لماذا أصلي
عبدالرؤوف الحناوي
دار الوطن
قال له صاحبه وهو يحاوره: عجباً من أمرك ما أشد لحظك، وما أكثر انتقادك، أفعجبت أن يكون هذان الرجلان متلاصقين منكباً، متحدين كلمة، يود أحدهما لو يسكب قلبه على صاحبه، ويتمنى الآخر لو يجعل روحه في يده فدى له، أتدري من هما؟ والد وولد، والد يحن وولد يبر، أفسرتك هذه الصلة بينهما؟
قال: أي وربي، وهل أعظم من صلة توثق القلوب وتجمع الشمل، وتقوم برهاناً على اعتراف بالفضل وشكر على النعم؟ وهل يعيش الإنسان في هذه الحياة منقطعاً عن صلة القربى والجوار والصحبة والزمالة؟ أليس اجتماعياً في فطرته وتكوينه؟
قاله له صاحبه: أراك موقناً بضرورة الصلة بين الناس على أسس من التعاطف والتعاون، والإقرار بالفضل والإحسان.
قال: أجل.
قال: فإن تنكر أحد للمعروف وجحد الفضل؟
قال: أو يفعل ذلك إنسان فيه مسحة من حياء أو ذرة من ضمير؟
قال: نعم. أنت.
فاستشاط غضباً، وهم به، ثم تراجع وتقلص في نفسه وقال: وبم؟
قال: لأنك تنكر فضل الله عليك ونعمته.
قال: وكيف ذاك؟
قال: أليس الله ذا منة وفضل؟
قال: بلى.
قال: وهل يستحق الشكر على ذلك.
قال: نعم.
قال: وكيف يكون شكره؟ فكست قليلاً يستشير أفكاره فلم تسعفه.
قال: لا أدري، وخجل، ثم سكت لحظة وقال: دلني على الطريقة التي أؤدي شكره فيها.
قال: هناك طريقتان لابد لتحقيق الشكر من وجودهما معاً:
الأولى: أن تعترف له الفضل والإحسان من أعماق قلبك لا بلسانك فحسب وتدلل على ذلك بوضع جبهتك على الأرض سجوداً له وخضوعاً.
الثانية: أن تحافظ على هذه النعم فتجعلها في المواضع التي يرضاها لك.
قال: كلامك حق صدق، ولك عليّ عهد الله وميثاقه أن لا أدع الصلاة ما حييت - ولكن لي صديق عزيز عليّ، شأنه في الصلاة شأني: فهل لك أن تكتب لي كلمة في هذا الموضوع أوجهها إليه. عسى الله تعالى أن يجعل هدايته على يديك فيصل بصلاته ما انقطع بينه وبين الله، ويكون ذلك خيراً لك من حمر النعم؟
قال: حباً وكرامة، ونعمة عين، وكتب إليه:
صديق العزيز: سلام عليك، وبعد:
فقد سمعت كلمة طيبة وددت أن أصوغها لك كلمات على هذا القرطاس ورجائي أن يكون لها في نفسك ما كان في نفسي والسلام.
أخذ كثير من الناس في عصرنا الحاضر يهملون الصلاة ويرونها عبئاً ثقيلاً عليهم، فإذا ذكرتهم بها التمس بعضهم لنفسه عذراً بأنه مشغول الآن بأمور هامة، وادّعى بعضهم أن ثيابه غير طاهرة فلا تصح بها الصلاة، فإذا عاد إلى بيته نزعها وصلى، وهو في حقيقة الأمر كاذب، واعترف بعضهم بالتقصير وأخذ يردد كلمة" الله يهدينا " وهناك فئة وقحة تجاهر بالعصيان، وتبدل نعمة الله كفراً، وتحتقر الصلاة والمصلين ثم تزعم أنها مسلمة، فما لهؤلاء إذ ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا دعوا إلى الله قالوا سمعنا وعصينا؟ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-50].
