ذكرت هذه القصة في سير أعلام النبلاء .
وقد خرجها تخريجا موثقاً .
كان عمر قد تزوج زينب بنت مظعون , وهي أخت قدامة بن مظعون وعثمان بن
مظعون , وهما بدريان سابقان إلى الإسلام .
ولدت زينب لعمر ابنه عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين , فقدامة خالهما .
كما أن قدامة تزوج صفية بنت الخطاب أخت عمر .
فكان كل منهما تزوج أخت الآخر .
وكان عمر في خلافته استعمل قدامة على البحرين أميرا ً لها . أو عاملا عليها
لعمر .
ابتدأت القصة عندما جاء الجارود من البحرين وهو سيد عبد القيس .
فقدم على عمر وقال :
يا أمير المؤمنين ! إن قدامة شرب فسكر . ولقد رأيت حدا ً
من حدود الله حقا ً عليّ ان أرفعه إليك .
فقال عمر : من يشهد معك ؟
قال : أبو هريرة .
فدعا أبا هريرة , فقال : بم َ تشهد ؟
قال : لم أره يشرب , ولكني رأيته سكران .
فقال عمر : لقد تنطعتَ في الشهادة .
قال : ثم كتب إلى قدامة أن يقدم إليه من البحرين .
فقال الجارود لعمر : أقم ْ على هذا كتاب الله عز وجل .
فقال عمر : أخصم ٌ أنت َ أم شهيد ؟
قال : بل شهيد .
قال : فقد أديت َ شهادتك .
واستمر الجارود في الإلحاح على عمر في إقامة الحد . وهنا نرى حكمة عمر في
معالجة الأمر
قال له عمر :
لتمسكن َّ لسانك أو لأسوأنك .
لقد أوقف الجارود عند حده فمن يؤدي الشهادة , ينتهى دوره .
وهو غير مطالب بمتابعة القضية حتى يتم الحكم فيها .
وهذا ينبهنا إلى أمر : أنه إذا نهينا شخصا ًعن منكر ينتهي دورنا . وليس علينا أبدا
أن نتابع الأمر حتى ينتهي المخطئ .
وانا أعرف العديد من الداعيات يقعن في هذا الخطأ
.
ثم قال عمر : ما أراك إلا خصما ً . لأنه ألح في إقامة الحد , مما أخرجه من دائرة
الشهادة إلى دائرة الخصومة . وتابع عمر قوله : وما شهد معك إلا رجل .
فقال أبو هريرة : إن كنتَ تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها .
( وهي زوجة قدامة ) .
فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها : فأقامت الشهادة على زوجها .
وهنا ننظر إلى تلك المرأة بعين الإكبار والتقدير .
لقد شهدت شهادة الحق : لم تكذب ولم تزوّر ,, لم تتهرب , ولم تتعلل .
شهدت شهادة حق أمام من ؟؟ أمام عمر الفاروق .
لقد شهدت ضد زوجها أمام عمر . وهي تعرف تمام المعرفة أنه لن يشفع لزوجها لا
سابقة إلى الإسلا م . ولا نسب وصهر .. ولا إمارة ومنزلة .
فمع عمر ليس هناك إلا : حق ... وحد .
ترى !!!!! كم واحدة منا تستطيع أن تفعل ما فعلته هند بنت الوليد ؟؟؟؟؟؟؟
من منا تستطيع أن تدوس على الروابط والعلاقات والعواطف في سبيل شهادة حق
تبتغي بها رضى الله ؟؟؟
وطبعا بعد شهادتها جاء القرار الحازم الحاسم من عمر :
قال عمر لقدامة : إني حادك !
فقال قدامة : لو شربت كما يقولون ماكان لكم أن تجلدوني !!
قال عمر : لم َ ؟؟
قال قدامة : قال الله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله
يحب المحسنين ( المائدة 93 ) .
وهنا يأتي التأويل الخاطئ الذي يورد المؤمن موارد التهلكة .
إن قدامة من السابقين الأولين , وهو بدري . وأهل بدر لهم فضل عظيم . وحاشى
لله أن يشرب قدامة الخمر مستحلا ً لها أو مستهينا ً بحكمها .. ولكنه خطأ التأويل .
ذلك عندما ينحرف الفهم للنصوص .. فيزين الشيطان الأعمال ,, ويستخف بها
المؤمن .. فيحمّل النص ما لا يحتمل من المعاني .
لقد أول قدامة الآية : بأنه ما دام مؤمنا تقيا فليس عليه جناح أن يأكل ويشرب ما
يحلو له . فالتقوى بزعمه تمحو له سيئته . ولن يكون هناك ذنب مع التقي
المستغفر .
وهكذا زين له شيطانه شرب الخمر . وهذا ما ذهب إليه بعض الفرق فيما بعد
عندما هونوا من شأن الذنوب وقالوا أنها لاتضر مع الإيمان والتوحيد .
مما أدخل الناس في متاهة استمراء الذنوب والمعاصي ما داموا موحدين
.
وهنا ....... ومن جديد .. عاد فقه عمر ليزيل عن عين قدامة الغشاوة التي
أعمت بصيرته بالتأويل الخاطئ .
قال عمر : أخطأتَ التأويل !!!! إنك إن اتقيت , اجتنبت َ ما حرم الله عليك .
فهذا هو المعنى الحقيقي لها .
فليس على الذين اتقوا جناح فيما طعموا لأن التقوى حجاب ساتر واق ٍ عن
المعاصي والمحرمات ..
فإذا كان المؤمن تقياً كان ما يتناوله حلالا ً صرفا ً .. لا شبهة فيه ولا دنس .
وهنا نأتي إلى المنعطف الخطير في القصة .
لقد ثبت أن قدامة شرب الخمر . فما هي الخطوة التالية يا أمير المؤمنين ؟؟
أقبل عمر على الناس فقال : ما ترون في جلد قدامة ؟؟؟
قالوا : لا نرى ا
أن تجلده ماكان مريضا ً ( يبدو كان مريضا )
فسكت عن ذلك أياما . وأصبح يوماً وقد عزم على جلده . فقال لأصحابه : ماذا ترون
في جلد قدامة ؟؟؟
لقد دخلت الوساطات والالتماسات والمحاباة ... ولكن !!! هل تنفع مع عمر ؟؟
قالوا : لا نرى أن تجلده ما كان ضعيفا ً !!!!
فقال عمر قولة خالدة :
لأن يلقى الله تحت السياط أحب إلي من أن يلقاه وهو في
عنقي .. ائتوني بسوط تام . فأمر بقدامة فجلد .
ثم عزله عن البحرين . فهو لا يراه جديرا ً بالإمارة .
وربما كان العزل عن الإمارة أصعب على قدامة من الجلد .
رضي الله عن عمر
فما كان يداهن في دينه
وما كان يخشى في الله لومة لائم
لقد كان وقافا ً عند حدود الله .
الروابط المفضلة