بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا مَن يهده الله فلا مضل له ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،â يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ á([1])، â يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً á([2])، â يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً = 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً = 71á([3]).
أما بعد فإني نظرت يا بُنَيَّ في هذا الزمان، فهالني ما فيه من فتن تترى كقطع الليل المظلم تجعل الحليم حيرانًا، وكثرة دعاة جهنم الواقفين على أبوابها مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، ومكر أولياء الشيطان، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، وصولجان الباطل وزخرفه وعلو صوته، حتى يخيل أحيانًا للناظر بادي الرأي أنه الحق الذي لا مرية فيه، وتداعي الأمم علينا تداعي الأكلة على القصعة، وغربة أهل الحق وانزوائهم وضعفهم إلا بالله سبحانه وتعالى، فأشفقت عليك يا بُنَيَّ مما أسمع وأرى.
يا بُنَيَّ في هذا الزمن الذي تتابع فيه الفتن تجعل الحليم حيرانًا إلا مَن رحم ربك تكون للدرر الثمينة والحِكَم البليغة التي منحها الله تعالى لعبده لقمان في وصاياه الربانية أهمية بالغة لكل عبد مخلص لربه محب لنبيه متمسك بدينه ليُحصن نفسه وأهله من الوقوع في ظلمات الشرك والضلالة ويحمى نفسه وأهله من حالة الذلة والمهانة التي يحياها اليوم أهل الأرض ــ إلا مَن رحم ربك ــ وتصبح هذه الوصايا الربانية والحكم البالغة من لقمان معالم إيمانية في الطريق إلى نور الهدى والتوحيد ولبلوغ مرتبة العزة والكرامة التي يفتقدها اليوم أهل هذه الأرض ــ إلا من رحم ربك ــ.
يا بُنَيَّ يكفيك أن تعلم أن الله تعالى بدأ سورة لقمان بقوله:âالم*تِلْكَآيَات الْكِتَاب الْحَكِيم * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ á([4]).
نعم بدأ السورة بالحكمة والهدى والرحمة، بالحكمة لما في وصايا لقمان من الحكم الربانية البالغة, وبالهدى للخروج من الشرك والضلالة إلى الهدى والتوحيد، وبالرحمة في التحصن بموجبات العزة والكرامة والحماية من مسالك الذلة والمهانة.
يا بُنَيَّ ما أشد حاجتنا إلى هذه الدرر النفيسة في الوصايا الربانية البالغة التي أمر الله تعالى نبينا محمد r أن يبلغنا بها على لسان عبده الصالح لقمان ونحن معا في هذه الرسالة الهامة في هذه الفترة الحرجة من واقع المسلمين مع الوصية الأولى من وصايا لقمان لابنه وهو يعظه, والتي أنزلها الله في كتابه إلى نبيه لتكون حجة لنا أو علينا إلى يوم الساعة.
يا بُنَيَّ الوصية الأولى من وصايا لقمان هي ركيزة الإيمان بالله، بها يقبل الله منك الصالحات، ويغفر الله لك بها السيئات, وبدونها يا بُنَيَّ يضاعف الله السيئات ويهدر الحسنات، ويجعلها هباءً منثورًا.
نعم من أجل ذلك كانت هذه الرسالة مع وصية لقمانâيَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ áولعل كلمات من عالم جليل شهدت له الأمة بالعلم والتقوى تقرب لك الفكرة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية([5]): «فهذا موضع عظيم جدًا ينبغي معرفته لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام، حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا، وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه، وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله».
فأنظر يا بُنَيَّ ــ رحمك الله ــ كيف تسللت الفكرة الخاطئة في هذه الأمة حتى إلى أصل الإسلام والتوحيد بالشرك الأكبر الذي ينافي الإسلام ولا يحسبونه شركًا بل ظنوه من التوحيد.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إمامًا.
فاحذر يا بُنَيَّ كل الحذر، فإن الجنَّة غالية تستحق أن يبذل لها كل غالٍ ونفيس.
وتَعلَّم يا بُنَيَّ خطر الشرك الأكبر الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ناهين الناس عنه، وداعين إلى توحيده تبارك وتعالى. ففي خطر الشرك الأكبر قالU:âوَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَá([6]). وقال جلَّ وعلا:âوَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً á([7]).وتَنبَّه الرجل الصالح إلى خطره فأوصى ابنه: âيَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌá([8]).
وأنا يا بُنَيَّ أفَصّل لك هذا الأمر وأذكر لك مسائل عظيمة مفيدة تندرج في هذا الموضوع.
وقد سقته لك يا بُنَيَّ في ثلاثة وثلاثين وجهاً
ثمانية أوجه:بيَّنتُ لك فيها أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله ــ عليهم السلام ــ إنما هو توحيد العبادة: أن يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئًا وليس فقط توحيد الخالقية والرازقية الذي أقر به مشركو العرب، ولم يدخلهم في الإيمان ولا في الإسلام، وأن توحيد العبادة هو الإسلام، وهو أصل الإيمان، وذكر بعض أدلة الكتاب والسنة على ذلك، وأن مَن لم يترك الشرك الأكبر ويعبد الله وحده فليس بمؤمن ولا مسلم بل مشرك ضال.
وفيعشرة أوجهتالية بيَّنتُ لك فيها يا بُنَيَّ بطلان قول الجهمية والمرجئة الذين يؤولون حقيقة الإسلام والإيمان.
ومن الوجه التاسع عشر حتى الوجه الثاني والعشرين جاء الحديث على أنه كما أن التوحيد توحيدان، فإن الشرك شركان، وكذلك بيان نوعي التوحيد من خلال أربع آيات من سورة الأنعام، وكلام كل من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
وفي الوجه الثالث والعشرين: تجد ضوابط معرفة أركان التوحيد ونواقضه، وهي ضوابط تخدم في رفع اللبس والخلط، حتى لا يُدخل في التوحيد ما ليس منه، ويُخرج منه ما يُعد من صلبه.
ثم يأتي بعد ما تقدم الوجه الرابع والعشرون في بيان مفردات الشرك والكفر المخرجة من الملة، مع تفصيل هذه المفردات وذكر أدلتها من الكتاب والسنة وأقوال العلماء.
وفي الوجه الخامس والعشرين كان الحديث على أن الدين مراتب ثلاثة، وكذلك التفريق بين الحديث عن قضايا الإيمان حكمًا وبين الحديث عنها تكليفًا شرعيًا.
وكذلك في الوجه السادس والعشرين بيان تغير الدلالات بتغير الاستعمالات للفْظَي الإيمان والإسلام وفي ذلك حسمًا للتشابه والاختلاط.
ثم استكمالاً للفائدة وتفاعلاً مع الواقع جاء الوجه السابع والعشرون: في الحديث عن ضوابط الأحكام ومقاصد الشريعة، وأهداف العمل الإسلامي.
ثم يأتي الحديث في الوجه الثامن والعشرين عن الإيمان بين الإفراط والتفريط ليعطي لنا صورة عن الوسطية في أمر الإيمان، والذي تتميز به هذه العقيدة، وتتميز به هذه الأمة.
وفي الوجه التاسع والعشرين كان الحديث عن أثر غياب المفاهيم الصحيحة في الواقع المعاصر.
كما أن وصية لقمان u لابنه اشتملت على جملة من القيم الإيمانية والأخلاق، كان الحديث في الوجه الثلاثين عن جملة من القيم الإيمانية والأخلاقية التي لا غنى عنها للفرد والجماعة، والتي إذا تخلق بها الفرد المسلم وأضيف إليها قوة الشعور الديني مع مفاهيم صحيحة للدين، ووعى بالواقع، أمكن ذلك من إخراج الطليعة المؤمنة التي تستطيع أن تعزم العزمة وتمضي على الطريق، وتسعى لانتشال الأمة من حالة الوهن والغثائية لتعود كما أرادها الله تبارك وتعالى:âكُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِá([9]).
واستكمالاً للفائدة ألحقنا ثلاثة أوجه عن الجهل، والخطأ والتأويل، والإكراه.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل عملنا هذا خالصًا وصائبًا.
خالصًا لوجه الكريم، وصائبًا وفق كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.