تعال أخي نعالج مواقف هؤلاء ونبحث عن الأسباب التي دعتهم إلى ترك الصلاة:
هل الصلاة غرامة يؤديها الإنسان كما يؤدي بعض الضرائب ظلماً؟ هل الصلاة مضيعة للوقت، وليس لدى الإنسان وقت فائض عن حاجته حتى يضيعه؟
هل الصلاة مبدأ إلزامي يكره الإنسان عليه كما يكره على تقبل المبادئ السياسية في البلاد الديكتاتورية؟
هل الصلاة تقييد لحرية الإنسان المطلقة ومانعة له من ممارستها؟
هل الصلاة أمر مباح من شاء فعلة ولا ثواب له. ومن شاء تركه ولا إثم عليه؟
هل الله بحاجة إلى صلاتنا؟
وأي فائدة يجنيها الإنسان من الصلاة؟ وما هي الخسارة التي تترتب عليه من تركها؟ وهل...؟ ولم...؟
أسئلة كثيرة تدور في فكر الإنسان يمليها عليه هواه وشيطانه وشهواته، فإن عجز عن الجواب أقامت الحجة عليه فاستكان وذل، وعملت عملها الخبيث في فكرة فزاغ، وزينت له سوء عمله فرآه حسناً، وصوبت له رأيه الفاسد فاستمسك به، ومدته بالمجادلات العقيمة ومنته الأماني البعيدة حتى يهوى في النار سبعين خريفاً من حيث لا يشعر، وإن هو أحسن الإجابة ودحض الشبهات وحكم العقل والمنطق أقام الحجة عليها فخرست وخنست.
ولنبدأ الآن بتنفيذ هذه الأسئلة واحداً فواحداً. ثم نجيب عنها بما لا يترك ريبة لمستريب، فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الظالمون.
أولاً: لا يا صاحبي: ليست الصلاة غرامة عينية تؤدى، ولا ضريبة مالية تجبى، وإنما هي أمانة ينظر إليها صاحبها كل يوم خمس مرات فيشهد لك بالوفاء والصدق والإخلاص والمحافظة على الحقوق ويثيبك على حسن رعايتها بأعظم الجزاء.
أجل إنها ليست ضريبة ولا غرامة ولا جزية، وإنما هي اعتراف بحق وشكر على معروف، ودليل على صفاء النفس بإطاعة الرؤساء، وتنفيذ أوامرهم، وإفصاح عما ينطوي عليه القلب من محبة لله وتقدير. ألم تر أن الناس كلهم يعظمون في أنفسهم ذوات يعتبرونها فوقهم قدرة ونفعاً، يلجؤون إليها في الملمات ويتسغيثونها في المعضلات ويطلبون بركاتها في المناسبات، ويتخذون لأنفسهم شعاراً يذكرهم بها كلما غفلوا عنها.
ما للنصارى يؤلهون المسيح ابن مريم عليه السلام؟ ويتخذون الصليب شعاراً يرفعونه على كنائسهم، ويعلقونه على صدورهم، ويبادرون إلى الكنائس يصلون؟
وما لليهود يؤلهون عزيراً - تعالى الله عما يشركون - ويلتفون حول بناء كالضريخ يضيئون عليه الشموع ويقرؤون التوراة ويصلون؟ ويتخذ المتدينون منهم ( طواقي ) صغيرة يجعلونها في أقصى نواصيهم؟ وقد عمدوا منذ قيام دولة فلسطين إلى اتخاذ النجمة السداسية شعاراً لهم؟
وما للمجوس يعبدون النار، والهنود يعبدون البقر والقرود وفرق من الباطنية يعبدون الشيطان؟كل هؤلاء يعبدون آلهة من دون الله ويقدسونها، ولها يصلون وإليها يتقربون، وهي باطلة كأفكارهم الجوفاء، لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً، ومع ذلك فلا تنكر عليهم صلاتهم وتنكر علي صلاتي على حقها وقدرها ونفعها؟
وأي فائدة يجنيها كل هؤلاء في عباداتهم المتباينة؟ وماذا تغني عنهم معبوداتهم؟ هل تستجيب لهم دعاءهم؟ هل تفهم كلامهم؟ هل تعرف ما يصلحهم وما يفسدهم، هل ترزقهم؟ هل تحييهم؟ هل تشفيهم؟ هل تدفع عنهم الضر؟ هل تنزل الغيث فتنبت لهم به الزرع؟
لا، لاتعمل شيئاً من هذا أبداً، مع ذلك فهم يعبدونها، ويعترفون لها في أعماقهم بقدسية وفضل، ويدللون على هذا الاعتراف بصلواتهم.
