تغيير العداد فإنني أعتقد أن هذا سيشكل حافزاً لنا لنتعامل مع الوقت بطريقة جديدة لنجعل مقياس الأوقات التي نعيشها وننعم بها هو الإنجاز الذي يتم فيها وليس البطالة أو الفراغ الذي يقتلها ،،،
                        د /
                        من حق كل واحدٍ أن يتساءل ، هل حقيقة كل عمل ولو كان غير مجهد يحقق السعادة التي نتحدث عنها أم أن الأمر لا يعدوا أن يكون نوعاً من الحث على العمل أو نوعاً من الوعظ الحالي ، الحقيقة أن بعض الأعمال يقوم بها أصحابها ليس من أجل فوائدها بشكل جوهري ، وإن كانت قد تأتي ببعض الفوائد وإنما من أجل التسلية وطرد السأم والملل والتخلص من الفراغ وذلك مثل الثري الذي يمارس هواية صيد السمك وهو لا يقوم بذلك من أجل أن يوفر غداء يوم أو يفر لأسرته عشاء يوم ، و إنما من أجل الاستمتاع بهذه الهواية و للتسلية والتخلص من أعباء العمل الجاد المنتظم ، هذا النوع من الأعمال إذا ظل في حدود الاعتدال فإنه يحقق بعض السعادة لكونه سد بابا من أبواب التعاسة والضجر والفراغ ، أما العمل الهادف الذي نريد أن نحقق من ورائه نتائج محددة فإن وضعه ليس كذلك ، هذا العمل إذا أدي بطريقة سيئة بعيدة عن الإتقان والتنظيم فإنه لا يمتع صاحبه ، لكنه يشكل نوعاً من الارتكاس النفسي لأن المرء حين يؤدي عملاً بطريقة رديئة يشعر بأنه لم يقم بواجبه كما ينبغي ، والمرء غالباً في هذه الحالة لا يكون محباً للعمل الذي أسند إليه ويكون في كثير من الأحيان دخل ذلك المجال ، مجال العمل الذي لا يتقنه دخله عن طريق الخطأ ، ولذا فهو دائما آسف ونادم على ما يقوم به ، وهكذا العمل لا يكون مصدر سعادة إلا من حيث الأجرة التي ينالها صاحبه عليه ، العمل الممتع والذي يأخذ بلب الإنسان فعلاً ويستحوذ على مشاعره ويرضيه غاية الإرضاء هو العمل الذي يؤدى بطريقة إبداعية فيها تجديد فيها تفكير فيها رؤية جديدة فيها عطاء متميز ، والذي يؤدى أيضاً بطريقة متقنة و متفوقة ، لأن المرء وهو يقوم بعمل يحبه ويتقنه يشعر بأنه يضيف إلى الحياة شيئاً قيما ويشعر أنه يحقق ذاته كما يشعر أن ينموا ويكبر مع كل إنجاز يحققه ، قد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) أي الإتقان في العمل هو أحد محبوبات الله تبارك وتعالى ، ولذلك حين نتقن أعمالنا نشعر بأننا أقرب إلى إبراء الذمة وأقرب إلى إرضاء الله تبارك وتعالى ، لنجرب أن نعمل في عملٍ نحبه ولنجرب أن نؤدي ذلك العمل بأفضل طريقة ممكنة ، لنرى بعد ذلك حجم ما يعود على نفوسنا من انشراح وسرور وسعادة من وراء ذلك العمل ، ،،،
                        هناك أشخاص يعانون من بعض الإعاقة المؤلمة ومع هذا استطاعوا من خلال الاهتمام ببعض الأشياء و الإبداع في بعضٍ آخر أن يتجاوزوا الآثار النفسية لإعاقاتهم بل انتقلوا من أن يكونوا موضع إشفاق لدى الناس إلى أن يكونوا موضع احترام وموضع إعجاب ، يعني فعلاً حين ترى إنجازات بعض المعاقين تستصغر نفسك وأنت السليم المعافى ، ،،
                        هذا شاب فقد ساقيه في وقت مبكر من حياته ومع ذلك ظلّ يشعر بالسعادة والهدوء ، من خلال انكبابه على تأليف كتاب في خمسة أجزاء عن آفات الورد ، وصار هذا الفتى أو الشاب في نظر بعض المختصين مرجعاً موثوقاً في أمراض الورود ، والقصص الشبيهة كثيرة وكثيرة ،،،،
                        كثيرون أولئك الذين يشكون القلة وضعف الحيلة والعجز عن الوفاء بمتطلبات الحياة ، وفي الوقت نفسه ينظرون حولهم فيرون الكثيرين ممن ينعمون بأشياء لم يتعبوا في الحصول عليها فتمتلأ صدورهم بالحسد و الحقد والكراهية ويتسلل إلى نفوسهم شعور بأنهم وقعوا ضحية للظلم اجتماعي عريض ، نصيحتي لهؤلاء أن يغضوا الطرف عن كل ذلك لأنه لا فائدة ترتجى من وراء التفكير فيه ، وعليهم من أجل شفاء صدورهم وراحة بالهم إن ينغمسوا في عملٍ جيد ونبيل ، إن العمل الجيد يوفر لهم مالاً يحسنون به أوضاعهم المادية ، و يشعرون بتغييرات موضوعية وبيئية تدخل إلى حياتهم ، والعمل النبيل يجد في الحقيقة مكافئته في ذاته ، إن الله جلّ وعلا أكرم من أن نبذل له نقداً ويكافئنا نسيئة ، ولهذا فإن اللحظة التي نقوم فيها بعمل تطوعي أو عمل خيري أو بإحسانٍ ما أو عمل إغاثي ، إن اللحظة التي نبذل فيها مساعدة لمسلم و نمد فيها يد العون لمحتاج هي نفس اللحظة التي نشعر فيها بالغبطة والابتهاج والروح الأخضر الذي يغمر كياننا عنواناً لمرضاة الله تعالى عما نصنع وشيئاً مقدماً عما ننتظره عند لقياه في الآخرة ، حين تخترع جهازاً للري يستخدمه الناس في تحويل الأرض الجرداء إلى أراضٍ خضراء فإنك سوف تشعر أنك بنيت وتركت بعدك شيئاً يجعل الحياة منتعشة وخيرة ، وهذا مصدر عظيم للسرور والحبور ، عن طريق العمل والعمل وحده نشعر بأننا نقترب من أهدافنا شيئاً فشيئا وهذا الاقتراب هو الوسيلة الوحيدة لإبقاء آمالنا وأهدافنا حية ، وتصبح لحياتنا نحن معنى يمنحها القيمة ،،،
                        خامساً ....

