الباب الثاني في بيان معنى التوحيد وأنواعه
التوحيدُ : هو إفرادُ الله بالخلق والتدبر ، وإخلاصُ العبادة له ، وترك عبادة ما سواه ، وإثبات ما لَهُ من الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، وتنزيهه عن النقص والعيب ؛ فهو بهذا التعريف يشملُ
أنواع التوحيد الثلاثة ، وبيانها كالتالي :
1 - توحيد الربوبية
ويتضمن الفصول التالية :
الفصل الأول : في بيان معنى توحيد الربوبية ، وفطريته وإقرار المشركين به .
الفصل الثاني : في بيان مفهوم كلمة الرب في القرآن والسنة ، وتصورات الأمم الضّالَّة في باب الربوبية ، والرد عليها .
الفصل الثالث : في بيان خضوع الكون في الانقياد والطاعة لله .
الفصل الرابع : في بيان منهج القرآن في إثبات وحدانية الله في الخلق والرزق وغير ذلك .
الفصل الخامس : في بيان استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية .
الفصل الأول في بيان معنى توحيد الربوبية وإقرار المشركين به
التوحيد : بمعناه العام هو اعتقادُ تفرُّدِ الله تعالى بالربوبية ، وإخلاص العبادة له ، وإثبات ما له من الأسماء والصفات ، فهو ثلاثة أنواع :
توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وكل نوع له معنى لا بد من بيانه ؛ ليتحدد الفرق بين هذه الأنواع :
1 - فتوحيد الربوبية
هو إفرادُ الله تعالى بأفعاله ؛ بأن يُعتقَدَ أنه وحده الخالق لجميع المخلوقات : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .
وأنه الرزاق لجميع الدواب والآدميين وغيرهم : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا .
وأنه مالكُ الملك ، والمدبّرُ لشؤون العالم كله ؛ يُولِّي ويعزل ، ويُعزُّ ويُذل ، قادرٌ على كل شيء ، يُصَرِّفُ الليل والنهار ، ويُحيي ويُميت : قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
وقد نفى الله سبحانه أن يكون له شريكٌ في الملك أو معين ، كما نفى سُبحانه أن يكونَ له شريكٌ في الخلق والرِّزق ، قال تعالى : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ .
وقال تعالى : أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ .
كما أعلن انفراده بالربوبية على جميع خلقه فقال : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وقال : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
وقد فَطَرَ الله جميعَ الخلق على الإقرار بربوبيته ؛ حتى إن المشركين الذين جعلوا له شريكًا في العبادة يقرون بتفرده بالربوبية ، كما قال تعالى : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ .
فهذا التوحيدُ لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم ؛ بل القلوب مفطورة على الإقرار به ؛ أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات ؛ كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم : قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الرب فرعون ، وقد كان مستيقنًا به في الباطن كما قال له موسى : قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ .
وقال عنه وعن قومه : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا .
وكذلك من يُنكرُ الربَّ اليومَ من الشيوعيين ؛ إنما ينكرونه في الظاهر مكابرة ؛ وإلا فهم في الباطن لا بد أن يعترفوا أنه ما من موجود إلا وله موجد ، وما من مخلوق إلا وله خالق وما من أثر إلا وله مؤثر ، قال تعالى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ .
تأمل العالم كله ، علويه وسفليه ، بجميع أجزائه ؛ تجده شاهدًا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه . فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده ، لا فرق بينهما وما تتبجح به الشيوعية اليوم من إنكار وجود الرب ؛ إنما هو من باب المكابرة ، ومصادرة نتائج العقول والأفكار الصحيحة ، ومن كان بهذه المثابة فقد ألغى عقله ودعا الناس للسخرية منه .
