أنشطة تبشيرية في الجزائر
التقيته مصادفة في أحد مداخل مترو الأنفاق في باريس، كان واقفًا خلف طاولة خشبية يوزع الأناجيل.. لفت انتباهي بملامحه العربية الواضحة.. اقتربت منه وسألته بلطف: هل أنت عربي؟ فأجابني: نعم، أنا جزائري أعيش في فرنسا منذ 3 سنوات.
وبعد تعارفنا علمت أن اسمه فضيل -22 عامًا- من ولاية بجاية القبائلية، واعتنق المسيحية منذ 5 سنوات بعد أن ترك الإسلام على يد مبشّرين أوروبيين كانوا يجوبون قرى الريف الجزائري يقدمون الإغراءات المتنوعة للمسلمين المحبطين، في وقت اشتدت فيه المعارك بين الإسلاميين والجيش الجزائري في بلد مزقت أوصاله النزاعات المسلحة وسوء الأحوال الاقتصادية.
وعندما علمت بقصته هذه التي يختبأ وراءها الكثير من التفاصيل آثرت أن ألتقيه.. وتواعدنا على أن نجلس ونتحدث ويحكي لي لماذا ترك الإسلام وصار مسيحيا.. وقبل أن أغادر المكان أهداني كتيبا بُنيّ الغلاف استخرجه من بين الكتب التي كان يبيعها يحمل اسم: "لماذا صرت مسيحيًا؟" لكاتب هندي اسمه سلطان محمد بولس.
تقابلنا بعد أسبوع تقريبًا في الساحة التابعة لكنيسة نوتردام الشهيرة في باريس، وبدأ في سرد حكايته قائلاً: "لقد ولدت في أسرة تقليدية مسلمة في قرية إيزغلامن التابعة لبلدية تيفرا بولاية بجاية شرق الجزائر، وكان أبي ورعًا تقيًا؛ لذلك حرص على تعليمي الصلاة والصوم منذ صغري، كما حرص على تحفيظي القرآن".
وأضاف: "طفولتي كانت عادية في قريتنا، إلى أن قرر والدي -نظرا لضيق العيش- الانتقال إلى مدينة الشلف حيث كان يعمل عمي، لكن عقب وصولنا للمدينة بقليل بدأت الأحداث الدامية في أوائل التسعينيات من القرن الماضي حيث اشتعل القتال بين الجيش الجزائري وعناصر جبهة الإنقاذ بعد إلغاء الانتخابات التي فاز فيها الإسلاميون".
وتابع: "كانت أيامًا مرعبة لطفل مثلي.. كنا ننام على الانفجارات وصوت طلقات الرصاص، ونستيقظ صباحًا على بقع الدم تلطخ شارعنا. في تلك السنة ذُبحت جارتنا التي تقطن على يسارنا؛ لأن زوجها دَرَكي (شرطي)، أما جارنا الذي يقطن على يميننا فقد هجر بيته.. وقالوا إنه صعد إلى الجبل لينضم إلى الجماعات المسلحة".
وفي ذات يوم كنت عائدًا من المدرسة عام 1993 ومررت بأحد شوارع مدينة الشلف.. كان المشهد مرعبًا.. لأول مرة أرى فيها دماء بمثل هذه الكثافة، أما الجثث فقد نُقلت قبل وصولي إلى الشارع بلحظات. أذكر أن عمري يومها كان 15 عاما. ولما سألت أحد الواقفين أمام بقع الدم عمن فعل هذا؟ أجابني: إنهم فعلوا ذالك باسم الإسلام.
ويتذكر قائلا: عدت يومها إلى بيتنا خائفا ومرعوبا. ولما طلبت من والدتي شيئا آكله قالت: لم يعد عندنا شيء يؤكل. فأبي كان "حايطي" -مصطلح يطلق على العاطلين عن العمل في الجزائر- أي الذين يلازمون الجلوس تحت الحائط بدون عمل.
وقال فضيل: "في تلك الفترة بدأت الأسئلة تتواتر في ذهني: أهذا هو الإسلام فعلا؟ لقد قرأت في القرآن أن الله يأمرنا أن نتبع الطريق المستقيم.. فهل ذبح عائلة عن بكرة أبيها هو الطريق المستقيم؟! لماذا لم يتحرك المسلمون من أجل إنقاذ الجزائر؟ لماذا نجوع ويشبع عرب النفط؟ أين المساعدات التي من المفترض أن يقدمها أثرياء المسلمين لنا؟!".