                        المورد الخامس من موارد الحياة الطيبة ..
                        البشاشة والتبسم والمرح والإيجابية والاستبشار كل هذه الأمور تساعد على انشراح الصدر وإيجاد الأحاسيس والمشاعر الندية والسارة ، نحن في حاجة مستمرة إلى أن نستبشر ونبشر الآخرين ، في حاجة إلى أن نبتسم ونجعل الآخرين يبتسمون ، نمرح ونجعل غيرنا كذلك يمرح ، إنه لأدب عظيم يعلمنا إياه القرآن الكريم ويعلمنا إياه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث يرشد الله جلّ وعلا نبيه إلى أن يبشر المؤمنين بكريم موعود الله في الدنيا والآخرة في آيات كثيرة في الحقيقة ، يقول سبحانه : ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)) وقال تبارك وتعالى (( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتهم الأنهار )) وأرسل الله جلّ وعلا ملائكته بالبشرى إلى بعض عباده الصالحين ، كما نعرف ذلك من قوله سبحانه (( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى )) وقوله سبحانه (( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى بن مريم )) وبشر عليه الصلاة والسلام زوجه خديجة ببيت في الجنة من قصب ـ والقصب هنا اللؤلؤ المجوف ـ بشرها ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب " أي بيت هادئ لا صياح فيه ولا تعب ، وبشر عدداً من أصحابه كذلك بالجنة على ما هو معروف مشهور ،،،،
                        البشارة توجه العقل وتوجه الروح والخاطر نحو التفاعل مع أعذب الآمال والأمنيات والمحبوبات فيضج الجو كله بالحبور والسرور ، وتنسى الآلام وتختفي المزعجات ، التبسم له تأثير هائل على الحالة النفسية للإنسان على نحو لا يدرك كثير من الناس ، إن أحوال الروح تابعة لأحوال البدن ، فبمجرد أن تنفرج أسارير الإنسان ويضحك أو يبتسم ينشأ تيار من السرور والاستبشار ليجتاح النفس ويغير في وضعيتها ، ومن الصعب أن يبتسم المهموم أو المكتئب دون أن يطرأ تغيير فوري على حالته النفسية ، ومن هنا عدّ صلى الله عليه وسلم التبسم نوعاً من المعروف أو الإحسان حين قال ( تبسمك في وجه أخيك صدقة لك ) وقال : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) سماه معروفاً وسماه صدقة ،،،،
                        حين يبتسم الإنسان في وجه أخيه فإنه يحسن إلى نفسه أولا ، يعني هذه ناحية قد لا ندركها دائما ، أنت حين تبتسم قبل أن تشيع الابتسام في نفس المجالس لك تشيعه في نفسك أولا ، فالمرء حين يبتسم في وجه أخيه يدفع حالته النفسية مباشرة نحو الانشراح والسرور ، ويحسن أيضاً إلى الذين يبتسم في وجوههم حين يشيع فيه مثل ذلك ، إن من طبيعة السرور أنه ينتقل بالعدوى ، بل لا يتم إلا إذا جرى فيه التبادل ، فأنت حين تكون في حالة تفاؤل وانبساط وارتياح تشيع ذلك في جلسائك ، السرور بطبيعته يحب الانتشار ، فنحن لا نسر إلا إذا منحنا السرور لغيرنا ، إلا في حالات الأنانية المرضية أو حالات الانحراف النفسي ، هناك من الناس من لا يكتمل سروره إلا إذا كان الناس الذين حوله مكتئبين ، يعني هو يشبه نفسه بجزيرة في وسط بحر يجب أن يكون مغايراً للناس ، تشتد لذته ويشتد فرحه وسرور ن يعني مثل الذي يجلس في سيارة مكيفة باردة والناس من حوله يسيرون في شارع درجة الحرارة فيه خمسون ، النبيل يتألم وتنقص متعته بما هو فيه ن والذي عنده شيء من اللؤم شيء من مرض الأنانيَ ، هذا يتلذذ ويشعر بالتفوق ويشعر بالحظو حينما يكون سروره عبارة عن جزيرة في بحر يموج بالآلام ، ،،
                        حين نضحك لسماع طرفة أو حكمة أو خبر أو تذكر شيء جميل أو توقع شيء محبوب ، حين نضحك معاً نغمر أنفسنا بمشاعر الأخوة والزمالة والمساواة وتزول آن ذاك الفوارق الاجتماعية والثقافية بلمحة بصر ، وحين تلتقي أعيننا ببعضها ونحن في ذروة الضحك والانفعال السار التي تحدثه الطرفة أو الدعابة يحدث نوع من التفريج عن الكروب العصبية والنفسية التي نصاب بها من وراء تحمل أعباء الحياة و نتبادل في تلك اللحظة ـ لحظة الضحك من الطرفة والدعابة أو الخبر الجميل ـ نتبادل مشاعر العرفان والثقة والتفوق والانفتاح والألفة والعفوية ، وكأن الطرفة تحول أهل المجلس إلى عناصر كيميائية جمعتها خلطة واحدة فأخت تتفاعل ، وتتفاعل على نحو مدهش وعجيب ، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تشير بعض الدراسات إلى أن الأشخاص ذوي الطبيعة المرحة يعيشون أكثر من الذين تغلب عليهم الكآبة ، بالدعابة تظهر براءة الإنسان ويذهب عنه التكلف والاحتشام المصطنع كما أن في الدعابة أماناً من الكبر ، كان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويضحك مما يضحون منه ويعجب من الأمور التي يعجبون منها ، يقول احد الشعراء المعاصرين حاثاً مكتئباً على أن يبتسم ن لأنه مهما ساءت حالته ، فلديه بعض الأسباب التي تسمح له بذلك ، يقول :
                        قال السماء كئيبة وتجهم ** قلت ابتسم يكفي التجهم في السماء
                        قال الصبا ولى فقلت له ابتسم ** لن يرجع الأسف الصبا المتصرم
                        قال العدا حولي علت صيحاتهم ** أأسر والأعداء حولي في الحمى
                        قلت ابتسم لم يطلبوك بذمهم ** لو لم تكن منهم أجلّ وأعظم

                        هذا البيت الأخير يبدوا أنه مأخوذ من كلمة لأحد فلاسفة اليونان يقول فيها : إذا رأيت الناس يرمونك من خلفك بالحجارة فاعلم أنك في المقدمة ..
                        قلت ابتسم لم يطلبوك بذمهم ** لو لم تكن منهم أجل وأعظم
                        قال الليالي جرعتني علقما ** قلت ابتسم ولئن جرعت العلقم
                        فلعل غيرك إن رآك مرنماً ** طرح الكآبة جانباً وترنما
                        أتراك تغنم بالتبرم درهماً ** أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما
                        فاضحك فإن الشهب تضحك والدجى ** متلاطمٌ ولذا نحب الأنجم

                        الأفكار الإيجابية هي الأخرى تبعث السرور في نفوسنا ومن المؤسف أننا في زمان ينتشر فيه الإحباط في نفوس كثير من الأخيار كما ينتشر الوباء ، وذلك نتيجة سيطرة الأفكار السلبية عليهم ، هناك أشخاص يدلون الناس من حيث لا يشعرون من حيث لا يدركون يدلونهم على الطرق المسدودة ، ولا تعرض أمامهم فكرة إيجابية إلا ذكروا لك السلبيات التي يمكن أن تنشأ عنها ، فيشيعون في الناس روح الكآبة والانكسار واليأس من صلاح الأحوال ، وهذا يتنافى مع منطوق ومفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : ( بشروا ولا تنفروا ) ،،
                        إن من المهم أيها الإخوة الكرام أن نعتقد أنه ما يغلق باب إلا ويفتح باب آخر ، ولكن بحكم قصورنا الثقافي وبحكم ملابسات تربوية معينة نشأنا فيها أقول بحكم هذا وذاك فإننا ننشغل بالباب الذي أغلق عن الباب الذي فتح ، ومن هنا فإنني أعتقد أن كل نظرية توصل الناس إلى طريق مسدود و تجعلهم نهباً لليأس هي نظرية خاطئة ، وما الفائدة إذا جئنا بنظريات لا يأتي من وراءها إلا البطالة والكسل والقعود والحيرة ، هي ليست بنظرية حينئذٍ ، ي شيء مقعد ، لنكن على ثقة أن من أكثر الأشياء بعثاً على الرضا في هذا العالم ، ما نحمله ونذيعه من الأفكار السارة واللطيفة والإيجابية ، إن الأفكار الجميلة تطبع الشخصية كلها بجمالها ، بل يمكن القول إن الأفكار هي التي تصنع الشخصية هي لا تطبعها هي تصنعها حقيقةً ، وإن كل فكرة جميلة وإيجابية وسارة ندخلها إلى أذهاننا تقوم هذه الفكرة بطرد فكرة سيئة أو هدامة من عقولنا ، وبذلك نذوق شيئاً من طعم الهناء طعم السعادة ، إن الابتسامات التي نوزعها على من نعرف وعلى من نحب وعلى من نلاقيه هنا وهناك ممن نعرف وممن لا نعرف إن هذه الابتسامات قد ننظر إليها على أنها أشياء ضئيلة ، أشياء تافهة ، لكنها إذا ما نثرت على طول طريق الحياة فإن الخير والارتياح والاغتباط الذي تصنعه قد يصعب تصوره و تخيله ، لنحاول ألا نصدم أحداً ولنحاول ألا نسرق السرور من قلب أحد وألا نحطم الأمل في قلب أحد ،،،
                        إن الصوت الذي يرن بالرقة واللطف للصغير والكبير يجلب للناس غبطةً لا مثيل لها ،،،
                        السادس :