أما بعد يا بُنَىّ:
يقول ربك في كتابه العزيز: âوَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ´ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ´ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنِ وَفِصَالُهُ فِي عَامَينِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصِيرُ ´ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مُرْجُعُكُمْ فَأُنَبِّئَكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ´ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ´ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ´ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ´ وَاقْصِدْ فِي مَشْيكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ á([10]).
فاعلم يا بُنَيَّ أن استقامة حياتك كلها على صراط مستقيم في هذا العصر المليء بالجهالات والضلالات وتلبيس الحق بالباطل, يرجع إلى ترك الشرك والتمسك بالتوحيد؛ ولذلك فأنا أقول لك كما قال لقمان لابنه:âيَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ á.
وسيقولون لك: وما الذي يخشاه عليك أبوك من الشرك، ويأمرك به من التوحيد، ألسنا جميعًا نؤمن بأن الله واحد، وأنه وحده يخلق ويرزق... فما الجديد عند أبيك ليوصيك به؟؟!!
فاعلم يا بُنَيَّ أن هذا الذي يزعمونه من التوحيد, كان المشركون على عهد رسول الله r مقرين به, ومع ذلك دعاهم رسول الله r إلى التوحيد وترك الشرك وقاتلهم على ذلك، وإذا أردت دليلاً على ذلك فهذا هو الدليل من كتاب ربِّك العزيز يقول ربُّك U: âقُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَم مَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ´ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَá([11]).
ويقول I:â قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ´ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ´ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ´ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ´ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ´ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ á([12]).
ويقول U:â وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَá([13]).
فعُلم من ذلك أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وراء ذلك الذي أقرَّ به المشركون.
وإذا قلت لهم ذلك يا بُنَيَّ قالوا لك: ما لنا ولهؤلاء الذين حكى عنهم القرآن؛ إنهم لا يؤمنون بالرسالات، ولا بالبعث بعد الموت، ونحن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره, وهذا هو الفيصل بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك.
وإذا قالوا لك ذلك يا بُنَيَّ فاعلم أن هذا الذي ادَّعوه لا يتحقق به الإسلام, ولا يكفي لدخول الملة, ولا للنجاة من الشرك والكفر والخلود في النار، ولكنهم بَنوا قولهم على مزاعم المرجئة، وهي باطلة كلها قد أبطلتها آيات الفرقان في كتاب ربك العزيز الحكيم.

