فأهلُ الغُربةِ صالِحونَ ومُصلِحون ؛ صالِحونَ في أنفسِهم ، ويدعونَ الكونَ كُلَّهُ للصَّلاح ، ولأن يكونوا عِبادًا للهِ جَلَّ وعَلا . ولِذا أخبر الحَقُّ جَلَّ وعَلا في كِتابِهِ أنَّ أكثرَ الناسِ هم أهلُ ضلالٍ ، وأنَّ أهلَ الغُربةِ هم ثُلَّةٌ ميمونَةٌ مُباركةٌ قليلة ، وما يضرَّهم أنَّهم قليل ، قال جَلَّ وعَلا : ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الأنعام/116 ، وقال جَلَّ وعَلا : ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ يوسف/103 ، وقال جَلَّ وعَلا : ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ يوسف/105 ، وقال جَلَّ وعَلا : ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ سبأ/113 .
فأهلُ الغُربةِ قِلَّةٌ قليلةٌ ، ثُلَّةٌ ميمونةٌ مُباركة ، بدأوا حياتَهم في طاعةِ الله ، وأنهَوا حياتَهم في طاعةِ اللهِ جَلَّ وعَلا .
تَدَبَّـر معي ما قاله ابنُ مسعودٍ _ كما في الحديثِ الذي رواه الحاكِمُ بِسَنَدٍ صحيحٍ _ مُوَضِّحًا غُربةَ أصحابِ النبىِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم ، قال ابنُ مسعود : ‹‹ أوَّلُ مَن أظهَرَ الإسلامَ سَبعة : رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وأبو بكر ، وعَمَّار ، وأُمُّه سُمَيَّة ، وصُهَيْب ، وبِلال ، والمِقداد . فأمَّا رسولُ اللهِ فمنعه اللهُ بعَمِّه ( أى حماه اللهُ بِعَمِّه ) ، وأمَّا أبو بكر فمنعه اللهُ بقومِه ، وأمَّا سائِرُهم فلقد أخذهم المُشرِكونَ وألبسوهم أدرُعَ الحديد ، وصهرورهم في الشمس ، فما منهم مِن أحدٍ إلاَّ وقد واتاهم على ما أرادوا إلاَّ بِلال ، فإنَّه هانت عليه نفسُهُ للهِ ، وعُذِّبَ في سبيل اللهِ عذابًا شديدًا ، فكانوا يجرُّونَه على رمضاء مكة ويضعون الصخورَ العظيمةَ على صدره ، وهو يقولُ نشيدَه الخالِد : أَحَـدٌ أَحَـد ›› ، فيمُرُّ أبو بكرٍ _ رضى اللهُ عنه وأرضاه _ ويقولُ له : يُنجِّيكَ اللهُ الواحِدُ الأحد . ولم يكتفِ أبو بكرٍ بتِلكَ الكلمات الطيبةِ الجميلة ، وإنَّما ذهب وصفَّى التجارات وجَمَعَ الأموالَ مِن أجل أنْ يشترىَ العبيدَ والأرِقَّاء ، ليُعتقهم مِن أجل رَبِّ الأرضِ والسماء ، خشيةَ أن يُفتَنوا في دينهم . فلَمَّا أَعتق أبو بكرٍ بِلالاً ، قام المُنافِقون وقالوا : واللهِ ما أعتق أبو بكرٍ بِلالاً إلاَّ ليدٍ كانت عنده . فسكت أبو بكرٍ ، وتولَّى الرَّدَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِن فوق سبع سماوات ، فنزل جبريلُ يَشُقُّ السَّبع الطِّباق بقُرآنٍ يُتلَى إلى يومِ القِيامة : ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ الليل/19-21 .
فهكذا كانوا يعيشون تلك الغُربة .
والحَقُّ جَلَّ وعَلا يُخبِرُ دائِمًا وأبدًا أنَّ أهلَ الغُربةِ قِلَّةٌ قليلةٌ ، وثُلَّةٌ ميمونةٌ ثابتةٌ على التوحيد وعلى العقيدة للهِ جَلَّ وعَلا ، وما ضرَّهم أنَّهم قليل ، فَحَسْبُكَ أن تكونَ مُنفردًا في كون ، حتى لو كَفَر الكونُ كُلُّهُ بالله .. أَجَلْ واللهِ ..
الروابط المفضلة