أرأيت يا صاح لو أن إنساناً قدم إليك قطعة حلوى، أو ساعدك في حمل متاعك، أو أرشدك إلى الطريق، أو دفع معك سيارتك الواقفة أو ناولك شيئاً سقط منك، إلا تقول له شكراً، وتحترمه في نفسك وتقدر عمله، وتتمنى أن تكافئه على معروفه بأحسن منه؟ نعم. وأنا كذلك إنسان مثلك، أحفظ المعروف، وأقر بالإحسان وأعترف بالفضل وأشكر على الهدية وكلما كان الفضل عليّ كبيراً كان الشكر مني أكبر، وهل من متفضل منعم مثل الله عز وجل الذي منحني العقل والحواس، وأغذق عليّ الرزق الطيب، ومن عليّ بالصحة والعافية، وهداني إلى الدين الصحيح، ووهب لي الولد والأهل، وأقامني في موطن خير بين صحب كرام وجيران طيبين؟
لا... ليس في الوجود كله من أحسن إليّ كإحسان الله تبارك وتعالى، أفلا أشكره على كل هذه النعم ما دمت أشكر غيره على أقل معروف أسداه إليّ؟ لا شك أنك معي في شكري له وتشجعني عليه، بل تحملني عليه قهراً إن قصرت في أدائه لأنك لا تريدني أن أكون إنساناً ناكراً للفضل، جاحداً للمعروف.
إن الشكر يتناسب طرداً مع قيمة الهدية وقدر المُهدي. فشكري لمن قدم إليّ قطعة حلوى ليس كشكري لمن قدم إليّ علبة حلوى. وقولي لصغيرنا ناولني قلماً وقع مني غير قولي لعظيم ناولنيه. والصفة التي يحبها الله تعالى مني لشكره على آلائه هي أن أضع جبهتي على الأرض إقراراً له بربوبيته وتقديساً لألوهيته، واعترافاً بإحسانه. إن الناس ينحنون أمام أصنامهم من الطواغيت وليس لها في واقع الأمر عليهم من فضل، بل إنها لتضلهم عن الحق والهدى وينحني كثير منهم أمام زعمائهم إجلالاً وإعظاماً، وقد يكونون من شر خلق الله، أفلا أنحني أنا لله، مالك الملك خالق الكون، رب السموات والأرض، الذي ينفع ويضر، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويحاسب على النقير والقطمير؟
ثانياً: وليست الصلاة مضيعة للوقت، فالإنسان حينما ينسل من ضوضاء العمل وصخب الغادين والرائحين ويتسلل من عناء الأخذ والعطاء، والبيع والشراء والمماحكة والمساومة، والدراسة والتدريس، ومطالب المراجعين، ويقف في مصلاه يتخلى عن كل هذه المزعجات فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه ويستريح جسمه وينطفئ غضبه، وتتقيد شهواته، ويمكث دقائق يناجي من يحب.