                        مشكلة الإنسان أنه يصدر دائماً في تصوره للأشياء عن رؤية جانبية جزئية على ما رأينا عند الحديث عن تصورات الحكماء والمفكرين والباحثين حينما ذكروا تعاريف السعادة ومقوماتها الأساسية وشروطها ، وهذا في الحقيقة من جملة القصور الملازم لعموم البشر ، ،،
                        الرؤية الجزئية قد تكون نقمة ، وقد تكون نعمة ، ومن واجبنا أن نعي هذه القضية بدقة ، لو أننا وكلنا قضية من القضايا المهمة إلى أفضل مركز دراسات في العالم ولو أننا استشرنا في قضية أفضل مجلس استشاري متخصص لكان ما يصدر عنهما من تقارير وآراء ونصائح شيئاً قابلاً للنظر ، قابلاً للنقاش ، قابلاً للمراجعة ، ولهذا يجب أن نتقبل أننا أصحاب نظرة جزئية تقبلاً ميسوراً وطبيعياً ، لماذا ؟ لأن هذه هي طبائع الأشياء أننا نرى دائماً شيئاً وتغيب عنا أشياء أخرى لا نراها ولا نأخذها بعين الاعتبار ، ولهذا فإن من المهم أن نستخدم هذه الخصيصة للعقل البشري ، خصيصة الرؤية الجزئية في بلورة رؤية للسعادة وللحياة تنسجم مع معتقداتنا و توفر لنا في الوقت نفسه واقياً من بعض أسباب التعاسة كما تمثل سبيلاً لجلب السرور والهناء ، وهذا يتم عن طريق توجيه الإدراك لدينا نحو أمور معينة ، وإذا أردنا أن نصك مصطلحاً جديداً فيمكن أن نقول : إدارة الإدراك لدينا على النحو الذي ندير به الأزمات والمشكلات والإمكانيات ، وإدراكنا لا شك هو أيضاً عبارة عن إمكانية ليس أكثر ،،،،
                        ولعلي أوضح هذه المسألة المهمة جداً عبر المفردات الآتية :
                        أ /
                        كثير من سخطنا وضجيجنا واحتجاجنا على الناس و على الأحداث والمواقف يعود إلى أننا لم نرى الصورة كاملة ، إما بسبب قصورنا الذهني ، أو بسبب العجلة التي تحكمنا في تفهم الأمور ، أو بسبب أننا لا نكون مهتمين لأن نعرف وأن نطلع ، كم حدثت من مشاجرات و مكايدات ثم تبين أنه لا مسوغ لها وأنها حدثت بسبب عدم فهم الأمور كما يجب أن تفهم ، وكم غلت صدورنا بالحقد والغضب على زيٍد من الناس لأننا لم نفهم المسوغ الذي يراه هو لتصرفاته ومواقفه ، وكم ، وكم ، ،،
                        هذا رجل ركب مع أطفاله الأربعة في عربة القطار وكان الطريق طويلاً ، فنام بعض الركاب على حين استغل آخرون الوقت في قراءة كتاب ، واستغل فريق ثالث الفرصة المتاحة في التمتع بالمناظر الخلابة التي كانت على جانبي سكة القطار ، وقد شعر الجميع بالأذى الذي أحدثه صخب الأبناء الأربعة والذي كان أكبرهم في السابعة ، وتحمل الركاب ذلك مدة ثم قام أكثر من واحد منهم إلى الأب يؤنبونه على ترك أطفاله يركضون ويصرخون في ممر العربة ، وهناك نفرت دمعة من عين الأب واستغرب الحاضرون ذلك ، ثم قال الرجل إن والدتهم توفيت في الصباح و أنا غير قادر على ضبطهم وهم في هذه الظروف ، وهنا انقلبت مشاعر كل من في عربة القطار من مشاعر سخط وغضب إلى مشاعر رحمة وحنان وعطف ، وأخذوا يجذبون الأطفال إلى مقاعدهم ليلاعبوهم ويعطوهم بعض الحلوى ،،،
                        إن مزيداً من الفهم لأحوال الناس من حولنا سيخفف من مشاعر الاستياء نحوهم وسيعود علينا بالتالي بالارتياح والهدوء ،،
                        ب /
                        لكل حقيقة ظلال عديدة ، وهذه الظلال تشكل وقع هذه الحقيقة علينا أو علاقتها بنا وعلاقتنا بها ، هذه الظلال نحن الذين نرسمها من خلال وعينا وإدراكنا وفهمنا للحياة ، وإن كثيراً من الحقائق يظل قابلاً لأن نفسره تفسيرات متباينة ومتضادة ، فلنكن ونحن نقوم بذلك أوفياء لمعتقداتنا وأوفياء للقيم والمبادئ النبيلة التي نؤمن بها ، ولنحرص في الوقت نفسه على التفسير وعلى الظل الذي يخفف من متاعبنا ويجعلنا أكثر هناءً واطمئناناً مادام ذلك التفسير ممكناً ومادام متقبلاً ، يقول الله جلّ وعلى عن النساء : ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )) إنها دعوة من الله جل وعلا إلى أن نحاول أن نرى الأشياء من أكثر من زاوية وأن نقلب النظر لنعثر على أمور لم ندركها للوهلة الأولى ،،
                        على سبيل المثال ، الموت حقيقة كونية ثابتة ليست موضع جدال ، والناس ينظرون إليه على أنه نهاية حياة محبوبة ومرغوبة حتى بالنسبة لمعظم التعساء ، ويخافون مما يأتي بعده من عذاب ومن أمور مجهولة لا يعرفون عنها أي شيء ، لكن يمكن لنا الانطلاق من نقطة مغايرة لما عليه الآخرون ، ويمكن النظر إلى الموت على أنه فاتحة لخير عظيم وبداية لحياة جديدة ، وأن ننظر إلى الحياة التي نحياها الآن على أنها حاجز يحول بيننا وبين نعيم الآخرة ، هذا بلال رضي الله تعالى عنه تحضره الوفاة فتبكي زوجته وتقول : وامصيبتاه ، وتندب زوجها وتتألم على فراقه وتتذكر كيف تستطيع أن تعيش بعده وكيف تقوم بشؤونها وشؤون أسرتها ، وبلال وزوجته تندب يقول : غداً ألقى الأحبة ،، محمداً وصحبه ، امرأته تنظر من زاوية وهو ينظر من زاوية أخرى ،،،،
                        مثال ثانٍ على هذا ، من النادر أن ترى ثرياً أو جميلاً أو قوياً لا يحسده الناس على ثراءه وجماله وقوته أو لا يغبطونه عليها على الأقل ، كما ورد : ( كل ذي نعمة محسود ) أبو بكر الصديق رضوان الله عليه يقدم للأمة رؤية مغايرة للثروة حين يقول : " لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات " يعني كأنه رضي الله تعالى عنه يقول تخيل أن الذي يتمتع بما يغبط عليه قد توفي فإذا كان سيظل بعد وفاته موضعاً لغبطته فاغبطه على ما هو فيه الآن وهو حي ، وإذا كنت لن ترى وجهاً للغبطة آنذاك فلا تغبطه الآن ، قد انطلق رضوان الله تعالى عليه من أن الدنيا بكل نعيمها وخيرها وألقها وسرورها لا تعدوا من أن تكون شيئاً مؤقتا ، وهي إلى زوالٍ أكيد ، وهذا منه رضي الله تعالى عنه يدل على فهم عميق لأحوال الدنيا وأهلها ، حين يموت إنسان لا يقول أحد : هنيئاً له ، ترك قصراً فاخراً و ثلاثين ولدا ، لا يقول أحد : هنيئاً له لقد كان رجلاً وسيما أو مديراً ناجحا ، لأن الناس يعرفون أن ما كان من الدنيا يظل في الدنيا ، وأن ما كان من الآخرة يذهب مع صاحبه إلى الآخرة كما ورد في الحديث الصحيح أن الإنسان حينما يموت يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان يرجع أهله ويرجع ماله ويظل معه عمله ، ولهذا فإننا نقول عمن نسمع بوفاته ، نقول هنيئاً له قد بنا مسجداً ، وهنيئاً له كان يصلي دائماً في الصف الأول ، وهنيئاً له كان لا يدخر وسعاً في خدمة الناس و هكذا ، فيعني هكذا يكون النظر الثاقب و تكون الرؤية الأصيلة ولو أن الناس فكروا بهذه الطريقة ، الطريقة التي يرشدنا إليها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما حسد أحدٌ أحدا على شيء من أمر الدنيا ، ولكن هيهات هيهات ، كتب رجلٌ في الثمانين إلى رجل في الستين مهنئاً له على بلوغه هذه السن مع الصحة والعافية ، وقال : لقد بدأت تعيش بعد ستين سنة من التأهب وأنت الآن من الحكمة والخبرة بحيث يمكنك أن توجه نفسك وتساعد غيرك ، إنك الآن يا صديقي تستطيع أن تكتشف كما اكتشفت أنا من قبلك أن أفضل شطرٍ في الحياة هو بين الستين والثمانين لا تتصور يا صديقي أبداً أنك تقترب من النهاية ، إنك تقترب من بداية جديدة ، إنك إذا اعتقدت ما أقول لك فإن موقفك سيتغير كلياً ، وسيكون لك مستقبل تستشرفه وتتطلع إليه ، ثم قال له : إن على المرء أن يحيا الحياة بمباهجها وعليه أن يتحملها في بعض الأوقات ، ولكنها على كل حال .................