· وإليك الدليل على ذلك من ثمانية أوجه:
الوجه الأول: كرامية المرجئة: يقولون أن الإيمان هو تصديق الخبر باللسان فقط، وربك يقول:âوَمِنَ النَّاسِ مَن يَّقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ á([14]).
فأثبت لهم القول ونفى عنهم الإيمان, فعُلم أن الإيمان ليس قولاً باللسان فقط.
الوجه الثاني: جهمية المرجئة: يقولون إن الإيمان تصديق بالقلب فقط، وإن رفض النطق بالشهادتين كسلاً وتهاونًا، وربك يقول: âالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ . الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَá([15]).
فأثبت لهم المعرفة ـ وهي والتصديق شيء واحد كما سيتضح لك بعد قليل ـ ونفى عنهم الإيمان، فالإيمان ليس معرفة بالقلب فقط.
الوجه الثالث: وعامة المرجئة: يقولون أن الإيمان إقرار باللسان مع معرفة القلب، وربك U يقول: âالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَá([16])، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ.قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: â يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌá»([17])، وفي حديث آخر «بظلم: بشرك»([18]).
وروى([19]) الأمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: âالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ á،شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ. وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَأَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: âيَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌá إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ».
فالإيمان إذا كان بالقلب واللسان فقط فهو إيمان لُغوي، وليس إيمانًا شرعيًا يتحقق به الإسلام ويكون به صاحبه من أهل الملة, حتى ينضاف إليه ترك الشرك, فيكون آنذاك هو الإيمان الشرعي المقبول عند الله.
وترك الشرك المقصود هنا هو: ترك الشرك في العبادة لقوله U: âالَّذِينَ آمَنُوا á أي خلوا من شرك الاعتقاد؛ فلا يتحقق لهم الأمن والهداية بإطلاق إلا بترك الشرك في العبادة والانقياد والدليل على ذلك هو:
الوجه الرابع: يقولربك U:âوَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَá([20]).
يقول ابن عباس: «إيمانهم إقرارهم، وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره».
فإذا تحقق لك هذا يا بُنَيَّ فاعلم أن ترك الشرك في العبادة هو الإسلام وهو:
الوجه الخامس: والدليل على ذلك قوله U: âاللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا والسَّمَاءَ بِنَاءً وصَوَّرَكُم فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم ورَزَقَكُم مِّنَ الطِّيِبَاتِ ذَلِكُم اللَّهُ رَبُّكُم فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ´ هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ([21])مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ´ قُلْ إِنَّي نُهِيتُ أَن أَعْبدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي البَيِّنَاتِ مِن رَبِّي وَأُمِرتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ á([22]).
ومن هذه الأوجه الخمس: يتضح لك يا بُنَيَّ أنه لابد لكي يكون المسلم مسلمًا أن يجتمع له الأصلان: الإيمان بمعناه الخاص: وهو توحيد الربوبية، وهو التوحيد في الخبر والعلم والمعرفة. والإسلام بمعناه الخاص: وهو توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية, وهو التوحيد في الإرادة والقصد والطلب. وأن يترك الشركين الأعظمين وهما: شرك الاعتقاد, وشرك الانقياد, وهو الشرك في العبادة.
الوجه السادس:التلازم بين الإيمان والإسلام.
ويتضح من هذه الآيات، يقول ربك عزَّ وجَلَّ في سورة البقرة: âقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ´ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ´ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ´ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَá([23]).
جمع([24]) بين لفظ الإيمان والإسلام, ثم أفرد لفظ الإيمان وأطلقه بعد ذلك في قوله تعالى: âفَإِنْ آمَنُوابمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُá فدخل في لفظ الإيمان عند الإطلاق معنى لفظَيْ الإيمان والإسلام المذكورين قبلاً.
وهي الحقيقة الشرعية للإيمان: توحيد الربوبية المتضمن والمستلزم لتوحيد الألوهية، ثم ذكر بعد ذلك توحيد العبادة: â وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ á، والإخلاص:â وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَá وهو الإسلام.
وفي قوله تعالى في سورة آل عمران: âقُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ á([25]).
جمع بين الإسلام والإيمان ثم أفرد لفظ الإسلام وأطلقه في قوله تعالى بعد ذلك: âوَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَá([26]).
وهذه هي الحقيقة الشرعية للفظ الإسلام: توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية، حيث دخل تحت لفظه معنى الإيمان والإسلام المذكورين قبلاً.
ويتضح هذا التلازم في قوله تعالى: âالَّذِينَ آمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَá([27])، âإنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنيُّؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَá([28])، وقوله تعالى:âوَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْبِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّسْلِمِينَá([29])، وقوله تعالى: âفَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَالمُؤْمِنِينَ´ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَá([30]).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية([31]): «وقد وصف الله السحرة بالإسلام والإيمان معًا فقالوا: âآمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ ´ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَá([32])،وقالوا: âوَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا á([33])، وقالوا: â إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوْلَ المؤْمِنِينَá([34])، وقالوا:âرَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَá([35]). ووصف الله أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله تعالى: âإِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا

