معا للوصول إلى النفس المطمئنة
بالأمس القريب استقبلنا عام 1433 هـ الذى مرت أيامه سريعة وغدا نستقبل عام هجرى جديد هو عام 1434 هـ
وفي البداية يجب أن نتوقف عند مشهد يومي يستمر إلى قيام الساعة
وهو طلوع الشمس وغروبها والوقفة هنا تذكرنا أن هذه الدنيا ما هي إلا رحلة مهما طالت ستنتهي يوماً ما
ويجب أن نتوقف أيضاً عند المشهد الشهرى حيث نشاهد مولد الهلال الذى يولد كما يولد الصغار
ثم تكون عملية النمو شيئا فشيئا كما ينموا المولود الجديد ويكبر وتكتمل
ذلك مثل أكتمال البدر وهى مرحلة ترمز لمرحلة الشباب ثم يأخذ البدر في التناقص وينتهى إلى الظلام
وهكذا يكون عمر الإنسان حيث يكون وفي بداية كل عام تطلعات وأمنيات
قد يتحقق بعضها وقد يكون الموت المفاجيء سبباً في عدم تحقيق الكثير من تلك الأمنيات والتطلعات
وبما أننا نستعد لوداع عاما يلفظ انفاسه الأخيرة وفى نفس الوقت نستقبل عاما جديدا
نجد التهاني قد إنهالت بين المسلمين ولكن قبل التهاني
هل فكرنا وسألنا أنفسنا ماذا أودعنا في عامنا المنصرم وبماذا نستقبل عامنا الجديد ؟
من حق المسلم أن يفرح ولكن يجب أن تكون الفرحة مقرونة بفكر وواقعية ومواعظ كثيرة أهمها :
هل عرف كل منا أن اليوم الذي يأتى هو هدم ليوم مضى؟
وأن الشهرالذى يأتى هو هدم لشهر مضى؟
والعام الذى يأتى هو هدم لعام مضى ؟
وإن ما مضى لن يعود ابدا
فالسنة تأخذ من أعمارنا وتكون بداية الهدم وتقربنا من القبر فكيف نفرح وأعمارنا تقودنا إلى الأجل المحتوم والموت المحقق ؟
وهل توقفنا وتعمقنا في قول ابن عباس رضى الله عنه :
( كيف نفرح والموت من ورائنا ، والقبور أمامنا ، والقيامة موعدنا ، وعلى جهنم طريقنا ، وبين يدّي ربّنا موقفنا )
وهل توقفنا أكثر وأعمق عند وصية المصطفى صلى الله عليه سلم البليغة لابن عمر :
( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )
إن الإنسان الكيس الفطن لابد أن يحاسب نفسه فبل أن يحاسبه الله وييصحح من أخطائه أولا بأول
والحساب يكون يومى وشهرى وسنوى ليرى مجمل أعماله هل تساوت كفتى الميزان ونجتهد لزيادة الحسنات
أم رجحت كفة الحسنات فأزيد فأكون من الناجين المحسنين
أم فاضت كفة السيئات فأجتهد واتيع السيئة الحسنة تمحوها
قال تعالى:
(بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ , وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)
القيامة : 15:14
عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهُ قالَ قالَ لي رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ :
(اتَّقِ اللَّهَ حيثُما كنتَ وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها وخالِقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ)
الراوي: أبو ذر الغفاري
المحدث :ابن حجر العسقلانى
خلاصة حكم المحدث: حسن
وبناء عليه يجب على كلا منا الوقوف مع النفس لحسابها على ما كان منها وما يجب تصحيحه أو الاقلاع عنه
وما يجب زيادته من الخيرات فهذه من وسائل علاج النفس لتحريرها
فإذا كانت النفس أمارة بالسوء وجب علاجها