قال الشاعر :
كـــيف يعصـــى الإلــه ويجحـــــده الجـــــاحد
وفي كل شيء له آية تــدل علـى أنـه واحـد
الفصل الثاني مفهومُ كلمةِ الربِّ في القرآن والسُّنَّة وتصوُّرات الأمم الضّالَّة
1 - مفهوم كلمة الرّبِّ في الكتاب والسنة
الرّبُّ في الأصل : مصدرُ ربَّ يَرُبُّ ، بمعنى : نشَّأ الشيءَ من حال إلى حال التمام ، يُقالُ : ربَّه وربَّاه وربَّبَهُ ، فلفظ ( رب ) مصدر مستعار للفاعل ، ولا يُقالُ : ( الرَّبُّ ) بالإطلاق إلا لله تعالى المتكفل بما يصلح الموجودات ، نحو قوله : رَبِّ الْعَالَمِينَ ، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ .
ولا يقال لغيره إلا مضافًا محدودًا ، كما يقال : رب الدار ؛ وربُّ الفرس . يعني صاحبُها ، ومنه قولُه تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ . وقوله تعالى : قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ . أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في ضالة الإبل : حتى يجدها ربها .
فتبين بهذا : أن الرب يطلق على الله معرفًا ومضافًا ، فيقال : الرب ، أو رب العالمين ، أو رب الناس ، ولا تُطلق كلمة الرّبِّ على غير الله إلا مضافة ، مثل : رب الدار ، ورب المنزل ، ورب الإبل .
ومعنى ( رب العالمين ) أي : خالقهم ومالكهم ، ومصلحهم ومربهيم بنعمه ، وبإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، ومجازيهم على أعمالهم . قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - : ( فإنَّ الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم ، وجزاء مُحسنهم بإحسانه ، ومُسيئهم بإساءته ) .
هذه حقيقة الربوبية .
2 - مفهوم كلمة الرب في تصورات الأمم الضالة :
خلق الله الخلق مفطورين على التوحيد ، ومعرفة الرب الخالق سبحانه ، كما قال الله تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ .
وقال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا .
فالإقرارُ بربوبية الله والتوجه إليه أمر فطري ، والشرك حادث طارئ ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كلُّ مولود يُولد على الفطرة ، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه فلو خُلِّيَ العبد وفطرته لاتجه إلى التوحيد وقَبِل دعوة الرسل ؛ الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، ودلّت عليه الآيات الكونية ، ولكن التربية المنحرفة والبيئة الملحدة هما اللتان تغيران اتجاه المولود ، ومن ثَمَّ يقلد الأولاد آباءهم في الضلالة والانحراف .
يقولُ الله تعالى في الحديث القدسي : خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين أي : صَرَفَتْهُم إلى عبادة الأصنام ، واتخاذها أربابًا من دون الله ؛ فوقعوا في الضلال والضياع ، والتفرق والاختلاف ؛ كل يتخذ له ربًّا يعبده غير رب الآخر ؛ لأنهم لما تركوا الرب الحق ، ابتُلُوا باتخاذ الأرباب الباطلة ، كما قال تعالى : فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ والضلال ليس له حدّ ونهاية ، وهو لازم لكل من أعرضَ عن ربه الحق ، قال الله تعالى : أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ .
والشّركُ في الربوبية باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال ممتنع ، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن معبوداتهم تملك بعض التصرفات في الكون ، وقد تلاعب بهم الشيطان في عبادة هذه المعبودات ، فتلاعَبَ بكل قوم على قدر عقولهم ، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم ، كقوم نوح ، وطائفةٌ اتخذت الأصنام على صورة الكواكب التي زعموا أنها تؤثر على العالم ، فجعلوا لها بيوتًا وسدنة .
واختلفوا في عبادتهم لهذه الكواكب : فمنهم من عبد الشمس ، ومنهم من عبد القمر ، ومنهم من يعبدُ غيرهما من الكواكب الأخرى ؛ حتى بنوا لها هياكل ، لكل كوكب منها هيكل يخصه ، ومنهم من يعبدُ النار ، وهم المجوس ، ومنهم من يعبد البقر ، كما في الهند ، ومنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ، ومنهم من يعبدُ القبور والأضرحة ، وكل هذا بسبب أن هؤلاء تصوروا في هذه الأشياء شيئًا من خصائص الربوبية .
