في القرآن الكريم آية تعد من أهم الآيات التي تبين أسس الأخلاق الإسلامية ولذلك يرددها أئمة المساجد كل يوم جمعة على آذان المصلين ،
وكان عبد الله بن مسعود يقول فيها :
"إنها أجمع آية في القرآن للخير والشر"
وكانت سبباً في إسلام عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما سمعها فرأى أنها جامعة لخصال الخير والشر ، ورأى أن ديناً يأتي بهذا جدير أن يتبع
تلك هي قوله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي
القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) سورة النحل آية 90
لقد أمر الله فيها بخصال ثلاث من أهم خصال الخير , ونهى عن
ثلاث خصال من أهم خصال الشر
فأما خصال الخير فأولها العدل ، وهو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه ، فالمدين يجب أن يؤدي دينه وهذا هو العدل ، والغاصب والسارق ظالم لأن كلاً منهما أخذ ما ليس حقه ، والبائع الذي يكيل للمشتري أو يزنه أقل مما أتفقا عليه ظالم لأنه لم يعطه حقه ، والقاضي المتحيز ظالم لأنه أخذ من أحد الخصمين بعض حقه وأعطى للآخر أكثر من حقه ، فإن ارتشى بأي نوع من الرشوة فقد أخذ ما ليس من حقه أن يأخذ ، وهكذا لو دققنا في معنى العدل وجدناه أساساً لكثير من الفضائل
وهناك نوع آخر من العدل ، وهو عدل الحكومة مع رعيتها ، فعليها أن تؤدي للشعب حقه عليها ، فتجلب له الخير وتبعد عنه أسباب الشر ، وتوفر لهم وسائل رقيها ، من صناع وتجار وزراع وطلبة وموظفين ، وتشرف على موظفيها حتى يراعوا مصالح الناس ويؤدوها على خير وجه من غير تأخير أو تقصير أو إهمال وهكذا
والقرآن يطالب بهذا العدل في مواضع منه كثيرة ، فيأمرك بالعدل مع من تحب ومن تكره ، ومن هو على دينك أو غير دينك ، يقول في آية أخرى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى )
سورة المائدة آية 8
، أي لا يحملنّكم بغضكم لقوم على أن تظلموهم ، ولا تلتزموا العدل معهم ، بل العدل واجب إنساني مع من أحببت أو كرهت ومع من وافقك في الدين أو خالفك . ومن أجل تقديره لهذا العدل أمر بالوفاء بالعهود مع كل من تعاقد معهم المسلمون من أي ملة أو دين ، وهذا أسمى ما تصل إليه البشرية
أما الخصلة الثانية بعد العدل فهي الإحسان ، فإن كان العدل إعطاء كل ذي حق حقه فالإحسان إعطاؤه ما فوق حقه ، فمن الحق أن تأخذ دينك من المدين ، فإن رأيته معسراً فعفوت له عن دينك فهذا إحسان _ وعلى الجملة فإن الإحسان يتطلب الشعور بالعطف على الناس وتقديم الخير ممن يقدر لمن لا يقدر ، فالغني مأمور بإعطاء جزء من ماله للفقير ؛ والعالم مأمور بتقديم زكاة علمه للجاهل ، والقوي مأمور باستخدام قوته لمعونة الضعيف ، وهذا هو ما عبر عنه القرآن بالإحسان ، وليس مقصوراً على ما يتصوره العامة من وضع يدك في جيبك واستخراج قليل من المال تضعه في يد الفقير ، بل الإحسان أعم وأشمل ، هو عطف شامل من أفراد الأمة بعضهم على بعض ، بل هو كذلك عطف الحكومات على أرباب الحاجات
وخصص الله في الخصلة الثالثة الأقرباء بالإحسان ، فالإحسان للناس عامة واجب ، وهو لذوي القربى أوجب ، فواجب أن يترابط أفراد الأسر ، ومن ارتباط الأسر ترتبط الأمة
وهذه هي الخصال الثلاث التي شددت الآية في التزامها والعمل بها ، أما المنهيات الثلاث التي وردت فبالتأمل نراها شاملة أيضاً شمولاً عجيباً ، ذلك أن علماء الاجتماع والقانون يقسمون الرذائل أو الجرائم إلى أنواع ثلاثة
1
جرائم يأتيها الأفراد نحو أنفسهم وهي الجرائم الأخلاقية ؛ كالكذب والحسد والنفاق والرياء ونحو ذلك
2
وجرائم تقع على أفراد الأمة ؛ كالسرقة والقتل وكل مافيه تعد على أنفس الناس وأموالهم
3
وجرائم تقع على السلطات الحاكمة ؛ كالسعي في هدم الحكومات
--------------------------------------------------------------------------------
وهذه الأنواع الثلاثة تقابل الرذائل الثلاث في الآية ، فالفحشاء هي الأعمال القبيحة تصدر من الشخص وتؤذيه ، ولذلك سمي البخيل فاحشاً ، وقيل للشخص إذ أجاب إجابة سيئة أفحش في الجواب وهكذا ، والمنكر ما يصدر عن الناس من جرائم تضر بهم ويستنكرونها إذا حدثت ، وقد اعتاد القرآن أن يسمي الفضائل الاجتماعية معروفاً ، والرذائل منكراً ، وجعل من أصول الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فقال : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر وتؤمنون بالله ) .