                        انتهى الشريط الخامس

                        تعليق

                        • صديقة الزهور
                          زهرة الحوار
                          • Oct 2003
                          • 4755

                          #13
                          بسم الله الرحمن الرحيم

                          الشريط السادس ....

                          ، ثم قال له : إن على المرء أن يحيا الحياة بمباهجها وعليه أن يتحملها في بعض الأوقات ، ولكنها على كل حال سواء في وقت التمتع بها أو في وقت تحملها ، تقدم إلينا أساساً وإلى الأبد ، ما ذا تقدم ؟ تقدم الوعد بأمور أسمى وأجمل وهذه الأمور هي ما نرجوه من مغفرة الله سبحانه وتعالى ورضوانه و النعمى التي أعدها لعباده الصالحين ، هذه أيها الإخوان هي البراعة في توجيه الإدراك في اتجاه مغاير لما عليه عامة الناس ، اتجاه يزيدنا أملاً ، يزيدنا قوة ، يزيدنا أمناً ، ويكون في الوقت نفسه ليس عبارة عن أوهام ،لا ، يكون في الوقت نفسه ملتصقاً بالحقائق التي نؤمن بها ،،،
                          جـ /
                          من الصعب ، بل من غير الممكن أن نعيش في وسط ذهبي على ما نحب ونشتهي ، فهناك دائماً شيء من الظروف المعاكسة ، وهناك دائماً أوضاع غير مواتيه ، وهذا من تمام الابتلاء لنا في هذه الحياة ، كما قال أحدهم : خلق الله الدنيا دار للابتلاء فوفر فيها كل شروط الابتلاء ، وخلق الله الجنة درا لتكريم أوليائه فوفر فيها كل شروط التكريم ، وخلق الله النار دارا لإهانة أعدائه فوفر فيها كل شروط الإهانة ، إدراكنا لهذه الحقيقة يجعلنا نعتقد أن وضعيتنا مع السعادة ليست وضعية من استلقى تحت شجرة في انتظار الثمار اليانعة والطازجة حتى تتساقط في فمه ، نحن لسنا في الجنة نحن في الدنيا ، في الدنيا فقر وصحة مهددة وخلافات أسرية ومنافسات في الأعمال وهناك وهناك أشياء كثيرة من المنغصات ، ولذا فإن من جملة توجيه الإدراك : أن نحيا في هذه الدنيا على أساس أن السعادة ليست شيئاً نصادفه على قارعة الطريق ، ليست شيئاً يهدى إلينا وإنما هي شيء ننجزه ، نحن في تعاملنا مع الظروف المحيطة بنا بحاجة إلى بذل الجهد وإلى العمل المثابر ، كما أننا في حجاة في بعض الأحيان إلى إذعان التكيف ، الرجل الحكيم لا يجلس مستكيناً مستسلماً للمشكلات و الصعوبات التي تقف في وجه ، لكنه في الوقت نفسه لا ينفعل ولا يضيع أوقاته في أشياء لا يمكن تجنبها ، إن ذلك يجانب الحكمة ، هناك أشخاص كثيرون غير قادرين على التحمل و الصبر ، فتراهم يثورون لأتفه الأسباب وينزعجون لأمور في تصوري تشكل في الحقيقة جزءً طبيعياً من حركة الحياة ، هذا يثور إذا كان الملح في الطعام قليلاً أو كثيرا عن الحد الطبيعي ، وآخر يثور لأن ثيابه لم يتم كيها بالطريقة التي تعجبه ، وهذا يصبح مشحوناً إذا فاتته الطائرة أو تأخر عليه موظفا عنده بإحضار شيء طلبه منه وهكذا ، يكدر الناس خواطرهم ويتلفون أعصابهم أساً على أمورٍ تافهة ، لا يعني هذا أن لا ينبغي التعامل مع مثل هذه الأشياء بالتوجيه والإصلاح ، ولكنه يعني عدم التعامل معها بانفعال وغضب وهيجان ، نحن دائما في حاجة إلى الحكمة التي ترشدنا إلى المواطن التي علينا أن نكون فيها أشد صلابة وأكثر مقاومة لأنها بطبيعتها لا تقبل المساومة ، كما أننا في حاجة إلى أن نعرف متى يكون علينا أن نذعن وأن نرضى وأن نتكيف لأنه لا يمكن غير ذلك أو لأنه ليس من الحكمة بذل الجهد وتبديد الوقت في التخلص من أمور غير ذات قيمة ،،،
                          إن مما أشقى الناس على مدار التاريخ أيها الإخوة ، أيتها الأخوات ، تعاملهم مع الأشياء الخطيرة على أنها أشياء تافهة ، وتعاملهم مع الأشياء التافهة على أنها أشياء جوهرية وأساسية ، ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا في الأمر كله وأن يوفقنا إلى ما هو خير وأبقى ،
                          د /
                          شيء جميل أن نفهم طبيعة الحياة ، لأننا بذلك نؤهل أنفسنا للتعامل مع أفراحها وأتراحها ويسرها وشدتها ، وهذا هو الذي يملكا نوعاً من الحكمة ، بأن نكون أكثر اتزاناً وبالتالي أقل شقاءً وأكثر سعادة ، إن مما يلفت الانتباه في طبيعة الحياة ذلك التوازن الذي بثه الخالق جلّ وعلا في حياة العباد ، حيث إن من الواضح أن الشعور بلذائذ الحياة لا يكتمل أبدا من غير المرور ببعض منغصاتها ، لا يمكن ذوق حلاوة الحياة أو إن شئت أن تقول لا يمكن التعرف على حلاوة الحياة من غير تذوق مرارتها ، قد كانوا يقولون إن للشوهاء فضلاً على الحسناء لأنه لولا التشوه الذي لدى الشوهاء ما عرف حسن الحسناء ، كما يقولون وبضدها تتميز الأشياء ، وهكذا الحياة ، فالذين ولدوا وهم يتقلبون في ألوان من النعيم المتصل والمستمر يموتون دون أن يتعرفوا على بعض متع الحياة على الوجه الصحيح بسبب عدم تذوقهم لبعض مرارات قسوتها وشدائدها ، لا يعرف الطعم الحقيقي للماء من لم يعاني من العطش ، لا يعرف لذة الطعام في أكمل صورها أولئك الذين لم يتعرفوا على طعم الجوع في أقصى صوره ، إن الاستلقاء على السرير يكون أشهى ما يكون بعد يوم من الكد والنصب والإعياء ، هكذا نجد السعادة في تلك السلسلة المتناوبة من السراء والضراء ، والخوف والأمن ، والغنى والحاجة ، حتى الكسل الذي يذمه كل الناس هو جزء من توازن الحياة ، وربما لم يكن ثمة سعادة لولا نوبات الكسل التي تعتري كل واحد منا ، إن الرجل الذي يقضي جل وقته في عمل متواصل واهتمام متوقد متتابع فلا يتوقف عن ذلك إلا ريثما يزدرد لقيمات يقمن صلبه أو لأن سلطان النعاس غلبه على أمره ، إن هذا الرجل لا يمكن أن يكون إنساناً سعيداً في حقيقة الأمر ، ولو كان ربما لا يشعر بالتعاسة ، فذلك يكون لأنه لم يجد الوقت ليسأل نفسه هل هو تعيس أم لا ، أو ليتعرف على طعم الحياة ، فالكسل والخمول والسأم من العمل والسأم من الالتقاء بالناس هذه تشكل سلاحاً تدافع به الحياة الطيبة عن نفسها في وجه الجدية والصرامة الزائدة وفي وجه الانشغال الدائم والجري غير المحدود خلف إنجازات موهومة ، حين نصاب بشدة بعد رخاء أو نقع تحت وطأة الفراق بعد لقاء والمرض بعد الصحة ،إن ذلك أيضاً يظل جزءً من توازن الحياة ، بل يشكل مورداً من موارد الهناء ، ،،
                          إن الحزن الذي يعقب السرور يحول منقضا من أيام السرور إلى ذكريات عزيزة نستحضرها متى ما شئنا ، لنسترجع بعض السرور الذي فقدناه ، العجيب هنا أن ما نتذكره من أيام السرور يشكل مصدراً نقيا للاستمتاع ، على حين أن أيام السرور كانت مشوبة غالباً بمنغصات ليس أقلها السأم والملل من مضي الأيام على وتيرة واحدة ، نعيش الهناء مشوباً فإذا بعده معكر تحول الهناء إلى ذكرى نتذكر ذلك الهناء ، حينما نتذكره نشعر بمتعة صافية ونقية من التكدير وهذا جزء من نعمة الله عز وجل و جزء من توازن الحياة كما ذكرت ، إذا استقبلنا منغصات الحياة على أنها ضرورية للشعور بالسعادة والهناء فإن تلك المنغصات ستبدوا أقل إيذاءً للنفس و أقل تكديرا للخاطر ، حكمة بالغة تدفعنا إلى أن نتفاءل في أيام الشدة و إلى أن نخاف من زوال السعادة في أيام السرور ، كي لا نجزع في أيام الشدائد ولا نبطر في أيام الرخاء ، وإنما نقوم بحق الله علينا في كلتا الحالتين ، إنني أيها الإخوان أعتقد وأتيقن أن فهماً جديدا للسعادة ومقوماتها وشروطها وفهماً جديدا لطبيعة الحياة وطبيعة النفس البشرية ، إن ذلك سوف يفتح لنا أبواباً جديدة للأمل وللهناء ويشق لنا طرقاً لم نسلكها إليها على الرغم مما قد نعانيه من فقر أو ألم أو اضطهاد سنجد طرقاً جديدة للسعادة إذا أدرنا إدراكنا واستقبلنا المنغصات بالطريقة التي ذكرتها ، وإنه لشيء رائع أن يتمكن من يعتقدون أنهم المعذبون في الأرض من أن يتذوقوا نكهة جديدة للسعادة لا يستطيعون تذوقها حتى لو كانوا مرفهين في الأرض ، فهل نستطيع أن نجرب وأن نكتشف مذاق الحياة الطيبة من خلال تغيير طريقة تفكيرنا وإدراكنا ونظرتنا للأمور ، آمل هذا وألح عليه ،،،،
                          سابعاً :