فمنهم من يزعم أن هذه الأصنام تمثل أشياء غائبة ، قال ابن القيم : ( وضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب ، فجعلوا الصنم على شكله وهيئته وصورته ؛ ليكون نائبًا منابه ، وقائمًا مقامه . وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحت خشبة أو حجرًا بيده ، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده ... ) . انتهى .
كما أن عُبَّاد القبورِ قديمًا وحديثًا يزعمون أن هؤلاء الأموات يشفعون لهم ، ويتوسطون لهم عند الله في قضاء حوائجهم ويقولون : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ .
كما أن بعض مشركي العرب والنصارى تصوروا في معبوداتهم أنها ولد الله ، فمشركو العرب عبدوا الملائكة على أنها بنات الله ، والنصارى عبدوا المسيح - عليه السلام - على أنه ابن الله .
3 - الرد على هذه التصورات الباطلة :
قد رد الله على هذه التصورات الباطلة جميعًا بما يأتي :
الفصل الرابع في بيانِ منهج القرآن في إثبات وُجُودِ الخالقِ ووحدانيَّته
منهجُ القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانيته هو المنهج الذي يتمشّى مع الفطر المستقيمة ، والعقول السليمة ، وذلك بإقامة البراهين الصحيحة ، التي تقتنع بها العقول ، وتسلم بها الخصوم ، ومن ذلك :
1 - من المعلوم بالضرورة أن الحادث لا بد له من محدث :
هذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة ؛ حتى للصبيان ؛ فإنَّ الصَّبيَّ لو ضربَهُ ضاربٌ ، وهو غافلٌ لا يُبصره ، لقال : من ضربني ؟ فلو قيل له : لم يضربكَ أحدٌ ؛ لم يقبل عقلُهُ أن تكونَ الضَّربةُ حدثت من غير محدث ؛ فإذا قيل : فلان ضربَكَ ، بكى حتى يُضرَبَ ضاربُهُ ؛ ولهذا قال تعالى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ .
وهذا تقسيم حاصر ، ذكره الله بصيغة استفهام إنكاري ؛ ليبيّن أنَّ هذه المقدمات معلومة بالضرورة ، لا يمكن جحدها ، يقول : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي : من غير خالق خلقهم ، أم هم خَلَقوا أنفسهم ؟ وكلا الأمرين باطلٌ ؛ فتعين أن لهم خالقًا خلقهم ، وهو الله سبحانه ، ليسَ هُناك خالق غيره ، قال تعالى : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ .
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ .
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ .
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ .
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ .
ومع هذا التحدي المتكرِّر لم يدَّع أحدٌ أنه خلقَ شيئًا ، ولا مجرد دعوى - فضلًا عن إثبات ذلك - فتعيَّنَ أن الله سُبحانه هو الخالقُ وحدَهُ لا شريك له .
2 - انتظام أمر العالم كله وإحكامه :
أدلُّ دليل على أنَّ مدبره إلهٌ واحد ، وربٌّ واحدٌ لا شريك له ولا مُنازع .
قال تعالى : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
فالإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلًا ، فلو كان معه سبحانه إله آخر ، يُشاركه في مُلكه - تعالى الله عن ذلك - لكان له خلق وفعل ، وحينئذٍ فلا يرضى شِركَةَ الإله الآخر معه ؛ بل إن قدر على قهر شريكه وتفرَّد بالملك والإلهية دونَهُ فعل . وإن لم يقدر على ذلك انفرد بنصيبه في الملك والخلق ؛ كما ينفرد ملوكُ الدنيا بعضهم عن بعض بملكه ، فيحصل الانقسام . فلا بُدَّ من أحد ثلاثة أمور :
أ - إما أن يقهر أحدهما الآخر وينفردَ بالملك دونه .
