الحج ذكريات وخواطرْ !
غالبًا مايواجه الإنسان في شتى أموره لحظات لا تنسى وتخلد ذكراها طول حياته ~
مشاعر كثيرة مختلطة ، وأحيانًا متضاربة ومشاعر إنسانية شتى تنتاب كل من يكتب له الله تعالى سلوك سبيل تلك الرحلة الفريدة !
رحلة الحج التي قمت بها عام ١٤٣٢ هـ - ٢٠١١م
بعد أن قرر والدي الذهاب للحج وأخبرني ، كنت متحمممسة جدًا لهذه الرحلة التي أنتظرها منذ صغري !
وبدأت بالاستعداد قلبًا وقالبًا ، ( قالبًا ) كان استعدادي جيدًا ، بينما ( قلبًا ) أو إن صح التعبير ( روحيّا ) - وهو الأهم - لم أكن على أتم الاستعداد ، كون هذه الحجّة هي الأولى وكوني لا أفقه بشكل جيد شعائر الحج ومانفعل فيها وبدأت أتجول في عالم الانترنت علّي أجد دليلًا كافيًا فوقع سمعي على محاضرة قيّمة جدًا ، استفدت كثيرًا وكان أهم ما رسخ في ذهني تحدُّث الشيخ عن كيفية الاستعداد لهذه الرحلة العظيمة وماهو أهم وأغنى مصدر يمكننا أن ننهل منه؛
سورة في القرآن أنزلها تعالى على نبيه فُضّلت على سائر القرآن بسجدتين.. وسمّاها بـ "سورة الحج" ذكرَ سبحانه فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام وماشرع فيه للناس من المناسك ومافي الحج من فضائل ومنافع؛ ذكر القرطبي عن الغزنوي قال: "سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارًا ، سفرًا وحضرًا، مكيًا ومدنيًا، سلميًا وحربيًا، ناسخًا ومنسوخًا، محكمًا ومتشابهًا"
من هذا المنطلق.. بدأت أقرأ هذه السورة العظيمة قراءةً مختلفة!
قراءة شخصٍ ضلّ طريقه في صحراء قاحلة ونفذ زاده حتى وجد في طريقه بحيرة ماء فركض نحوها يغترفُ ويرتوي..
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ"
أدركتُ حينها أنّ رحلة الحجّ هذه ليست مجرّد رحلة أو نسك نؤديه وكفى!
حين قرأت الآية الأولى شعرت أن الحج يرتبط ارتباطًا وثيقًا بـيوم القيامة.. بـ "زلزلة السّاعة"!
ليس هذا فقط.. فسورة الحجّ مليئةً بما هو جدير بنا أن نعلمه ونفقهه قبل سلوك سبيل تلك الرحلة العظيمة في معانيها ومناسكها!
قرأتها وتأملتها ونحن في باص الحملة متجهين إلى مشعر "عرَفة"؛
عرَفة وما أدراك ما عرَفة!..
ذلك اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم؛ قال ﷺ: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنَعْمان -يعني عرفَة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قِبلا، قال: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ؛ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) [رواه أحمد وصححه الألباني].
فما أعظمه من يوم وما أعظمه من ميثاق!
وعن ابن عمر أن النبيّ ﷺ قال: "إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا"
في هذا اليوم العظيم تشعر بوحدانية الله وأن كل الخلق سوَاء حين يضجّ المكان بالتهليل والتكبير والدعاء من كلّ حدب وصوب.. وخير الدعاء دعاء يوم عرفة كما أخبرنا حبيبنا محمد ﷺ
وقفنا إلى أن ظهر قرص الشمس الأحمر معلنًا الغروب.. سرنَا مغادرين من عرفَة إلى مزدلفة.. أثناء المسير و "النفرة إلى مزدلفة" تشعر أنك تجاهد وأنت بين زحام يجتاح كلّ بقعة يمكن أن تمشي فوقها؛ رغم ماشعرت به من ضيق جسدي شعرت أيضًا بروحانيّة عميقة جعلتني أتوق لمزدلفة..