                          هذا هو المورد السابع من موارد الحياة الطيبة
                          تشكل علاقاتنا الاجتماعية والاتصالات التي نجريها فيما بيننا مورداً مهماً للسرور ، بل في نظر كثير من المفكرين والعلماء والباحثين الاجتماعيين تشكل هذه العلاقات المورد الأعظم للهناء وللسعادة ، وهذا ليس ببعيد ، والحقيقة أن من الصعب على المرء أن يتصور شكل الهناء الذي سينعم به لو نشأ وهو لا يعرف والديه ، ولا إخوته وليس له زوجة ولا أقرباء ولا أصدقاء ولا زملاء يأنس بهم ويفضي إليهم بذات نفسه ، لا أتصور أن إنساناً يكون في هذه الحالة سعيدا ، هو لا يكون سعيدا القضية ليست قضية سعادة حينئذٍ ، هو لا يكون إنساناً لأن اكتمال الإنسانية وتشكل الإنسانية لا يتم إلا في بؤرة الحياة الاجتماعية وفي محيط العلاقات التي نقيمها فيما بيننا ، من المؤسف يعني أن ننظر إلى الحياة الاجتماعية من زاوية ضيقة أو من الزاوية الأسوء ، وأنا ألاحظ الآن أنه بمجرد أن يخطر في بالنا الشأن الاجتماعي تصور التضحيات والمساعدات التي سنقدمها للآخرين ونتصور الأزمات والمشكلات التي يسببها لنا أولئك الذين نعرفهم أو تربطنا علاقة بهم ، ولهذا فإنني أشعر أن الحديث عن السعادة التي نحوز عليها من وراء الععطاء والإيثار باتاً حديثاً مملولاً و ثقيلاً ، وهذا قد يعود إلى أسباب أخرى ، كالأنانية الزائدة التي تنشرها العولمة كما يعود إلى التأثر بالروح السارية في الغرب حيث التفكك الأسري وحيث تراجع معاني الصداقة إلى حدودها الدنيا ، ولعلي أشير إلى أهمية العلاقات الاجتماعية في توفير الحياة الطيبة عبر المفردات الآتية :
                          أ /
                          ليس لأحد أن يتوهم أنه حين يحسن بجماعته وأهله ومجتمعه يكون متفضلاً عليهم ، ويكون من حقه أن ينتظر شكرهم ، إن فن عمل الخير بصمت ليس أمراً طبيعياً إلا لدى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمقتفين لآثارهم من خلص أتباعهم ، أما باقي الناس فإن عليهم أن ينموا في أنفسهم هذا الفن ، فن العمل الخفي التقي الصامت لأنه ضد نزعة الأنا الموجودة في نفوسنا ،
                          ب /
                          المسلم مطالب على نحو ما نعرف جميعاً بأن يبذل جهده في الإحسان إلى الخلق و تحمل أذاهم وتحسس المواقف المطلوبة منه تجاههم ، وله على ذلك الأجر العظيم ، هذا الأجر جزء فوري يتمثل في السعادة التي نجدها عندما نؤدي واجباً أو نفرج عن مكروب أو نمسح دمعة يتيم أو مكلوم ، والجزء الآخر يكمن فيما نؤمل من جميل موعود الله تعالى في الجنة ونعيمها لكن نحن كثيراً ما نجد أنفسنا مرتبكين حيال ما علينا أن نفعله في علاقاتنا مع الآخرين حتى نحصل على السعادة والثواب من الله سبحانه وتعالى ، ولاسيما ما يمكن أن نسميه بالعلاقات الخاصة أو الحميمة في نطاق الأسرة ونطاق الصداقة الشخصية والزمالة وما شابه ذلك ، وانطلاقاً من إيماننا العميق بوحدة القضية على مبدأ إذا أسعدت الآخرين أسعدت نفسي ، وإذا آذيت الآخرين آذيت نفسي ، ومبدأ إذا أسعدني غيري فقد أسعد نفسه ، وإذا آذاني فقد آذى نفسه ، أقول انطلاقاً من هذا المبدأ نحتاج إلى بلورة بعض الأمور التي تساعدنا على توليد أجمل المشاعر وأهنأ العلاقات مع القليل والقليل جداً من المكدرات و المنغصات الاجتماعية ، و نظراً لأهمية هذه القضية فقد أسهب فيها بعض الإسهاب لتكون آخر نطرقها في هذا العمل ومن الله تعالى التسديد والمعونة ، ،،،
                          أولاً :
                          لعل من الحكمة ، أن يسأل الواحد منا نفسه بين الفينة والفينة ، هل أنا لطيف ؟ هل أراعي مشاعر الآخرين وحقوقهم ؟ هل أنا أناني أفكر في رغباتي الخاصة ؟ هل أنا صريح أكثر مما ينبغي إلى درجة إيقاع الآخرين في الحرج ؟ هل ألتزم الحد الأدنى من حقوق المسلمين علي ؟ وهذا الحد من اللطيف أن يحي بن معاذ رحمه الله تعالى لخصه بقوله : " ليكن حظ المؤمن منك ثلاثا : إن لم تنفعه فلا تضره ، وإن لم تفرحه فلا تغمه ، وإن لم تمدحه فلا تذمه " هذا الحد الأدنى ، كف البلاء ، وكف الأذى والإيذاء عن المسلمين ..
                          ثانياً :
                          لعلنا نستطيع أن نجاهد أنفسنا لننظر إلى بعض الأمور نظرة جديدة ، في سبيل تحسين مشاعرنا ومواقفنا تجاه بعضنا ، ما رأيكم في أن ننظر إلى إيثار الآخرين على أنفسنا في بعض الأمور والأشياء على أنه اختبار للقوة ، كلما أراد الواحد منا أن يؤثر أخاه بشيء فنازعته نفسه في ذلك فليتعامل معها على أنه في حالة منازلة ، أو مغالبة ، وأن المطلوب منه أن ينتصر في هذه المغالبة ، ما رأيكم أن ننظر إلى الإيثار على أنه واقٍ أو عازل لأرواحنا عن الصدأ والأنانية ، وننظر إلى كل موقف إيثاري تطوي خيري على أنه عمل من أجل تألق الروح وإزالة الصدأ عنها ، ما رأيكم إذا نظرنا إلى تحمل الآخرين وغض الطرف عما يبدوا منهم من هفوات على أنه اختبار للحب ، الذي يحب أخاه أكثر يتحمل منه أكثر ، وحين نجد أنفسنا عاجزين عن التحمل فلننظر إلى ذلك على أنه نقص في الحب و نقص في المودة ، ،،،
                          ثالثاً :