ب - وإما أن ينفردَ كُلُّ واحد منهما عن الآخر بملكه وخلقه ؛ فيحصل الانقسام .
ج - وإما أن يكونا تحت مَلِكٍ واحدٍ يتصرّفُ فيهما كيف يشاء ؛ فيكون هو الإله الحق وهم عَبيدُه .
وهذا هو الواقعُ ، فإنه لم يحصل في العالم انقسام ولا خلل ؛ مما يَدُلُّ على أنَّ مدبره واحدٌ ، لا منازع له ، وأن مالكه واحد لا شريك له .
3 - تسخيرُ المخلوقاتِ لأداء وظائفها ، والقيام بخصائصها :
فليسَ هُناك مخلوق يستعصي ويمتنع عن أداء مهمته في هذا الكون ، وهذا ما استدل به موسى - عليه السلام - حين سأله فرعون : قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى أجاب موسى بجواب شافٍ كافٍ فقال : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه الهدايةُ هي هداية الدلالة والإلهام ، وهي الهدايةُ الكاملةُ المشاهدَةُ في جميع المخلوقات ، فكلُّ مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضَارِّ عنه ، حتى إنَّ الله أعطى الحيوان البهيم من الإدراك ما يتمكن به من فعل ما ينفعه ، ودفع ما يضره ، وما به يؤدي مهمته في الحياة ، وهذا كقوله تعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ .
فالذي خلق جميعَ المخلوقات ، وأعطاها خلقَها الحسنَ - الذي لا تقترح العقول فوق حسنه - وهداها لمصالحها ، هو الرب على الحقيقة ، فإنكارُهُ إنكارٌ لأعظم الأشياء وجودًا ، وهو مكابرة ومُجاهرة بالكذب ، فالله أعطَى الخلق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا ، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به ، ولا شك أنه أعطى كل صنف شكلَه وصورتَهُ المناسبة له ، وأعطى كل ذكر وأنثى الشّكلَ المناسبَ له من جنسه ، في المناكحة والألفة والاجتماع ، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به ، وفي هذا براهين قاطعة على أنه جل وعلا رَبُّ كُلِّ شيء ، وهو المستحقُّ للعبادةِ دون سواه ...
وفي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ تَـدلُّ علـى أنّه الواحدُ
ومما لا شك فيه أنَّ المقصودَ من إثبات ربوبيته - سبحانه - لخلقه وانفراده لذلك : هو الاستدلال به على وجوب عبادته وحده لا شريك له ؛ الذي هو توحيد الألوهية ، فلو أن الإنسان أقر بتوحيد الربوبية ولم يقر بتوحيد الألوهية أو لم يَقُمْ به على الوجه الصحيح لم يكن مسلمًا ، ولا موحدًا ؛ بل يكون كافرًا جاحدًا ، وهذا ما سنتحدَّث عنه في الفصل التالي - إن شاء الله تعالى .