قال تعالى: "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام"
المشعر الحرام جبل معروف بمزدلفة واسمه قُزَح وهو المكان المبني عليه مسجد المشعر الحرام وأجمع المفسرون على أنه الجبل وما حوله فكلّ مزدلفة مشعر، صلينا جمعًا المغرب والعشاء وبتنَا بها إلى أن أتى فجر اليوم العاشر؛ ولك أن تتخيل عمق ولذّة تلك "النّومة" التي جاءت بعد تعب سير طويييييل، وكما قيل: "أجمل نومة تلك التي تأتي بعد التعب" P: .. صلّينا الفجر ودعينا الله لنا ولأحبابنا حتى أسفر الصبح وانطلقنا جميعًا إلى منى.. في طريقنا قُمنا بجمع الحصى.. ولا أخفيكم أني سببت إزعاجًا لأمي في كل حصاة ألتقطها من بين الأقدام
هل هي بحجم حبّة الحمص أم لا xD
إلى أن وصلنا إلى مشعر منى لرمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات ونكبّر مع كل واحدة
الحقيقة أن رمي الجمار كان أمتع نسك قمنا به خاصّة بعد التوسعة، جزى الله خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز خير الجزاء ()
بعد التقصير والتحلل الأول من الإحرام توجهنا إلى مكة لنطوف طواف الإفاضة، لا أخفيكم أنني كدت أختنق في في طواف الدور الأرضي – عند الكعبة- لمجرد أني نزلت الدرج فقط!! فاقترح أبي الطواف في الدور الثاني وبالفعل كان طوافًا جميلًا حيث المكان أقل ازدحامًا من غيره وألطف جوًّا ولله الحمد، أما عن شعوري هناك ومتعتي وراحتي فلا أدري كيف أصفها! :"
وفي أيام التشريق الجميلة حدثت لي مواقف كثيرة منها الطريف ومنها اللطيف؛ كنا نذهب للسوق لنشتري بعض الهدايا البسيطة لأصدقائنا وأهلنا؛ وفي هذه الأيام تعرفت على أخوات أحببتهم كثيرًا وعشنا معهم لحظات جميلة ومواقف روحانيّة ، أذكر أخت معنا أظنها من الكويت وتقع خيم حملتهم على جبل.. وعلى الضفة الأخرى منه يوجد وادي فعندما تذهب لحاجة خارج الحملة تضطر لصعود الجبل ونزوله تقول "كل ما أصعد الجبل أتمنى لو أرمي متاعي الثقيل الذي أحمله في ذلك الوادي وأصعد بدونه" ذكرتنا أمي حينها بيوم القيامة وكيف أننا في ذلك اليوم نود لو نضع أوزارنا الثقيلة من على ظهورنا..
والكثير من المواقف والدروس التي لا حصر لها، نخرج من تلك الرحلة مزودين بها ()
وقبل غروب شمس يوم 12 ذو الحجة تعجلنا الخروج من منى إلى مكة لنطوف طواف الوداع
ونودّع مكة ونعود من حيث أتينا حاملين عبق تلك الرحلة العظيمة للأحباب والأصدقاء ..
فارقتُ مكةَ والأحزان تقتلني
ولي فؤادٌ بها ثاوٍ مدى الزّمنِ!
فارقتها لا رضى مني وقد شهدَت
بذلك أملاك ذاك الركن والحجر!
فارقتها وبودّي إذ فَرقتُ بها
لو كان قد فارقَت روحي بها بدني! *
سترى هناك جموع المسلمين من كلّ حدب وصوب؛ يأتون لآداء هذه الفريضة العظيمة وهذا الركن الأخير من أركان الإسلام.. لا فرق هُناك بين غني أو فقير.. أبيض أو أسود.. كلهم سواء.. تجمعهم كلمة واحِدة "لبيك اللهم لبيك" كلمة التّوحيد الخالدة منذ ولد آدم إلى قيام الساعة لذلك كانت "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير" أفضل دعاء نقوله يوم عرفة؛ اليوم الذي يسبق نهاره ليله!
حقيقة مما أذهلنِي -ورأيته بعنيّ- تحقيق قوله ﷺ :"كان الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه" حيث هناك كلنَا إخوة في الدّين لا يجمعنا نسب أو عرق!؛ تشعر هناك بعمق الأخوّة التي تجمعهم حين ترى شابًا يساعد شيخًا دون سابق معرفة بينهما أو شابًا أعجميًا يسقي الماء لفتاتين تقفا جانبًا حتى ينفضّ الرجال عن خزانات زمزم ويأتون به لأبيهما الشيخ الكبير!