وأمام رعب ليالي الشلف وضنك العيش قرر والدي أن نعود إلى قريتنا بولاية بجاية؛ فهناك وقع عمليات الإرهاب يكاد يكون منعدما على الأقل، وفي تلك الفترة انقطعت عن الصلاة، وفعلت كل الموبقات، وأدمنت تدخين "الزطلة" وهو مخدر شعبي شهير في الجزائر. كنت أصعد مع بعض الأصدقاء إلى جبل إيزغلامن القريب من قريتنا نحتسي الخمر وندخن الزطلة. كانت سنوات الضياع التام بالنسبة لي، دون بارقة أمل واحدة في محيط جزائري كله خوف وجوع وياس من المستقبل.
واستطرد الشاب فضيل: "وفي يوم جاءني مراد أحد أعز أصدقائي واقترح علي أن نسهر الليلة مع الآباء البيض. لم أكن أدري وقتها ما الآباء البيض؟ فأخبرني أنهم قساوسة يتجولون بين قرى ومدن القبائل يحدثون الناس عن المسيح ويطعمونهم بلا مقابل".
مغالطات المبشرين
نتيجة إغراءات المبشرين
وبعد مقابلتهم في تلك الليلة عثرت على خيط الأمل الوحيد في ليالي الجزائر المظلمة. حدثني القس جورج الذي أصبح بمثابة أبي الروحي وأقنعني أن المسيح وحده يملك الرحمة، وأن الذين يذبحون الناس إنما يطبقون مبادئ الإسلام فعلا، وأن العسكر الذين يعذّبون الناس في سجون البليدة وساركاجي وسكيكدة إنما هم أيضا مسلمون. أقنعني جورج أن تاريخنا أيضا حافل بالمجازر، ومنطلقها مجزرة بني قريظة التي ذُبح فيها 326 يهوديا.
بعد سهرات طوال مع الأب جورج عدت يوما إلى والدتي أحمل الإنجيل بيميني، مرددًا كلمات يسوع حين يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة، ولا يأتي أحد إلى الأب إلا بي"، وعندما علم أبي باعتناقي المسيحية هددني بالطرد من المنزل، وضربني شقيقي الأكبر.. عندها وعدني القس جورج بأنه سيساعدني على الحصول على تأشيرة سفر إلى فرنسا.
وقال الشاب الجزائري: "بالفعل أوفى جورج بما وعد وسافرت إلى باريس بعد عام واحد من الحصول على البكالوريا لأنتظم في أوائل عام 2000 في مدرسة لاهوتية، حيث وجدت العشرات من القبائليين الذين سبقوني إلى هذه المدرسة ومدارس أخرى إنجليكية بفرنسا".
سكت فضيل للحظات ثم ابتسم قائلا: "أتعلم أن يسوع يقول: من عطش فليأت إليّ؟ لقد آواني الآباء البيض -القساوسة- الذين يتجولون بلا كلل بين قرى القبائل، ووفروا لي الأمن، ومنحوني بركة يسوع المسيح.. فماذا فعل من أجلي مليار من المسلمين وآلاف من دعاتهم وأثريائهم؟!!".
كانت هذه حكاية فضيل الذي ضاعت هويته وعقيدته الإسلامية بين معارك ونزاعات لا يد له فيها، وإغراءات المبشرين، وصمت المسلمين عما يعانيه الجزائريون من بني جلدتهم.
واليوم يعيش الشاب الجزائري في أحد أحياء باريس يحمل صليبه ويقول إنه عوضه عن سنوات الحرمان والجوع والرعب التي عاشها هناك في الجزائر.
يشار إلى أن الجمعيات التبشيرية المسيحية تقول إنها توصلت إلى تعميد وإقناع حوالي 6000 قبائلي جزائري بترك الإسلام منذ بداية الحرب الأهلية الجزائرية التي انطلقت شرارتها الأولى في بداية التسعينيات. ويلاحظ أن هؤلاء المبشرين يكثفون أنشطتهم في منطقة القبائل.
الروابط المفضلة