الفصل الخامس بيانُ استلزامِ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ لتوحيد الأُلوهيَّة
ومعنى ذلك أنَّ من أقرَّ بتوحيد الربوبية لله ، فاعترف بأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبِّر للكون إلا الله - عز وجل - لزمه أن يُقرَّ بأنه لا يستحق العبادة بجميع أنواعها إلا الله سبحانه ، وهذا هو توحيد الألوهية ، فإنَّ الألوهية هي العبادة ؛ فالإله معناه : المعبود ، فلا يُدعى إلا الله ، ولا يُستغاثُ إلا به ، ولا يُتوَكَّلُ إلا عليه ، ولا تذبح القرابين وتُنذر النذورُ ولا تُصرفُ جميعُ أنواع العبادة إلا له ؛ فتوحيدُ الربوبية دليلٌ لوجوب توحيد الألوهية ؛ ولهذا كثيرًا ما يحتجُّ الله - سُبحانه - على المنكرين لتوحيد الألوهية بما أقروا به من توحيد الربوبية ، مثل قوله تعالى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
فأمرهم بتوحيد الألوهية ، وهو عبادتهُ ، واحتجَّ عليهم بتوحيد الرُّبوبية الذي هو خلقُ الناس الأولين والآخرين ، وخلقُ السماءِ والأرضِ وما فيهما ، وتسخير الرياح وإنزالُ المطر ، وإنباتُ النبات ، وإخراج الثمرات التي هي رزق العباد ، فلا يليق بهم أن يُشركوا معه غيره ؛ ممَّنْ يعلمون أنه لم يفعل شيئًا من ذلك ، ولا من غيره ، فالطريق الفطري لإثبات توحيد الألوهية : الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية ؛ فإن الإنسان يتعلق أولًا بمصدر خلقه ، ومنشأ نفعه وضره ؛ ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقرّبه إليه ، وترضيه عنه ، وتوثق الصلة بينه وبينه ، فتوحيد الربوبية بابٌ لتوحيد الألوهية ؛ من أجل ذلك احتجَّ الله على المشركين بهذه الطريقة ، وأمر رسوله أن يحتجَّ بها عليهم ، فقال تعالى : قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ .
وقال تعالى : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ .
فقد احتج بتفرُّدِه بالربوبية على استحقاقه للعبادة ، وتوحيد الألوهية : هو الذي خلق الخلق من أجله ، قال تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .
ومعنى ( يعبدون ) : يُفردوني بالعبادة ، ولا يكون العبدُ موحدًا بمجرد اعترافه بتوحيد الربوبية ؛ حتى يُقرَّ بتوحيد الألوهية ، ويقومَ به ، وإلا فإنَّ المشركين كانوا مُقرِّينَ بتوحيدِ الربوبية ، ولم يُدخلهم في الإسلام ، وقاتلهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، كما قال تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ .
وهذا كثيرٌ في القرآن ، فمن زعمَ أنَّ التوحيدَ هو الإقرارُ بوجود الله ، أو الإقرار بأن الله هو الخالق المتصرف في الكون ، واقتصر على هذا النوع ؛ لم يكن عارفًا لحقيقة التوحيد الذي دعَتْ إليه الرسل ؛ لأنه وقفَ عندَ الملزوم وترك اللازم ، أو وقف عند الدليل وترك المدلول عليه .
ومن خصائص الألوهية : الكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه ؛ الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال ، والخشية والدعاء ، والرجاء ، والإنابة ، والتوكل والاستغاثة ، وغاية الذّلِّ مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لله وحده ، ويمتنع عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره .
- توحيد الألوهية
ويتضمن الفصول التالية :
الفصل الأول : في معنى توحيد الألوهية ، وأنه موضوعُ دعوةِ الرُّسُل .
الفصل الثاني : الشهادتان : معناهما - أركانهما - شروطهما - مقتضاهما - نواقضهما .
الفصل الثالث : في التشريع : التحليل - التحريم - حق الله .
الفصل الرابع : في العبادة : معناها - أنواعها - شمولها .
الفصل الخامس : في بيان مفاهيم خاطئةٍ في تحديد العبادة ( وذلك كالتقصير في مدلول العبادة أو الغلو فيها ) .
الفصل السادس : في بيان ركائز العبودية الصحيحة : الحب - الخوف - الخضوع - الرجاء .
الفصل السابع : في بيان شروط قَبولِ العبادة والعمل : وهي الإخلاصُ ومتابعة الشرع .
الفصل الثامن : في بيان مراتب الدين وهي : الإسلام - والإيمان - والإحسان . تعريفها وما بينها من عموم وخصوص .