وبعض الدّعاة يتطوعون لنشر العلم ومحاولة إقصاء الجهل عن بعض الحجاج، لا شك أنك سترى هناك ممن طغى عليهم ظلام الجهل فمن الجميل –أوصي به من يريد الحج- أن يتزود من العلم لنفسه ولغيره من الحجاج ويأخذ معه مطويّات وبعض البطاقات وبإذن الله ستسعدون بمساعدتكم وعطاءكم وتذكّروا قوله تعالى: "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا" وستشعرون بمشاعر لا تكفي الكلمات لتصفها :"
هنا جمعت لكم مشاعر شعر بهَا بعض حجّاج هذا العام وسأنقلها لكم كما كتبوها:
- خواطر حاج:
في الحج صغرت ملذات الدنيا.. وتراءت لي الحياة من عدسة الحقيقة الصافية.. تجردت روحي من كل شيء.. ومن كل أمل سوى رضا الله والجنة.. ونسيت كل هم سوى هم ذنوبي..
في الحج وجدت نفسي خالية من مغريات الدنيا، وضغوط الحياة.. فاتضحت لي الأهداف والغايات.. ميزت بين ما ينبغي أن يبقى وما ينبغي أن يلغى..
هناك.. استطعت أن أقرر بقناعتي بدون مؤثرات.
-حج 32-
- تحت جسر الجمرات:
ألوف الناس.. لغات مختلفة.. جنسيات متعددة.. وألسنة شتى..
لا رابط سوى (لا إله إلا الله).. ويا له من رابط!
ساقهم لمكان واحد، وحفظهم، ويسر لكل واحد منهم مقصده..
منظر مهيب.. جموع بشرية جاءت من كل فج عميق.. البعض باع ما لديه كله وأمضى عمره كاملا؛ لتطأ قدماه هذه الأرض!!
سبحان من أعطاهم وكفل لهم أمنهم.. سبحانك رب البيت..
-حج ٣٢-
- ليكن طوافك للوداع طواف اعتذار عن التقصير..
اجعله طواف الرجاء بتكرار اللقاء..
اللهم لا تجعله آخر العهد ببيتك.. اللهم ردنا إلى معاد..
-حج ٣٢-
- مشاعر حاج جديد:
"ما إن وصلت للميقات ونزعت ثيابي؛ حتى تبدلت نفسي بنفس أخرى، وكأني نزعت الدنيا كلها من قلبي وخلعت أفكار السوء والباطل الذي كنت أحياه...".
وحاج آخر من أفريقيا يقول: "كنت أحسب أن الحج مجرد سياحة فحسب، فإذا بي أفاجأ وأعلم أنه عبادة لله وخضوع وترقي في الدين".
-حج ٣٢-
- لو استفاد الحجيج حقا من هذا الركن العظيم، وعادوا وقد طبقوا حكم الحج، والعبر الكثيرة، والدروس الهامة منه في حياتهم، والتي من أهمها التوبـة الصادقة، لصلح حال الأمة، ولعاد لها عزها.
وليس على الله بعزيز أن يتحقق لها النصر، وتقود العالم في خلال سنوات معدودة -بإذن الله-.
-حج ٣٢-
- أخي الحاج.. أختي الحاجة:
ها قد أنعم الله عليك بأن أتممت هذه الفريضة، وقد أعطاك ربك فرصة للحياة من جديد، وكأن حياتك أصبحت صفحة بيضاء نقية، فحري بك أن تعيد رسم خططك وترتيب أولوياتك وإصلاح ما ينبغي إصلاحه..
وتذكر أن من علامات قبول الحج أن تكون بعده أحسن حالا.. تائبا، منيبا، قريبا من كل خير، بعيدا عن كل شر، داعيا ومؤثرا فيمن حولك.
-حج ٣٢-
- بشارة لكل من حج:
قال صلى الله عليه وسلم (فإذا طفت بالبيت -يعني للوداع-، خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك) [رواه الطبراني، وحسنه الألباني].
فأمل خيرا، وأحسن الظن بربك، وقو رجاءك وطمعك في فضله وثوابه.
-حج ٣٢-
ياليتَ أن الهوى ، يدنو بنا فنرى
داراً لها قد صَبا قلبي وأشجانِي *
وأنصحكم بمشاهدة ملف الحج من موقع وذكّر، جمييييل جددًا على هذا الرابط
http://www.wathakker.info/Hajj/
إلى هُنا وأرجو من الله أن ينفع ويبارك بما كتبت وقلت، وحجًا مبرورًا نتمنّاه لكلّ حاج ورزق الله من لم يسبق له أن سلك سبيل هذه الرحلة سلوكها وبلوغها والإحسان فيها..
آمين؛
الروابط المفضلة