لا مجال في الإسلام للتشدد والغلو، كما أنه لا مجال للتفريط والتمييع، فمن محاسن الشريعة الإسلامية، وكلها محاسن، أنها توازن بين مصلحة الفرد والجماعة، وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات، وتتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستقيم، وتجمع بين الدنيا والآخرة، وتركز على الجانب الروحي، كما لا تغفل الجانب المادي.

رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو المثال الأكمل للفكر الوسطي، وأمتنا لا تكون وسطًا إلا باتّباعها له صلى الله عليه وسلم في سيرته وشريعته وأفعاله وأقواله، ومن الثابت أن المسلمين حين ظهروا، تزعّموا العالم بوسطيتهم، وعزلوا الأمم المريضة التي وقعت في الإفراط والتفريط من زعامة الإنسانيّة، فالأمة الرأسماليّة تورطت في ممارسات سلبية شجعت الفرد على تملّك المال بالاحتكار والحيل والربا، والمذاهب الاشتراكيّة اعتبرت المجتمع هو الغاية، وأهملت الحقوق الفردية، بيد أن الإسلام قدم صورة متوازنة رائعة، بوصفه دينًا جاء لإسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة.

إن فكرة التوازن هي ضابط إيقاعلبقاء والاستمرارية والصلاحية، وقد شهدنا في الكون توازنًا عجيبًا، شهد تناسقًا فريدًا بين الليل والنهار، والظلام والنور، والحرارة والبرودة، والماء واليابس.. والمقابلات كلها بقدر وميزان وحساب.. لا يطغى شيء منها على مقابله، ولا يخرج عن حدّه المقدّر له.. وكذلك الشمس والقمر والنجوم، والمجموعات الكونيّة السابحة في فضاء الكون الفسيح.. كل منها يسبح في مداره، ويدور في فلكه، دون أن يصدم غيره، أو يخرج عن دائرته، وتأتي الآيات القرآنية لتجلي هذا المعنى وتؤكده، يقول تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}[الملك:3]، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2]، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[السجدة:7]، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل:88].

إن الفلسفات والمذاهب الأرضية لم تعرف التوازن، فقد وقعت في تحيزات صارخة وفاضحة للفرد تارة وللمجتمع أخرى، والحال أن عالم اليوم يقوم فيه صراع ضخم بين المذهب الفردي والمذهب الجماعي، فنرى الرأسماليّة تقوم على تقديس الفرديّة، واعتبار الفرد هو المحور الأساسي، فهي تدلّله بإعطاء حرية التملّك، وحرية القول، وحرية التصرّف، وحرية التمتع، ولو أدّت هذه الحريات إلى إضرار نفسه، وإضرار غيره، ما دام يستخدم حريته الشخصية، ومن ثم فهو يتملّك المال بالاحتكار، والحيل، والربا، وينفقه في اللهو والخمر والفجور، ويمسكه عن الفقراء والمساكين والمعوزين، ولا سلطان لأحد عليه، لأنه «حر».

وتأتي المذاهب الاشتراكيّة - وبخاصة المتطرّفة منها كالماركسيّة - تقوم على الحطّ من حقوق الفرد، والتقليل من حريَّته، والإكثار من واجباته، واعتبار المجتمع هو الغاية، وهو الأصل.. وما الأفراد إلا أجزاء أو تروس صغيرة في تلك «الآلة» الجبّارة، التي هي الحزب الحاكم، وإن شئت قلت: «اللجنة العليا للحزب»، وربما كانت زعيم الحزب «الدكتاتور»، وأن الفرد ليس له حق التملّك إلا في بعض الأمتعة والمنقولات، وليس له حق المعارضة، ولا حق التوجيه، وإذا حدّثته نفسه بالنقد العلني أو الخفي، فإن السجون والمنافي وحبال المشانق له بالمرصاد.

في مقابل ذلك جاء الإسلام ليقيم التوازن في الحياة، والقسط بين الناس، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد:25]، وسار بالإنسانيّة سيرًا حثيثًا متزنًا عادلاً، توافرت فيه تلك الفكرة الوسطيّة التي أهّلت المسلمين لقيادة الأمم، وضمنت السعادة والفلاح في ظل تلك القيادة، تلك الفكرة المنبثقة من كتاب منزل، وشريعة إلهيّة، لتؤدّي في حياة البشر دورًا خاصًا، لا ينهض به سواها، حيث إقرار منهج الله في الحياة، وتحقيقه في صورة واقعيّة، ذات معالم منظورة، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال، ومشاعر وأخلاق، وأوضاع وارتباطات. وهي لا تحقق غاية وجودها، ولا تستقيم على طريقها، ولا تنشئ في الأرض هذه الصورة الوضيئة المضيئة الفريدة من الحياة الواقعيّة الخاصة المتميّزة إلا إذا تلقّت من منهج الله وحده، وفي ظل ذلك تنمو العقول وتتفتّح، وتتعرّف على ما في الكون وأسراره، وتسخّر قواه وطاقاته ومدّخراته.. كل هذا لخير البشريّة، لا للتهديد بالخراب والدمار، والضياع والبوار، قال تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143].

والوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادة القويمة، فهو شرّ ومذموم، ومن ثم فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما.

وقال الأستاذ الإمام: ولكن يقال: لِمَ اختير لفظ «الوسط» على لفظ الخيار، مع أن هذا هو المقصود، والأول إنما يدل عليه بالالتزام؟

والجواب من وجهين: أحدهما: أن وجه الاختيار هو التمهيد للتعليل الآتي: فإن الشاهد على الشيء لابدّ أن يكون عارفًا به، ومن كان متوسّطًا بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب، ويرى الثاني من الجانب الآخر، وأما من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة الطرف الآخر، ولا حقيقة الوسط أيضًا، والثاني: أن في لفظ الوسط إشعارًا بالسببيّة، فكأنه دليل على نفسه، أي أن المسلمين خيار وعدول؛ لأنهم وسط، ليسوا من أرباب الغلوّ في الدّين المفْرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال.

إن الأمة الإسلاميّة جمع الله لها في دينها بين الحقّين: حقّ الروح، وحقّ الجسد، فهي روحانيّة تعنى بحق الإنسان في الحياة، وإن شئت قلت: إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانيّة، فإنَّ الإنسان مادة وروح، فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطًا تعرفون الحقّين، وتبلغون الكمالين {لِتَكُونُواْ شُهَدَاء} بالحق «عَلَى النَّاسِ» الماديّين، بما فرّطوا في جنب الدّين، والروحانيّين إذا أفرطوا وكانوا من الغالين، تشهدون على المفرّطين بالتعطيل، القائلين: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}[الجاثية:24] بأنهم أخلدوا إلى البهيميّة، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانيّة، وتشهدون على المفْرطين بالغلوّ في الدّين، القائلين: إن هذا الوجود حبس للأرواح، وعقوبة لها، فعلينا أن نتخلّص منه بالتخلّي عن جميع اللذات الجسمانيّة، وتعذيب الجسم، وهضم حقوق النفس، وحرمانها من جميع ما أعدّه الله لها في هذه الحياة.