والنفس الأمارة هي النفس التي تحث وتحض على فعل السـوء وتزينـه لصاحبــها
حتى يظن أن فيه سعـادته الحقيقية وما يعلم أن فيه شقاؤه وهلاكه
أن النفس الأمارة بالسوء تتأثر بالعقل والعقل يتأثر بالمدركـــات الحسية
كالنظر والسمع واللمس والشم وهذه المدركــات تتجمع في العقل وتكون الرغبــة
التي تصل إلى النفس الأمارة بالســوء فتبدأ بدفعك للوقوع في المنكرات
قال تعالى :
{.. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ..}
يوسف: 53
(كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع،
واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، يصدق ذلك الفرج ويكذبه)
الراوي: أبو هريرة
المحدث : السيوطى
المصدر: الجامع الصغير
خلاصة حكم المحدث: صحيح
فالقلب لم يقع في المعصية إلا بعد إثارة المقدمات الحسية التى تدفعه لفعل المنكرات
مثل مشاهدة الافلام وسماع الموسيقى والدخول إلى المواقع المخلة بالادب وجلساء السوء وغيرها كثير
والفرق بين تسويــل النفس ووسوسة الشيطان
أن النفس تظل تسول لك نفس جنس المعصية
أما الشيطــان فهو لص الإيمان يحاول أن يوقعك في أي معصية أي كانت حتى يشغلك عن طاعة الله
وهذه يجب علاجها بالتطهر من شوائبها والقرب من الله وقراءة القرآن ومجالسة الصالحين
والبعد عما نهى الله عنه وأن يجدك الله حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك
وهذا يحتاج جهد ومصابرة وأخلاص إذا كنت تريد الخلاص
حتى ترتقى نفسك وتصبح لوامة
و النفس اللوامة التي كلما وقع العبد في محظور لامته عليه حتى يُســارع بالتوبـــة والاستغفــار
قال تعالى
{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}
القيامة: 2
ولا يقسِم الباري بشيء إلا لعلو قدره ورفيع منزلته عند الله تعالى
علاقة النفس اللوامة بالعقل
والعلاقة بينهما أقوى من العلاقة بين العقل والنفس الأمارة بالسـوء
فتأثر العقل بالمدركات الحسية يكون أقل من تأثره في حالة النفس الأمارة بالســـوء
لأنه إلى جانب المعاصي التي رأتها عيناه وأدركتها بقية حواسه
فإنه قد قام ببعض الأعمال الصالحة من تلاوة قرآن واستماع للمواعظ
فصار لدى عقل جانبان:
جانب يدعوه إلى الخيـــر وتقوى الله
وآخر يدعــوه إلى الشر بالوقوع في المعصية
وتظل النفس اللوامة تلومه على أفعاله السيئة
فإن استجــاب لتأنيب ضميره وأصلح من نفسه كانت نفسه أقرب إلى النفس المطمئنة منها إلى النفس الخبيثة
أما إن تركها لتغرق عادت النفس من مرحلة النفس اللوامة إلى مرحلة النفس الأمارة بالسوء
فإذا إنصلحت النفس أصبحت نفسا مطمئنة وهذا هو الهدف الأسمى لجميع المؤمنين
و النفس المطمئنة هي نفس قد لجأت إلى الله تعالى واطمأنت إليــه ورضيت عنه
فأثابها الكريـــم سبحـــانه بأبلغ ثواب وأجزل عطـــاء بما تُغبط عليه في الدنيــا والآخرة
وهذه هي مرحلة الصدق مع النفس
(الاطمئنـان)
التي يهفو إليها جميع البشر وليس المسلمون منهم فحسب
ولا ينال النفس المطمئنة إلا المؤمن الموحد ولا يحصل عليها كــافر أو مجرم بعيد عن الله سبحانه وتعالى.
