[دورة: كيفية الإيمان بالقدر]
الدرس: الرابع
س165: وضح وسطية أهل السنة - رحمهم الله تعالى - في هذا الباب –باب القدر- ذاكرًا من خالفهم فيه ؟
ج165: لقد خالف في باب القدر فرقتان ضالتان كل الضلال ، قد تاهتا فيه أعظم التيه ، إحداهما غلت في إثباته ، والثانية فرطت .
فالفرقة الأولى : يقال لها الجبرية ، وهم الجهمية نفاة الصفات ، لكن في باب القدر نطلق عليهم الجبرية ، وهؤلاء يقولون إن كل شيء لا يقع إلا بقضاء الله وقدره ،
وهذا قول صحيح لا غبار عليه ، ولكن يا ليتهم وقفوا عند هذا ، بل غلوا في إثبات القدر حتى قالوا : وليس للعبد قدرة ولا اختيار على فعله ،
بل هو كالريشة في مهب الريح ، وكالميت بين يدي غاسله ولا يملك مطلق القدرة ولا مطلق الاختيار ، فأنت ترى أن قولهم في باب القدر فيه حق وباطل ،
فالحق هو إثباتهم للقدر السابق ، والباطل سلبهم العبد قدرته واختياره .
والفرقة الثانية : القدريةوهم المعتزلة ، وهؤلاء يقولون : إن العبد له مشيئة وقدرة واختيار على فعله فليس هو مجبور عليه ، بل يفعل فعله ، بقدرته واختياره ،
وهذا القدر من قولهم حق لا غبار عليه ، ولكن يا ليتهم وقفوا عند ذلك ، بل زادوا عليه قولهم ، والعبد هو الذي يخلق فعله ولا رابطة بين مشيئته ومشيئة الله جل وعلا ،
فجعلوه هو الذي يختار ويشاء فعله الاختيار المطلق والمشيئة المطلقة ، فعندهم : قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله جل وعلا ، فليس هناك مطلق الرابطة بين مشيئة العبد ومشيئة الله عز وجل ،
وقد انقسموا فرقتين :القدرية الغلاة ، وهم الذين ينكرون سبق العلم والكتابة ، ويقولون : إن الأمر أنف لا يعمله الله تعالى إلا بعد وقوعه من العبد ،
وهي الفرقة التي كفرها من عاصرها من الصحابة كابن عمر وغيره .
والفرقة الثانية : القدرية المتأخرون ، وهؤلاء هم أكثر القدرية في هذه الأزمنة ، ويقولون : قد علم الله ما سيفعله العبد لكن العبد هو الذي يوجد فعله استقلالاً ، فلا ينسب الفعل إلى الله خلقًا ولا إيجادًا ،
هذه هي خلاصة أقوال الفرق في هذه المسألة .
فجاء أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وأعلى منارهم في الدنيا والآخرة وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم وجمعنا بهم في الجنة وحشرنا في زمرتهم ..
فأخذوا الحق الذي مع كلا الفرقتين وتركوا الباطل ؛ لأنهم أحق بالحق وهذه الفرق أحق بالباطل ،
فقال أهل السنة : كل شيء بقضاء الله وقدره فالله تعالى قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ وشاءه بمشيئته النافذة وقدرته الشاملة وخلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وجعل لعبادة قدرة على أفعالهم ومشيئة ، وهو الخالق لقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم ،
فلا يشاءون إلا ما يشاء الله ، وأن العباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم وأن العبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والمزكي والصائم .
وبالجملة فأفعال العباد تنسب إلى الله تعالى خلقًا وإيجادًا ، وتنسب إلى العبد فعلاً واكتسابًا ،
فأهل السنة - رحمهم الله تعالى - بهذا القول حققوا مذهب الوسطية كعادتهم وأخذوا بالأدلة كلها ولم يدعوا منها شيئًا ولم يخالفوا بهذا القول نصًا صحيحًا صريحًا ،
بل جاء قولهم متوافقًا مع الأدلة في هذا الباب كل الموافقة ،
وهذا من هداية الله تعالى لهم وتوفيقه وحسن امتنانه ، فلا هم غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره كما تقوله الجبرية ، ولا هم غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى جعلوه هو الخالق لفعله استقلالاً كما يقوله القدرية .
فهذا هو التوسط بين هاتين الفرقتين ، فالجبرية أخذوا بنصوص إثبات المقادير السابقة فقط ، ولم ينظروا في النصوص المثبتة لمشيئة العبد وتركوا الأدلة التي فيها إثبات عموم القدر والخلق ،
أهل السنة أخذوا بكل الأدلة ، فصار قولهم هو القول الوسط ، قال تعالى : } وكذلك جعلناكم أمة وسطًا { ، والله أعلم .
* * *
س166: هل العبد مسير أم مخير ؟
ج166: أقول : اعلم - يا رعاك الله تعالى - أن الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف الأقوال في باب القدر ،
فالجبرية الذين يسلبون العبد قدرته واختياره يقولون : إن العبد مسير مطلقًا ، لا حيلة له في فعله ولا ينسب فعله إليه إلا مجازًا ،
وهذا القول خطأ ؛ لأنه بني أصلاً على خطأ ، وما بني على الضلال فهو ضلال .
وأما القدرية الذين يثبتون للعبد القدرة الكاملة والمشيئة المستقلة فإنهم يقولون : العبد مخير مطلقًا ،
وهذا القول خطأ أيضًا ؛ لأنه مبني على خطأ ،
وأما أهل السنة - رحمهم الله تعالى - فلأنهم يقولون بإثبات القدر السابق وبإثبات قدرة العبد ومشيئته
فقد قالوا هنا : إن العبد مسير ومخير ، لكن باعتبارين ، فهو مسير باعتبار ما كتب وقدر له وسبق به العلم في الأزل ، ومسير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره ،
أي أننا إذا نظرنا إلى ما سبق وقدر وفرغ من كتابته قلنا : هو مسير ، وإذا نظرنا إلى دخول الفعل تحت قدرته واختياره قلنا : هو مخير ، فاجتمع فيه التسيير والتخيير .
ونضرب لك مثلاً : لو أن إنسانًا سلك طريقًا من الطرق ثم جاءه مساران إما يمين وإما شمال فهو مخير باعتبار أنه إن أرد أن يذهب يمينًا فله ذلك ، وإن أراد أن يذهب شمالاً فله ذلك ،
فهذا الفعل داخل تحت اختياره ، فهو بهذا الاعتبار مخير ، لكن اعلم أنه لن يذهب إلا إلى الجهة التي قدرها الله له وسبق بها علمه وكتابته فهو بهذا الاعتبار مسير .
ومثال آخر : لو أن إنسانًا خير بين سيارتين لشراء واحدة منهما ، فهو مخير إن شاء اشترى هذه السيارة وإن شاء اشترى الأخرى ، فهذا الفعل أي شراء إحدى السيارتين فعل داخل تحت قدرته واختياره ،
فهو بهذا الاعتبار مخير ، ولكن اعلم أنه لن يشتري إلا السيارة التي كتبت له وقدرت له ، وسبق بها علم الله تعالى وشاءها له ، وهو بهذا الاعتبار مسير .
وعلى ذلك فقس ، فأيضًا أهل السنة - رحمهم الله تعالى - بهذا القول قد سلكوا مسلك الوسطية كعادتهم رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى ، والله أعلم وأعلى .
__________________________________
الأسئلة التطبيقية:
س1: من هم القدرية، ومن هم الجبرية؟
س2: وضحي معنى قول أهل السنة –العبد مسير ومخير-؟**
***
الروابط المفضلة