الفصل الأول في بيانِ معنى توحيدِ الألوهيَّةِ ، وأنه موضوعُ دعوةِ الرُّسل
توحيدُ الألوهية : الألوهية هي العبادة :
وتوحيدُ الألوهية هو : إفرادُ الله تعالى بأفعال العباد التي يفعلونها على وجه التقرب المشروع ، كالدعاء والنذر والنحر ، والرجاء والخوف ، والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة ، وهذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم ، قال تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، وقال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ .
وكلُّ رسول يبدأ دعوته لقومه بالأمر بتوحيد الألوهية ، كما قال نوح وهود وصالح وشعيب : يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ . وأنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
وأول واجب على المكلف : شهادة أن لا إله إلا الله والعمل بها ، قال تعالى : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ .
وأول ما يؤمر به مَنْ يريد الدخول في الإسلام : النطقُ بالشهادتين ، فتبين من هذا : أن توحيد الألوهية هو مقصودُ دعوة الرُّسل ، وسُمِّي بذلك ؛ لأن الألوهية وصف الله تعالى الدال عليه اسمه تعالى ( الله ) ، فالله : ذو الألوهية ، أي المعبود .
ويقال له : توحيد العبادة ؛ باعتبار أن العبودية وصفُ العبد ، حيثُ إنه يجبُ عليه أن يعبد الله مخلصًا في ذلك ؛ لحاجته إلى ربه وفقره إليه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
( واعلم أن فقر العبد إلى الله : أن يعبده لا يُشرك به شيئًا ، ليس له نظير فيُقاسُ به ؛ لكن يُشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب ، وبينهما فروق كثيرة ؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ، وهي لا صلاحَ لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره . ولو حَصَلَ للعبد لذّات وسرور بغير الله ، فلا يدوم ذلك ، بل ينتقل من نوعٍ إلى نوعٍ ، ومن شخص إلى شخص ، وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال ، وكل وقت وأينما كان فهو معه ) .
وكان هذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل ؛ لأنه الأساسُ الذي تُبنى عليه جميع الأعمال ، وبدون تحققه لا تصحُّ جميعُ الأعمال : فإنه إذا لم يتحقق ؛ حصل ضده ، وهو الشركُ ، وقد قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وقال تعالى : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وقال تعالى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
ولأن هذا النوع من التوحيد هو أول الحقوق الواجبة على العبد ، كما قال تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية [الإسراء : 23] [الأنعام : 151- 153] /2 .
الفصل الثاني في بيان معنى الشَّهادتين وما وقعَ فيهما من الخطأ وأركانهما وشروطهما ومقتضاهما ونواقضهما
أولًا : معنى الشَّهادتين :
معنى شهادة أن لا إله إلا الله : الاعتقاد والإقرار أنه لا يستحقُّ العبادةَ إلا الله ، والتزام ذلك والعمل به ، ( فلا إله ) نفي لاستحقاق من سوى الله للعبادة كائنًا من كان ( إلا الله ) إثباتٌ لاستحقاق الله وحده للعبادة ، ومعنى هذه الكلمة إجمالًا : لا معبودَ بحقٍّ إلا الله . وخبر ( لا ) يجب تقديره : ( بحقٍّ ) ولا يجوزُ تقديره بموجود ؛ لأنّ هذا خلافُ الواقع ، فالمعبوداتُ غيرُ الله موجودة بكثرة ؛ فيلزم منه أن عبادة هذه الأشياء عبادة لله ، وهذا من أبطل الباطل ، وهو مذهب أهل وحدة الوجود الذين هم أكفر أهل الأرض . وقد فُسّرتْ هذه الكلمةُ بتفسيرات باطلة منها :
( أ ) أن معناه : لا معبودَ إلا الله . وهذا باطلٌ ؛ لأن معناه : أن كل معبود بحقّ أو باطل هو الله ، كما سبق بيانه قريبًا .