لأن دين الإسلام هو الدين الوحيـــد الذي يحكم بين متطلبات العقل والروح
أما البعيدون عن طريق الله سبحانه وتعالى فإنهم يقومون بإلهاء أنفسهم بشتى الطرق
حتى لا تصطدم نفسه بعقله الراكد في شهوات الحس ويحدث بينهما صراع
قال تعالى
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (*) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (*) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (*) وَادْخُلِي جَنَّتِي}
الفجر :30:27
وهذا هو المراد من رب العباد دخول جنة الرحمن والبعد عن النيران
ولكن كيف نصل إلى النفس المطمئنة؟
إن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة النفس المطمئنة لن يكون بمعزلٍ عن الخطايــا
لأن كل بني آدم يعتريهم النقص والخطأ إنما إذا سعيت للتحلي بصفــات أصحاب النفس المطمئنة
ستنــال الاطمئنان النفسي في الدنيـــا والراحــــة الأبديـــــة في الآخـــرة
وصفات أصحاب النفس المطمئنة هى:
1
الإخــلاص
أن يكون في عناية الله تعالى ومعيته أي إنه ليس كثيــر التعثُر وأحواله ليست مضطربة أو متباينة
كما قال ابن الجوزي " إنما يتعثر من لم يخلص"
ويتضمن الاخلاص لله
- بـذل المجهود في الطــاعة
- أن يكون حريصًا على إسرار الأعمال إلا على ما ينبغي إظهاره مثل الصلاة والدعوة والجهاد
- الحرص الشديــد على إصلاح العمل وإتقانه وإحسانه لأنه يعيش لله وباللهلا لنفسه فكل ما يفعله يبذله لوجه الله
- وجل القلب وخوفه من عدم القبــول
2واعلم أنه لن يُنجيــك إلا الصدق والإخلاص
المتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
فصاحب النفس المطمئنة يتبع النبي حذو القُذة بالقُذة حتى تطغى محبته للنبي على حب المال والولد وحتى النفس
عن أنس قال: قال رسول الله
"لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"
[متفق عليه]
وعلامة الاتباعشدة الحرص على معرفة سنته وأحواله وسيـرته والإقتــداء به
3
الرضــا عن الله تعالى
فعندما يذوق طعم الإيمان يمر عليه البلاء وهو مطمئن ساكن هاديء
عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله
"ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا"
رواه مسلم
4
شدة محبة الله تعالى وتعظيمه
فقد صبغت حياته بصبغة جميلة من حسن الظن بالله تعالى
إذا ابتلاه يصبر ويرضى وإذا أنعم عليه يشكره ربِه ويحمده على نعمه
فهو سبحــانه رب ودود يتودد إلى عبــاده الصالحين
قال تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}
مريم: 96
وعلامات محبتك لله تعالى هى:
- الأنس بالله تعالى في الخلوة ..
- التلذذ بتلاوة كلام الله ..
- كثرة اللهج بذكر الله
- موافقة العبد ربَّه فيما يُحب ويكره
5
الصدق
ولن ينفعك في التعامل مع الله سوى الصدق فالصدق هو ما يجعلك تعيش مطمئنًا
عن رسول الله قال:
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة"
رواه أحمد وصححه الألباني
وللصدق انواع هى :
- الصدق مع الله تعالى ويكون
صدقا في الأقوال فلا ينطق لسانك إلا صدقا
وصدقًا في الأحوال فلا تراوغ ولا تتلون
وصدقًا في الأعمال بأن تكون مخلصا لله تعالى متبعا لهدي النبي في أعمالك
- الصدق مع النفس
بأن يكون بينه وبين نفسه مصالحة فيما يعتقده وما يفعله وأن ينصح نفسه
حتى لا تميـل مع الشهوات وتركن إليها
فيحاسب نفسه قائلاً:
يـــا نفسُ، أخلصي تتخلصي واصدقي تصلي إلى شواطيء الطمأنينة وتبتعدي عن الريب والشكوك
- الصدق مع النــاس
فلا يظهر أمام الناس بوجه مختلف عن الوجه الذي بينه وبين الله تعالى
ووهناك صفات أخرى مثل:
- التقوى
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- الإحسان إلى عبـــاد الله
- الولاء والبــراء
- حسن الخلق
هيا بنا نجلس الليلة للدعاء و نسأل الله تعالى أن يمُن علينا بهذه الصفات وأن يجعلنا من أصحـــاب النفوس المطمئنة
وأن تصل فى العام الجديد لمرتبة النفس المطمئنة
(اللهم إني أسالك نفسا مطمئنة، تؤمن بلقائك، و ترضى بقضائك، و تقنع بعطائك)
الروابط المفضلة