رأيت من البلاء أن المؤمن يدعو فلا يجاب ، فيكرر الدعاء وتطول المدة ، ولا يري أثر للأجابة ، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلي الصبر .
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلي طب ، ولقد عرض لي من هذا الجنس . فإنه نزلت بي نازلة ، فدعوت ، فلم أر الإجابة ، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده .
فتارة يقول : الكلام واسع والبخل معدوم ، فما فائدة تأخير الجواب ؟
فقلت له : إخسأ يا لعين ، فما أحتاج إلي تقاضي ، ولا أرضاك وكيلا .
ثم عدت إلي نفسي فقلت : إياك ومساكنة وسوسته ، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة .
قالت : فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة .
فقلت : قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك ، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء ، فلا وجه للاعتراض عليه .
والثاني : أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة ، فربما رأيت الشيء مصلحة والحكمة لا يقتضيه ، وقد يخفي وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب ، من أشياء تؤذي في الظاهر يقصدبها المصلحة ، فلعل هذا من ذاك.
والثالث : أنه قد يكون التأخير مصلحة ، والاستعجال مضرة ، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم : ((لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل ، يقول دعوت فلم يستجيب لي ))
الرابع : أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة ، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة ، أو تزداد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه0
فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك تقفي بالمقصود كما روي عن أبي يزيد رضي الله عنه : أنه نزل بعض الأعاجم في داره ، فرآه فوقف بباب الدار ، وأمر بعض أصحابه فدخل ، فقلع طينا جديدا قد طينه ، فقام الأعجمي وخرج .فسئل أبو زيد عن ذلك فقال : ((هذا الطين من وجه شبهة ، فلما زالت الشبهة زال صاحبها )).
وعن إبراهيم الخواص رحمه الله عليه أنه خرج لإنكار منكر ، فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي ، فعاد ودخل المسجد ، وصلي ثم خرج ، فبصبص الكلب له فمضي ، وأنكر فزال المنكر .
فسئل عن تلك الحال فقال : (( كان عندي منكر ، فمنعني الكلب ، فلما عدت تبت من ذلك ، فكان ما رأيتهم )).
والخامس : أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب ، فربما كان في حصوله زيادة إثم ، أو تأخير عن مرتبة خير ، فكان المنع أصلح .
وقد روي بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو ، فهتف به هاتف : (( إنك إن غزوت أسرت ، وإن أسرت تنصرت )).
والسادس : أنه ربما كان فقد ما فقدته سببا للوقوف علي الباب واللجأ وحصوله سببا للاشتغال به عن المسؤول .
وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك علي باب اللجأ .
فالحق عز وجل من الخلق اشتغالهم بالبر عنه ، فلذعهمِ في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلي بابه ، يستغيثون به ، فهذا من النعم في طي البلاء .
وإنما البلاء المحض ، ما يشغلك عنه ، فأِما ما يقيمك بين يديه ، ففيه جمالك .
وقد حكي عن يحيي البكاء أنه رأي ربه عز وجل في المنام ، فقال: ((يا رب كم أدعوك ولا تجيبني ))؟ فقال : (( يا يحيي إني أحب أن أسمع صوتك )).
وإذا تدبرت هذه الأشياء ، تشاغلت بما هو أنفع لك ، من حصول ما فاتك من رفع خلل أو اعتذار من زلل ، أو وقوف علي الباب إلي رب الأرباب .
كتاب صيد الخاطر - ابن الجوزي البغدادي
الروابط المفضلة