([1]) سورةآل عمران، الآية: 102.

([2]) سورةالنساء، الآية: 1.

([3]) سورةالأحزاب، الآيتان: 70-71.

([4]) سورة لقمان، الآيات: 1-3.

([5]) الفتاوى الكبرى، جـ 5، ص250.

([6]) سورةالأنعام، الآية: 88.

([7]) سورةالفرقان، الآية: 23.

([8]) سورةلقمان، الآية: 13.

([9]) سورةآل عمران، الآية: 110.

([10]) سورة لقمان، الآيات: 12-19.

([11]) سورة يونس، الآيتان: 31-32.

([12]) سورة المؤمنون، الآيات: 84-89

([13]) سورة الزخرف، الآية: 87.

([14]) سورة البقرة، الآية: 8.

([15]) سورة الأنعام، الآية: 20.

([16]) سورة الأنعام، الآية: 82.

([17]) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء.

([18]) المصدر السابق.

([19]) عمدة التفاسير, الشيخ أحمد شاكر، جـ1، ص793، دار الوفاء.

([20]) سورة يوسف، الآية: 106.

([21]) يعني: فاعبدوه.

([22]) سورة غافر، الآيات: 64-66.

([23]) سورة البقرة، الآيات: 136-139.

([24]) إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. أو يكون بينهما تلازم, فيجتمعان بالحقيقة الشرعية لكليهما كوصفين متلازمين لمدلول واحد هو الدين، يدل كل وصف على معناه وعلى الدين بالمطابقة وعلى الوصف الأخر باللزوم.

([25]) سورة آل عمران، الآية: 84.

([26]) سورة آل عمران، الآية: 85.

([27]) سورة الزخرف، الآية: 69.

([28]) سورة النمل، الآية: 81.

([29]) سورة يونس، الآية: 84.

([30]) سورة الذاريات، الآيتان: 35-36.

([31])مجموع الفتاوى، جـ1، ص 262.

([32]) سورة الأعراف، الآيتان: 121-122.

([33]) سورة الأعراف، الآية: 126.

([34]) سورة الشعراء، الآية: 51.

([35]) سورة الأعراف، الآية: 126. تابع
تأليف فضيلة الشيخ
عبد المجيد يوسف الشاذلي