( ب ) أن معناها : لا خالقَ إلا الله . وهذا جزء من معنى هذه الكلمة ؛ ولكن ليس هو المقصود ؛ لأنه لا يثبت إلا توحيد الربوبية ، وهو لا يكفي وهو توحيد المشركين .
( ج ) أن معناها : لا حاكميّةَ إلا لله ، وهذا أيضًا جزء من معناها ، وليس هو المقصود ؛ لأنه لا يكفي ؛ لأنه لو أفرد الله بالحاكمية فقط ودعا غير الله أو صرف له شيئًا من العبادة لم يكن موحدًا ، وكل هذه تفاسير باطلة أو ناقصة ؛ وإنما نبهنا عليها لأنها توجد في بعض الكتب المتداولة .
والتفسيرُ الصحيح لهذه الكلمة عند السلف والمحققين : أن يُقالَ : ( لا معبود بحق إلا الله ) كما سبق .
2 - ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله : هو الاعتراف باطنًا وظاهرًا أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة ، والعمل بمقتضى ذلك من طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وألا يُعبدَ الله إلا بما شرع .
ثانيًا : أركان الشهادتين :
أ - لا إله إلا الله : لها ركنان هما : النفي والإثبات :
فالركن الأول : النفي : لا إله : يُبطل الشرك بجميع أنواعه ، ويُوجب الكُفرَ بكل ما يعبد من دون الله .
والركن الثاني : الإثباتُ : إلا الله : يثبت أنه لا يستحق العبادة إلا الله ، ويُوجب العمل بذلك . وقد جاء معنى هذين الركنين في كثير من الآيات ، مثل قوله تعالى : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى .
فقوله : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ هو معنى الركن الأول ( لا إله ) وقوله : وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ هو معنى الركن الثاني ( إلا الله ) .
وكذلك قولُهُ عن إبراهيمَ عليه السلام : إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي .
فقوله : إِنَّنِي بَرَاءٌ هو معنى النفي في الركن الأول ، وقوله : إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي هو معنى الإثبات في الركن الثاني .
أركان شهادة أن محمدًا رسول الله : لها ركنان هما قولنا : عبدُه ورسوله ، وهما ينفيان الإفراطَ والتفريط في حقه - صلى الله عليه وسلم - فهو عبده ورسوله ، وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين ، ومعنى العبد هنا : المملوك العابد ، أي : أنه بشرٌ مخلوق مما خلق منه البشر ؛ يجري عليه ما يجري عليهم ، كما قال تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وقد وَفَّى - صلى الله عليه وسلم - العبوديّة حقَّها ، ومدحه الله بذلك ، قال تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
ومعنى الرسول : المبعوث إلى الناس كافة بالدعوة إلى الله بشيرًا ونذيرًا .
وفي الشهادة له بهاتين الصفتين : نفي للإفراط والتفريط في حقه - صلى الله عليه وسلم - فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط في حقه ، وغلا فيه ؛ حتى رفعه فوق مرتبة العبودية إلى مرتبة العبادة له من دون الله ؛ فاستغاث به من دون الله ، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله ؛ من قضاء الحاجات وتفريج الكربات . والبعض الآخر جحد رسالته أو فرط في متابعته ، واعتمد على الآراء والأقوال المخالفة لما جاء به ؛ وتعسَّفَ في تأويل أخباره وأحكامه .
ثالثًا : شروط الشهادتين :
أ - شروط لا إله إلا الله :
لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها ؛ وهي على سبيل الإجمال :
الأول : العلم المنافي للجهل .
الثاني : اليقين المنافي للشك .
الثالث : القبول المنافي للرد .
الرابع : الانقيادُ المنافي للترك .
الخامس : الإخلاص المنافي للشرك .
السادس : الصدق المنافي للكذب .
السابع : المحبة المنافية لضدها وهو البغضاء .