                          كثيرون أولئك الذين نتعرف عليهم ، وكثيرون أولئك الذين نقابلهم ونقيم علاقات معهم ، لكن الذين نتخذهم أصدقاء قليلون ، والقليلون جداً هم خلص الأصدقاء ، وهم أولئك الذين يشكلون بالنسبة إلينا السند الحقيقي بعد لطف الله تعالى ومعونته في مواجهة الصعاب وتبديد الآلام ، والأحزان ، وبلوغ الأهداف والأمنيات ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( الناس كإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلة ) هناك أناس كثيرون يعرفهم الإنسان ، لكن الذي يصلح منهم أن يكون صديقاً شخصياً ، صديقاً خاصاً ، صديقاً مناسباً ، هم قلة قليلة ، يشبه ذلك عليه الصلاة والسلام بالإبل ، يكون لديك مئة ناقة قد لا تجد بين المئة أو قد تجد واحدة تصلح لأن تتخذها راحلة ، يعني قوية مناسبة ملائمة لك ، هناك نوع من الملائمة بينك وبينها تتخذها من أجل تشد رحلك عليها في السفر ، ( الناس كإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلة )، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام ،،،،
                          صفوة الأصدقاء ، هذه الصفوة لا تشكل أكثر من واحد في المئة من معارفنا ، الصديق رقم واحد إنسان نشعر بعدم الحرج إذا أفضينا إليه بالحديث عن مشكلاتنا الخاصة ، كما نشعر أنه لا يمكن أن يشمت بنا ، ولا يمكن إلا أن يتفاعل معنا ، وكأن المشكلة مشكلته ، حينما نعرض عليه مشكلة يهتم بها كما لو كانت مشكلته الشخصية ، هو إنسان يفاجئنا دائماً بأنه يعمل من أجلنا دون أن نعلم أو يعلم أحد ، حين يحتاج الواحد إلى معونة اسعافية ، إلى معونة طارئة ، في ساعة متأخرة من الليل فإن صفوة الأصدقاء وحدهم هم الذين نطلبهم لنجدتنا ، لأننا ونحن نطلب منهم ذلك نعلم أنهم لا ينزعجون ، فأولوياتهم ومصالحهم تجمد وتلغى عندما يتعلق الأمر بصديق عزيز ، ،،
                          الأصدقاء يوفرون لنا أشكالاً من الهناء ، والأمن ، والدعم المعنوي ، وهذا يشكل شيئاً مهماً في الحياة الطيبة في الحقيقة ، وهم يحولون بيننا وبين العديد من الأزمات النفسية ، بل إنه قد ثبت أن كثيراً من الاضطرابات الذهنية ينشأ بسبب ما يواجهه المرء من أزمات ومشكلات طاحنة مع القليل من الدعم الاجتماعي والمساندة الأخوية والمؤازرة من الأهل ، من الأصدقاء من الجيران من الزملاء ، علينا إذا وجدنا الصديق الصدوق أن نحرص على أخوته ، وأن لا نفرط بسهولة بصداقته ، وعلينا إلى جانب ذلك أن نصارحه بالأثر الطيب الذي يتركه في حياتنا و بالمشاعر الدافئة ،ومشاعر الإعزاز والتقدير والاحترام التي نكنها له ، هذا في الحقيقة مهم جداً لتنمية علائق الأخوة ، وتوثيق روابط المودة والصداقة ، كما أنه مهم لتأكد كل صديق من أن التضحيات التي يقوم بها من اجل صديقة وقعت في موقعها ، وهي موضع عرفان وتقدير ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليعلمه ، فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة ) وفي رواية : ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه ) تصور معي أن رجلاً من معارفك ، طرق بابك ، وجاء إليك لا لحاجة ولا لشيء إلا لأن يخبرك بأنك صديق عزيز وأنك تحتل مكانة متميزة في قلبه ، وأنه يرغب في أن ينمي هذه العلاقة ، وبأنك تستطيع أن تعتمد عليه في أوقات الشدة وفي أوقات الرخاء ، تصور هذا ، كيف سيكون وقع هذا في قلبك وفي نفسك ، لذلك تجد فيه شفافية في قوله عليه الصلاة والسلام : ( فليأته في منزله ) اذهب إليه ( فليخبره أنه يحبه ) قال أحدهم : قال لي جاري : صديق عند الضيق ، هو ما أود أن أكون ، وقت الشدة سألجأ إليك ، وعند الحاجة ستجدني صادقا معك ، ومخلصاً لك ، يقول الرجل : فكرت قليلاً ، ثم وضعت يدي في يده ، وقلت له : أيها الصديق أنت قد لا تعرف المعنى الداخلي لهذه العبارة ــ الكلام الذي قلته لي قد لا تعرف ما يترك في نفسي من تأثير ـ الصديق هو ما يحتاج إليه القلب في كل وقت ، وليس في أوقات الشدة فحسب ، ،،