والحب أعظم ما يكون *** إذا انفردت بمن تحب
ويسأله العون والتأييد، ويستمنحه القوة في الخير، والصبر على المجاهدة، والعفو إن أساء إلى أحد من الخلق بنظرة عابسة، أو كلمة نائية، أو تصرف قاس، فتكون هذه الدقائق بمثابة شحنة من المدخرات، وتبريد للمحركات.ومن هذا المنطلق السامي كان رسول الله إذا حزبه ( أهمه ) أمر فزع إلى الصلاة، وإذا عاد منهمك القوة من قتال الأعداء قال: { يا بلال، أرحنا بالصلاة }، أي أذن للصلاة، لتكون الصلاة راحة لنا من معاناة الحياة ومشكلاتها.
والإنسان مخلوق ضعيف محدود القوة، لا يستطيع العمل المتواصل، فلا بد له من استراحة جسمية وعقلية، ولا يتسنى له ذلك إلا في الصلاة، والراحة نصف حياته، ولهذا جعل الله تعالى الليل سكناً والنوم سباتاً وراحة، وكم يصرف المصلي من وقته في صلاته؟ إنها أن امتدت وطالت لا تستغرق ربع ساعة، أفتضن على نفسك أيها العاقل بدقائق معدودات بين فترة وأخرى من يومك لتحصل على كل هذه المنافع بينما تجود بساعات طوال تضيعها سدى في الزيارات والسهرات؟
ثالثاً: وليست الصلاة مبدأً سياسياً لحاكم ديكتاتوري غاشم يحمل شعبه على أفكاره طوعاً وكرهاً. إنما الصلاة تطبيق لدين يعتنقه الإنسان عن قناعة ورضى من غير إكراه ولا إجبار - لا إكراه في الدين - وليست مبدأً سياسياً يتغير بتغير الظروف أو يستتبع أراء الحكام، وليست قانوناً وضعياً تكتب اليوم صيغته الأولى ويناقش غداً مناقشة نهائية، ثم يطرأ عليه تعديل بعد غد ثم ينسف من أساسه لظروف طارئة، أو يؤخر تنفيذه ريثما يتم نصاب المسؤولين عن إبرامه، أو يرجأ إبرامه حتى يصادق عليه ذو السلطة العليا في البلاد. أنها ركن من أركان الإسلام، بل أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. وما دمت - أيها المسلم - قد رضيت بهذا الدين عن طيب خاطر منك ولم تحمل على اعتناقه جبراً فعليك إذن تنفيذ أحكامه كاملة. ألست معي أن المواطن في أي بلد ما ملزم بتطبيق قوانين ذلك البلد، فإن أبت عليه نفسه ذلك فهو بين أمرين: إما أن يهان ويطبقه، وإما أن يتخلى عن تابعيته الوطنية ويرحل عن ذلك البلد.
ولا أدري كيف يخشى الإنسان شرطياً ولا يخشى خالق الأرض والسماء؟ ثم انظر مع نظرة أخرى، ألا ترى أن إشارة المرور إذا أضاءت حمراء أوقفت عشرات السيارات، بل مئاتها في مكانها فلا تستطيع أن يتجاوزها ولو كان بين السائقين أعظم الناس قدراً، فما بال بني آدم لا يجرؤون على مخالفة إشارة حمراء ويخالفون أوامر الله تعالى، ويتحدونه بالمعاصي والمنكرات، ويتعدون الحدود التي رسمها لهم؟ هل هذا دليل على تمام عقولهم أم على نقصانها؟ احكم أنت بنفسك إن كنت من المنصفين.
رابعاً: وليست الصلاة تقييداً للحرية الشخصية ولا مانعة للإنسان من ممارسة حريته. إن الناس في المجتمعات البشرية كلها متفقون على أنهم ليسوا حيوانات يعيشون على وجه الأرض كما تعيش الحيوانات في الغابات، بل لهم حريتهم، وحريتهم مطلقة في الاعتقاد والقول والعمل، ومقيدة بالنظام العام والقانون السائد، ولولا هذا التقييد لما انتظمت أمة ولا تولد شعب، ولما استقامت الأمور على تبادل المنافع بين الأفراد، بل لما استمر النوع البشري.
الروابط المفضلة