وأما تفصيلها فكما يلي :
الشرط الأول :
العلم : أي العلم بمعناها المراد منها وما تنفيه وما تُثبته ، المنافي للجهل بذلك ، قال تعالى : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
أي : ( شهد ) بلا إله إلا الله ، ( وهُم يعلمون ) بقلوبهم ما شهدت به ألسنتهم ، فلو نطَقَ بها وهو لا يعلم معناها لم تنفعهُ ؛ لأنه لم يعتقدْ ما تدل عليه .
الشرط الثاني :
اليقين : بأن يكون قائلها مستيقنًا بما تدلّ عليه ؛ فإن كان شاكًّا بما تدل عليه لم تنفعه ، قال تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا .
فإن كان مرتابًا كان منافقًا ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من لقيتَ وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا قلبه فبشره بالجنة فمن لم يستيقن بها قلبه ، لم يستحق دخولَ الجنَّة .
الشرط الثالث :
القبول لما اقتضته هذه الكلمة من عبادة الله وحده ، وترك عبادة ما سواه ؛ فمن قالها ولم يقبل ذلك ولم يلتزم به ؛ كان من الذين قال الله فيهم : إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ .
وهذا كحال عباد القبور اليوم ؛ فإنهم يقولون : ( لا إله إلا الله ) ، ولا يتركون عبادة القبور ؛ فلا يكونون قابلين لمعنى لا إله إلا الله .
الشرط الرابع :
الانقياد لما دلت عليه ، قال تعالى : وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى . والعروة الوثقى : لا إله إلا الله ؛ ومعنى يسلم وجهه : أي ينقاد لله بالإخلاص له .
الشرط الخامس :
الصدق : وهو أن يقولَ هذه الكلمة مصدقًا بها قلبُه ، فإن قالَها بلسانه ولم يصدق بها قلبُه كان منافقًا كاذبًا ، قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله : وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ .
الشرط السادس :
الإخلاصُ : وهو تصفيةُ العمل من جميع شوائب الشرك ؛ بأن لا يقصد بقولها طمعًا من مطامع الدنيا ، ولا رياء ولا سمعة ؛ لما في الحديث الصحيح من حديث عتبان قال : فإنَّ الله حرّم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله [ الحديث أخرجه الشيخان ] .
الشرط السابع :
المحبة لهذه الكلمة ، ولما تدل عليه ، ولأهلها العاملين بمقتضاها ، قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .
فأهل ( لا إله إلا الله ) يحبون الله حبًّا خالصًا ، وأهل الشرك يحبونه ويحبون معه غيره ، وهذا ينافي مقتضى لا إله إلا الله .
ب - وشروطُ شهادة أنَّ محمدًا رسولُ الله هي :
1- الاعتراف برسالته ، واعتقادها باطنًا في القلب .
2- النطق بذلك ، والاعتراف به ظاهرً باللسان .
3- المتابعة له ؛ بأن يعمل بما جاء به من الحق ، ويترك ما نهى عنه من الباطل .
4- تصديقه فيما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة .
5- محبته أشد من محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين .
6- تقديم قوله على قول كل أحد ، والعمل بسنته .
رابعًا : مقتضى الشهادتين :
أ - مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله :
هو ترك عبادة ما سوى الله من جميع المعبودات ، المدلول عليه بالنفي ، وهو قولنا : ( لا إله ) . وعبادةُ الله وحده لا شريك له ، المدلول عليه بالإثبات ، وهو قولنا : ( إلا الله ) ، فكثير ممن يقولها يُخالف مقتضاها ؛ فيثبت الإلهية المنفية للمخلوقين والقبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار .
وهؤلاء اعتقدوا أن التوحيد بدعة ، وأنكروه على من دعاهُم إليه ، وعابوا على من أخلصَ العبادة لله .
ب - ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله : طاعتهُ وتصديقُهُ ، وترك ما نهى عنه ، والاقتصار على العمل بسنته ، وترك ما عداها من البدع والمحدثات ، وتقديم قوله على قول كل أحد .
الروابط المفضلة