ويرمي بذلك إلى أن تكون الأمة يقظة واعية لكيانها ، فإذا رأت نقصاً فيها ارتفعت أصوات عقلائها باستكماله ، وإذا رأت خللاً في بنائها من أي ناحية كانت طالبت بإصلاحه.
وأما البغي فمعناه الخروج عن السلطة الحاكمة بوسائل العنف ، ومن ذلك قولهم : ( الفئة الباغية ) التي تخرج على الإمام . ذلك لأن الإسلام يريد استقرار الأمور واستقرار السلطة الحاكمة مع صلاحيتها لأنها المشرفة علىالنظام العام ، فإن حادت عن العدل أو الحق وجهها أولو الأمر _ أو كما نقول نحن الرأي العام _ إلى الجهة الصالحة ، فالوسيلة للإصلاح هي النقد الصريح الجرىء وهذا يدخل _ أيضاً _ ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وبعد فإن الأمة التي تتبع هذه خصال الخير الثلاثة ، وتتجنب هذه خصال الشر الثلاثة أمة مثالية . فلنتصور جماعة من الناس ، أو أمة من الأمم ؛ عدل أفرادها فأدوا لكل ذي حق حقه ، وعدلت حكوماتها فأدت واجبها ، ثم تعاطفوا فيما بينهم ؛ فساد بينهم الإحسان وخاصة على ذوي قرباهم ؛ ثم تجنبت هذه الجماعة الجرائم الفردية الشخصية ، والجرائم الاجتماعية ، والثورات الانقلابية ، فأي جماعة أسعد من هذه الجماعة ، وأي أمة أرقى من هذه الأمة
لقد وضع الإسلام خير نظام للأمة بهذه الآية ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) . وفهم خاصة المسلمين أنها من أجمع الآيات في بيان الخير والشر فكرروها على أسماع الناس في كل جمعة وكل مناسبة
إن أسلوب القرآن في الدعوة إلى الأخلاق أسلوب عملي يلتمس الواقع ويدعو إلى تنظيمه ، ليس أسلوب الفلاسفة في بحث النظريات ، وإقامة البراهين المنطقية الجدلية ونحو ذلك ، إنما هو أسلوب يعمد إلى أصول الفضائل فيبينها ، ويدعو إليها ، ويوقظ المشاعر للعمل بها ، وهو أسلوب يوافق العامة والخاصة ، والفلاسفة والجماهير ، كل يستقي بمقدار استعداده
إن ما ينقص المسلمين اليوم هو فهم دستورهم الذي ارتضاه الله لهم ، والعمل به في دقة وإحكام والتزام ، فما قيمة القوانين إذا وضعت على الرف ، وما قيمة النصائح الغالية إذا صمت عنها الآذان _ إن القرآن _ دائماً _ يقرن الإيمان بالعمل ، ويطالب بهما جميعاً ويجعلهما ركني السعادة ، فهو يعبر بالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلا يعتد بإيمان من غير عمل ، كما لا يعتد بعمل من غير إيمان
وفقنا الله للإيمان الصحيح والعمل الصحيح
وصلني بالايميل
الروابط المفضلة