منقول من مركز نون للدراسات القرآنية
:: فتـنة عثمــان ::
بقلم : بسّام جرار
فتنة عثمان مثال نموذجي على فكر ساد في القرن العشرين، ولا تزال ذيوله تنسحب على القرن الحادي والعشرين، ولا زلنا نسمع ترديد مقولات كان لها صولة، وإن كانت قد فقدت بريقها نظراً لسقوط الماركسيّة، ولتطور الوعي، ونظراً للصحوة الدينيّة التي باتت تشكل رأياً عاماً في بلاد العرب والمسلمين. وإذا ما قارنّا الفكر الماركسي بالفكر العلماني نجد أنّ الفكر العلماني أقرب إلى الموضوعيّة نسبياً من الفكر الماركسي، والذي هو فكر أُصولي غير مرن، وكان من ضرورات هذا الفكر أن يحارب الدين ، ويشكك في الخالق، لأن هذا مقدمة لا بد منها لنشر الفكرة الماركسية. من هنا كنا نجد أنّ الماركسيين هم أكثر من يتبنى التشكيك، ويحمل وزر تضليل الأجيال الشابة. ومعلوم أنّ الماركسية ترى أن لا موضوعيًة في الفكر، لذا ليس عجيباً أن نراهم ينتقون من الروايات ما يشاءون ثم يعطون أنفسهم الحق الكامل بتحكيم ذواتهم في فهم الفكر والتاريخ، ويدهشك أنهم يصدرون أحكاماً قاطعة غير قابلة للجدال، على الرغم من أنً الفكر الماركسي يرى أن لا حقيقة موجودة في هذا الكون.
لم تعد الماركسيّة بحاجة إلى نقاش، والمشكلة القائمة اليوم لدى بعض طلاب الجامعات، أنّ من كانوا يحملون الفكر الماركسي، ثم انتقلوا إلى تبني الفكر العلماني، اصطحبوا معهم مكوناتهم الفكرية السّابقة، ثم هم لا زالوا يرددون الشبهات القديمة، ومنها شبهات تتعلق بالتاريخ الإسلامي، هذا التاريخ الذي يلهم الأجيال ويبني القيم، ومن هذه الشبهات بعض الملابسات التي أحاطت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
دُعيتُ إلى إلقاء محاضرة في قسم التاريخ بجامعة بيرزيت، وكنت أعلم أن التاريخ يدرّس من قبل عدد من المناهضين لتاريخ الأمة وحضارتها، وكان موضوع المحاضرة:
( فتنة عثمان). بدأتُ المحاضرة بالآتي:" درست الروايات التاريخية التي تتحدث عن الفتنة فوجدتها كلها ضعيفة، وعلى هذا الأساس لا يمكننا أن نعتمد على رواية منها، وفي الحقيقة ليس لدينا شيء نركن إليه، إلا من نُتف في كتب الحديث هي أصح ما ورد، وهي تنسجم مع الصورة التي لدينا عن الصحابة الكرام " ثم قلت : " عند هذا الكلام يمكن أن ننهي المحاضرة، فأي شيء نعرف عن الفتنة ؟! " وبما أنّه لا يليق أن تكون المحاضرة دقائق، وإن كانت هذه الدقائق تأتي على أوهام تدرّس على مدى محاضرات وفصول، لذا رأيت أن أكمل فقلت:" بعد دراسة الروايات الضعيفة وجدنا أن أقلها ضعفاً هي رواية شخص اسمه سيف، وهو شيعي المذهب، أي يفترض أنّه متعصب ضد عثمان والأمويين، وعلى الرغم من ذلك كانت هي الرواية الأصح سندا، فدعونا نستمع إلى رواية سيف هذا "وقمت بسرد الرواية بشكل تفصيلي. ويمكنك أن تتوقع استياء الماركسيين والعلمانيين من هذه الرواية، لأنها تنقض الشبهات، وتفسر لك الأحداث بشكل يجعلك متفهماً ومقدرّاً للظروف والملابسات التي أحاطت بالفتنة.
يقولون دعونا نفكر وننتقد بعيداً عن التعصب، ثم تكتشف أنهم يتعصبون ويحاربون التفكير الموضوعي. يقولون:"قال الطبري في تاريخه " فهل يقولون إن الطبري كان يجمع كل ما قيل حول الفتنة بغض النظر عن صحته، لأنه كان يسرد أسانيد الروايات، ويترك مسؤولية الحكم للدارس؟ وهل درسوا الأسانيد، وناقشوا الروايات ثم اختاروا الأصح، أم أنهم اختاروا ما يتلاءم مع أفكارهم السابقة ورغباتهم ؟! نعم يقولون " قال الطبري في تاريخه " فهل يقولون إنّه كتب بعد ما يقارب من 250 سنة من الحادثة. وإنّ ما كُتب من تاريخ الفتنة، وتاريخ بني أميّة، إنما كان في زمن بني العبّاس؟!
يقولون قال" الواقدي " فهل يقولون إن الواقدي لم يكن ثقة بمنظار أهل عصره، وبالتالي لا يؤخذ برواياته؟! ويقولون قال "اليعقوبي " فهل يقولون إن الرجل قد وُصف من قبل معاصريه بأنه كذّاب؟! ويقولون جاء في " الأغاني " فهل يقولون إن كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني لا يُعنى بالحادثة التاريخية وصدقها، وإنما يعنى بطرافة القصة وما فيها من أدب وشعر وإثارة وتشويق.
عالم التاريخ عندهم عالم عجيب، والأعجب أنهم يطلقون عليه اسم (علم التاريخ)، وإذا ما طالبتهم بتطبيق المنهجية العلميّة في البحث التاريخي، وعلى وجه الخصوص (علم أصول الحديث ) ومنه (علم مصطلح الحديث ) يقولون لك إذاً لا يبقى لنا من التاريخ إلا القليل.
نقول : وما حاجتنا إلى الكثير الذي لا يسمن ولا يغني، ولكن لا بأس بالرواية التاريخية التي تبني عندك القيم والاتجاهات الإيجابية، وقد يُعذر الذي يأخذ بهذه الروايات لهذا الهدف من غير تمحيص، ولكن ما حجة من يأخذها على أنها مسلّمات بهدف التشكيك وإثارة البلبلة، وإضعاف الثقة بماضي الأمة وأصالتها، ونسف كل ما يلهم العزة والكرامة والأخلاق. ولا نحتاج إلى طول تفكير حتى ندرك أن اللسان الواحد لكل الماركسيين، وكثير من العلمانيين، إنما هو نتيجة شعور كل هؤلاء بأن تأثير التاريخ الإسلامي في غاية القوة والعمق، مما يحبط كل وسائل الغزو الفكري الذي يقوده الغرب، من أجل تغريب الأمة.
والمراقب للدراسات التشكيكية يجد أن منبعها الدراسات الإستشراقية والتي يهيمن عليها نسبة كبيرة من اليهود. من هنا لا بد من التنبيه إلى أن العلم شيء، وهذه الدراسات شيء أخر، فهي كما قلنا وسيلة من وسائل الغزو الفكري والحرب الباردة.
الروابط المفضلة