ومع وجود عشرات بل مئات الآلاف من الحفاظ على مستوى الأمة وبصورة لم تكن موجودة في العصر الأول ،
إلا أن الأمة لم تجن ثماراً حقيقية لهذا الاهتمام بالقرآن .. لماذا ؟
لأننا لا نوفر للقرآن الشروط التي يحتاجها لتظهر آثار معجزته ويقوم بمهمة التغيير ،
فلقد اقتصر اهتمامنا بالقرآن على لفظه ، واختزل مفهوم تعلم القرآن على تعلم حروفه
وكيفية النطق بها دون أن يصحب ذلك تعلم معانيه ،
وأصبح الدافع الرئيسي لتلاوته هو نيل الثواب والأجر دون النظر إلى ما تحمله آياته من معان هادية وشافية
مما جعل الواحد منا يسرح في أودية الدنيا وهو يقرأ القرآن ،
ويفاجأ بانتهاء السورة ليبدأ في غيرها ، ويبدأ في السرحان مرة أخرى دون أن يجد حرجاً في ذلك ،
بل إنه في الغالب ما يكون سعيداً ، وفرحاً بما أنجزه من قراءة كماً لا كيفاً !
ماذا يجب علينا إذا ؟
يجب علينا اولا معرفة تفسير القرآن فإذا لم نعرف التفسير فكيف سنتدبر؟
عندما كان النبي عليه الصلاة والسلام يتدبر كان يطلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه ويقول: إني أحب أن أسمعه من غيري، لماذا؟ ليتدبره؛ ولذلك كان السلف في القرآن سماعاً واستقبالا، تفاعلا وعملا، في المرتبة العليا.
عمر رضي الله عنه تبرع بأحسن أمواله، قطعة أرض زراعية في خيبر؛ لأجل قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]. أبو طلحة الأنصاري تبرع ببستانه العظيم لأجل هذه الآية! عبد الله بن عمر أعتق أحب الإماء إليه لأجل هذه الآية!.
عمر رضي الله عنه كان يسمع مرة قارئاً يقرأ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) [الطور:7-8]، فرجع إلى بيته مريضا يعوده الناس شهرا لا يدرون ما به.
كانت الآيات تفعل فعلها في النفوس،كانت تدفع للعمل، عندما تنزل آية تحريم الخمر: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة:91]، كل المجتمع ينفذ.
عندما تنزل آية في النساء: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور:31]، نساء الأنصار يعمدن إلى ما عندهن من القماش فيقطعنه ليصير حجاباً ساتراً أسود يخرجن مثل الغربان إلى المسجد لا يُعرفن.
واحد من السلف عنده سبعة دنانير ذهبية أنفقها كلها في بُدْنَة، لماذا؟
قال: إني سمعت الله يقول: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) [الحج:36]، فأنفق كل ماله من أجل تحصيل هذا الخير.
كانت الآيات تسبب لدى سلفنا توبة من ذنب، أو منعاً من الوقوع فيه، كان بعضهم وقع في الشراب وعنده تأويلات، فقرأ ابن أخته يوماً: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال:37]، فقال: يا خالي، إذا جمع الله الأولين والآخرين، وميز الخبيث من الطيب، الخمر هذه التي تشربها مِن الخبيث أم مع الطيب؟ فصمت!
ثم قال: قم فأهرقها واكسر آنيتها. فتاب إلى الله.
آية تعيد شاباً من مشوار حرام، كان صاحب عبادة فدعته امرأة ذات جمال فأغواه الشيطان بالمسير إليها، فسار وفي الطريق سمع تالياً يتلو عن الذين اتقوا: (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201]، فوقف، ورجع، وخَرَّ مغشياً عليه.
وكذلك تاب الفُضيل وهو ذاهب لمعصية لأنه سمع مَنْ يقوم الليل ويقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد:16]، قال: بلى، قد آن يا رب!.
لما نرى هذه الآيات تفعل فعلها في نفوسهم، معناها أنهم يفهمون المعنى ويعملون به، الواحد إذا أراد أن ينام بعد العناء والتعب من العبادة يتذكر قول الله: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات:17]، فيقوم يصلي يكمل، فيعود لينام فيتذكر قول الله تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر:9]، فيقوم ويصلي.
(كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون)، الآيات تقيمهم من فراشهم وتقيمهم في مُصَلَّاهُم، لماذا نحن ليس عندنا مثل هذا التفاعل؟
إيماننا بالقرآن قليل، نسأل الله أن يعفو عنا وعن تقصيرنا.
لأجل هذا لابد أن نعود إلى أن نتلوه حق تلاوته، وإلى تجويد القرآن، وإلى معرفة المعنى، لنتدبره..
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رحمان، اللهم بارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الروابط المفضلة