                          بعض الناس حرموا أنفسهم من السعادة التي توفرها الصداقة العميقة لأنهم لا يثقون بغيرهم ، ولا يثق غيرهم بهم ، إنهم لا يثقون بغيرهم بسبب ما لديهم من سوء ظن ، ولا يثق غيرهم بهم بسبب سوء أفعالهم ، أو بسبب ما يسيطر عليهم من الحسابات النفعية ، فهم يريدون أن يتخذوا من الصداقة بقرة حلوبة ، تدر عليهم المنافع ، هؤلاء الناي إلي لا يألفون ولا يألفون يشعرون بالغربة والوحشة ، ولو كانوا يحيون بين أهليهم وذويهم ، إذا كنت حزيناً لأن بعض معارفك أو بعض ما يمكن أن تعدهم أصدقاء لك يغارون من إنجازاتك ، فينبغي أن تعلم أن الحياة كانت دائماً هكذا ، هناك غيرة بين المعارف وبين الأحبة مالم تصل الصداقة إلى درجة عالية عالية جداً ، عظماء كثيرون عانوا من مثل هذا الذي تذكره ، وكثيرٌ منهم أثبتوا عظمتهم من خلال ترفعهم عن التوافه وتجاوز الهفوات ، انسجامً مع النبل الذي بين جوانحهم ومع المعاني التي جعلتهم عظماء ، أما نحن من جهتنا فعلينا أن نعترف بالجميل لمن يحسن إلينا ، حيث إن الاعتراف بالجميل يجعل صاحبه يحافظ على الصداقة القديمة ، ويكسب صداقات جديدة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحسن إليكم فكافئوه ، فإن لم تستطيعوا فادعوا له ) ،،، كنت في زيارة من مدة لواحد من الرجال المعدودين في المجال التربوي ، وقد أدهشني تواضعه الجم الذي لم يشوش على معاني العظمة التي يتحلى بها ، وكان قد نقل قولاً عن أحد أصدقاءه وذلك الصديق توفي منذ نحو عشرين سنة ، واستطرد في الكلام حيث قال عن ذلك الرجل : فلان كان صديق عمري ثم قال وله علي أيادٍ وأفضال كثيرة جداً ، وقد علا ذلك المربي في عيني وعظم للعرفان بالجميل لصديق توفي من مدة ليست قليلة،،،،
                          مما يعكر صفو الصداقة وصفو الأخوة ، الأحكام التي نصدرها على بعضنا ، ويبدوا أننا لا نستطيع أن نتحاشى ذلك للعديد من الأسباب ، لكن نستطيع أن نلتزم بالأدب الإسلامي الرفيع عند إصدار أي حكم على أي صديق ، لننطلق من مبدأ أن معرفتنا ببعضنا ليست كاملة ، الواحد منا يا أخي لا يعرف نفسه تمام المعرفة ، فكيف تكون معرفته بغيره تامة !! ، ولهذا فإن أي تصرف يقوم به أحد الناس يكون له خلفيته الخاصة ، قد يكون معذوراً فيما نأخذه عليه ، وقد يكون قام به بناءً على اجتهاد منه أو بناءً على موازنة لتحقيق خير الخيرين أو دفع شر الشرين ،،،،
                          و يذكرون في هذا المقام أن أحد السلاطين سجن أحد الأشخاص بسبب إنكاره لبعض ما صدر منه ، ويبدوا أنه صدر منه أشياء شنيعة ، ويبدوا أيضاً أن قد أصدر عليه حكماً بالإعدام ، فذهب أحد علماء المسلمين وقد كان هذا الرجل ذا مكانة لدى الدولة ، ذهب يستشفع في ذلك الرجل ويطلب إطلاق سراحه ، وذلك الرجل كان صديقاً حميماً لذلك العالم ، وهنا وافق السلطان على العفو عنه ، والإبقاء على حياته ، وإطلاق سراحة ، لكن بشرط ، ما هو ذلك الشرط ؟ ، الشرط أن يقوم ذلك العالم بضرب صديقه بنعله عشر ضربات أمام الملأ ، أمام الناس ، وقد كان الموقف محرجاً جدا ، لكن ذلك العالم وافق على الشرط ، نظراً لأن فيه ارتكاب أخف الضررين ، وفعلاً ضرب صديقه وأخرج من السجن وانتهى كل شيء ، الناس الذين لا يعرفون الحكاية ، لا يعرفون الخطر الذي كان يتهدد ذلك الرجل ، ولا يعرفون أن الضرب كان شرطاً لإزالة ذلك الخطر عنه ، هؤلاء الناس صاروا ينتقدون ذلك العالم ، و يشهرون به بحجة أنه ضرب مظلوماً وضرب صديقاً ، و أهانه ، أما الرجل نفسه فإنه لما فهم من صديقه العالم القضية ، عانقه ، وأثنى على العمل الذي قام به ، وتوثقت عرى المودة والصداقة فيما بينهما ، اعتبره منقذاً له مما كان ينتظره ، ،،
                          حين ينقل إلينا خير عن صديق فلنستوثق ، ولنتبين ، كما قال جل وعلا : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) وفي قراءة صحيحة ( فتثبتوا ) ( أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ، قبل أن ننشر خبراً سمعناه فيه إساءة لأحد من الناس ، لنسأل أنفسنا عدداً من الأسئلة ، هل ما سمعناه صحيح ؟ أو هو شائعة وتقول ؟ وبالمناسبة معظم الأخبار التي تتناقل شفوياً وخاصة الأخبار التي فيها تجريح للناس ، الناس يحبون ـ لا أريد أن أقول الناس إنما معظم الناس ، يحبون نشر الفضائح ، فالأخبار التي تتناقل شفوياً ويكون فيها فضيحة لشخص أو نقد لشخص ، هذه الأخبار كلما طال سندها كلما طال الناس الذين يتناقلونها ، كلما كثروا يزداد التشويه في تلك الأخبار ويزداد التحريف ، ويزداد البعد عن الحقيقة ، لذلك إذا سمعنا خبراً لنسأل أنفسنا ، هل ما سمعنها صحيح ؟ وهل هو فعلاً كذلك أو فيه تزيّدات ؟ ثم هل هناك حاجة أو فائدة من نشره وإذاعته بين الناس ؟ ما الفائدة من نشر فضائح العباد ؟ ثم هل نشره أمر مطلوب أو مرغوب فيه أو يحقق مصلحة عامة ؟ في ضوء هذه الأسئلة نقرر ، مالذي علينا أن نفعله ،،،
                          علاقتنا الحميمة كثير ما تكون حساسة ، وكثير ما يكون جرحها وتكديرها أمرا سهلا ، ولهذا فإن علينا أن نرعاها بشفافية وبإحساس مرهف ، لا نحمل الصداقة أكثر مما تحتمل ، لا نحمل العلاقة أكثر مما تحتمل ، لا نحمل الصديق أكثر مما يحتمل ، ،،
                          رابعاً :

                          للسعادة رافدان أزليان أبديان ، هما " البساطة والطيبة "
                          إذا أردنا لمشاعرنا أن تنتعش لنفوسنا أن ترتاح ، فلنشع هاتين الفضيلتين في حياتنا العامة وفي علاقاتنا المتبادلة ، تعني البساطة عدم التكلف ، تعني التخفيف من التعامل الرسمي ، والتخفيف من القيود المظهرية ،،

                          الناس كلهم يحبون أن يتعاملوا دون تعقيدات ، وأن يتقابلوا وجهاً لوجه دون أقناع ، لأن التكلف متعب بالنسبة لهم ، ومكلف ومزعج ، وهو الضريبة التي يدفعها معظم الأثرياء والوجهاء ، إن البساطة توفر للفقراء وللأشخاص العاديين قدراً لا يستهان به من الهناء ، فهم يتناولون الطعام البسيط عند جيرانهم ، وأقرباءهم وأصدقاءهم دون مواعيد مسبقة ، ودون استعدادات كبيرة ، ويطلبون من بعضهم المعونة بيسر وسهولة ، ودون شعور بكبير حرج ، ولذا قلوبهم تظل قريبة من بعضها ، وهم لا يحتاجون إلى التصنع لأن أمورهم مكشوفة أمام بعضهم ، أما الأثرياء وأصفياء المجتمع فإنهم محرومون من ذلك كله أو من أكثره ، ،،
                          كان أحد رجالات الدولة الأموية ، أظنه عبد الملك بن مروان أو ولده سليمان بن عبد الملك ، كان يقول : ما من لذة من لذات الدنيا إلا ذقتها ، ما عدا لذة واحدة ، قيل له ما هي ؟ قال : أخ صدوق أطرح في مجالستي له مؤونة التكلف ، أخ من طراز راقي عالي أجلس معه دون تصنع ، أقول ما أحب وأسمع منه ما يحب ، وأقدم له ما يحب ، ويقدم لي ما أحب ، بدون عقد أو تصنعات ، أعتقد أننا لو ملكنا الشجاعة الكافية لحصلنا على كثير مما نريد في هذا ، ولكن ليس مع كل الناس ، نحب عدم التكلف ، لكن نخاف من نقد الناس ، نخاف من أن يفسروا عدم الاهتمام بتحضير ضيافة ، مثلا ، يعني بتحضير ضيافة فاخرة أو جيدة لهم على أنه بخل ، أو على أنه يعبر عن الاستخفاف بهم ، لكن هذا سيزول إذا فهموا أننا نتصرف هكذا ، ثقة بالمودة ، ووحدة الحال التي بيننا ، ،،
                          الطيبة تعد مصدر هناء كما ذكرت ، وهي تعني : عدم التدقيق على كلام الآخرين ، عدم التشدد في نقد أحوالهم ، عدم الإلحاح على معرفة أخبارهم وأوضاعهم ، وتعني أيضا حسن الظن بهم ، و حمل كلامهم على أحسن وجه ،
                          الطيبة تعني على أننا نسهل للناس طرق فهمهم لنا وطرق تعاملهم معنا ، هناك أناس غامضون ، أشبه بكتاب طلاسم ، تمشي معه وتمضي وتصادقه وتعمل معه لكن تشعر دائماً أنه حذر منك ، يخبئ نفسه خلف الأقنعة ، هذا الإنسان لا يقدم مسرات ، يبقى متوجساً من الناس ، والناس بالتالي يتوجسون منه خيفة ، نسهل للناس طرق فهمهم لنا و ونسهل لهم أيضاً طرق تعاملهم معنا ، ومن كان منا لا يملك مثل هذه المعاني فليجاهد نفسه ليملك أكبر قدر منها في سبيل إسعاد نفسه وإسعاد غيره ، ،،

                          خامساً :
                          نحن لا نختلف أن سعادة المرء تنبع في داخله ومن داخله ، ولكن كثيرا ما تجمعنا الظروف والأعمال بأشخاص ينشرون الكآبة أينما ذهبوا ، ويبعثون في نفوس جلساءهم الحزن والأسى ، إنهم أناس ناقمون على أنفسهم ، ناقمون على كل شيء من حولهم ، ومن الطريف أنه يدغدغ بعضهم بعضا حتى يتمكنوا من الضحك ، وهم يضحكون ، لكن قلوبهم باكية ، هؤلاء الناس يشقون أنفسهم بأنفسهم ، بسبب رؤيتهم الحولاء للكون ، وبسبب الأوهام والأفكار الفاسدة التي تسيطر عليهم ، والواحد منا حين يجتمع بواحد من هؤلاء يحتاج إلى الكثير من الاستبشار والأمل والطموح والحماسة حتى يبقي على نضارة روح وحيوية نفسه ، إن هؤلاء لا يعرفون أن شكوى واحدة أمام واحد من الناس تطلق مئة شكوى من عقالها ، وأن خوفا واحدا يطلق مئة صرخة خوف ، ولهذا فإنهم يسممون حياتهم ، ويسممون حياة غيرهم من حيث لا يشعرون ، هؤلاء اليائسون المحبطون الذين لا يرون غلا الجانب المظلم من الحياة وقعوا فيما وقعوا فيه لعدد من الأسباب ، قد يكون أهمها أنهم لا يعرفون أن هناك معركة ينبغي خوضها قبل إحراز النصر ، هم يطلبون نصراً دون معارك ، ولكن النصر لا يأتي هكذا ، النصر في الحياة كما رتب الله جل وعلا يأتي بعد المجاهدة وبعد البذل وبعد العطاء ، وهؤلاء يريدون نصراً بدون معارك ، ولذلك ، يتطلعون دائماً إلى التمتع بانتصارات لم يخوضوا معاركها ، وهذا كما قلت لا يكون ،،،،
                          في الأمة إمكانات هائلة ، فيها رجال ونساء على أعلى قدر من الرقي والفاعلية والخيرية ، وعلينا أن نقبس من روح هؤلاء ، ومن عزائمهم التي لا تلين معاني الإقدام ، والاستمرار في العمل ونشر الخير ، والصبر على المكاره ومقاومة الإحباط والثبات على المبدأ .......
                          في الختام :
                          أدعوا الله جل وعلا أن يرزقنا الرشد في الأمر كله ، وأن يصلحنا ، ويصلح لنا ، ويصلح بنا ، وأن يسعدنا ، ويسعد بنا ، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،،
                          وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..


                          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                          تعليق

                          • شروق الامل...
                            زهرة لا تنسى "إشراقة الحرف - زهرة الحوار "
                            • Oct 2004
                            • 10864

                            #14
                            الله يسعدك نجومه ولايحرمك الاجــــــــر
                            § •°• رحلتي مع السعادة , ومن أين بدأت وكيف أصبحت , شاركوني فرحتي بها •°• §
                            الاستغفار بنية طلب شئ معين !!! ما حكمه ؟

                            قصص للمداوميين على الأستغفار وقيام الليل

                            http://www.lakii.com/vb/a-6/a-754247/

                            أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم
                            وأتوب إليه


                            قال ابن القيّم : إذا أردت أن تعرف قيمتك عند الله فانظر بماذا يشغلك ؟!




                            اللهم اغفر للمؤمنيين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات


                            تعليق

                            • صديقة الزهور
                              زهرة الحوار
                              • Oct 2003
                              • 4755

                              #15
                              المتشائم يعيش في نكدٍ دائم لأنه بين أمرين سيئين مكروه يصيبه ومكروه يتوقعه


                              اعجبتني هذي الجملة من الشريط الثالث


                              هلا نبووووض

                              الله ينور قلبك بالإيمان ويشرح صدرك بالإسلام ويريحك بالصلاة والقرآن

                              ويجمعنا على الخير دوماً

                              اسعدتني متابعتك

                              تعليق

                              يعمل...