منهاج القرآن في هداية الإنسان


أ.د. نظمي خليل أبوالعطا موسى

جعل الله سبحانه وتعالى طريقين يصل بهما الإنسان إلى معرفة حقائق الوجود:
أحدهما العقل الذي هيأه الله سبحانه وتعالى لإدراك حقائق العالم المحسوس, والتفكر في العالم غير المحسوس ووضع النظريات والتصورات لهذا العالم, وحتى لا يتيه الإنسان باختلاف العقول في إدراك غير المحسوس كان الطريق الثاني الذي جعله الله تعالى سبيله لإدراك عالم الغيب وما وراء عالم الشهادة وهذا الطريق هو الوحي إلى الأنبياء والرسل (انظر المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف حامد العالم، الدار العالمية للكتاب الإسلامي ( ص 228 ) (1994م)).
ولذلك أتى القرآن الكريم بمنهاج قرآني فريد في هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم في المزاوجة بين الدعوة العقلية بالآيات الكونية والدعوة العقائدية الوحيية والحوار النفسي العقلي الفريد (المرجع السابق ص229).
وقد تجسد هذا المنهاج في سورتي المؤمنون والفرقان، فقد بدات سورة المؤمنون بالآيات الإيمانية النفسية فقال تعالى: " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ{4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{7} وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ{10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{11} " (المؤمنون/1-11).
ثم انتقل القرآن بعد ذلك إلى الآيات العقلية الكونية فقال تعالى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ{12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ{13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ{14} " (المؤمنون/12-14).
وهذه حقائق علمية تجريبية يمكن للعقل البشري والحواس البشرية أن تدركها وتتأكد منها وثبت بالدليل التجريبي في علم الأجنة أن الإنسان مخلوق من نطفة تنتج من اندماج أمشاج ذكرية وأمشاج أنثوية، تعلق في جدار الرحم لتصبح (علقة)، ثم تتحول إلى قطعة من الخلايا المشابهة والمساوية لقطعة اللحم الممضوغة (فخلقنا العلقة مضغة)، ثم تبدأ الخلايا العظمية للحبل الظهري بالتكوين والظهور، ثم يتخلق الإنسان وتدب فيه الروح ليصبح خلقاً آخر مغايراً في هيئته وتركيبه ووظيفته للمضغة والنطفة والأمشاج، وبعد هذا الدرس العلمي الجيني الكوني تأتي الآيات الغيبية الإيمانية الوحيية "ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ{15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ{16} " (المؤمنون/15-16)، ثم تأتي الآيات الكونية " وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ{18} فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{19} وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ{20} وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{21} وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ{22} " (المؤمنون/18-22).
أما في سورة الفرقان فقد بدأ الموقف الدعوي بقوله تعالى: " وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً{53} " (الفرقان/53). ثم قال: " تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً{61} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً{62} " (الفرقان/61-62).
وبعد هذه الآيات الكونية بدأت الآيات التربوية الإيمانية السلوكية فقال تعالى: " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً{63} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً{64} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً{65} إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً{66} وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً{67} وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً{68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً{69} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{70} وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً{71} وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً{72} وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً{73} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً{74} أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً{75} " (الفرقان /63-75).
وهكذا يمزج القرآن الكريم بين العلم الكوني والعلم الغيبي الإيماني بطريقة تكاملية ترابطية علمية تربوية تعليمية إيمانية عقلية غير مسبوقة في الدعوة إلى الله، والتفكر في خلق الله، فما يقع تحت إدراك الإنسان يجعله القرآن منطلقاً للإيمان بالغيب ودافعاً للسلوك الإيماني والهداية إلى الصراط المستقيم، وهذا ما غاب عن العَلمانيين (بفتح العين) والمرجفين والجاهلين فيرفعون أصواتهم يرددون إرجافات أساتذتهم وشياطينهم من المستشرقين الذين يفصلون العقل عن الدين، والدين عن العلم الكوني، ولكن هيهات هيهات أنى لهم أن يقنعونا بهذه الفرية الكبرى والمنهاج القرآني في المزج بين العلم الكوني وعلوم الغيب في إعجاز معجز؟
إننا نحتاج إلى مناهج تفسيرية عصرية يقوم بها علماء من المتخصصين في العلوم الكونية بالتعاون مع المتخصصين في العلوم الشرعية.
وقد أورد الطبيب الشيخ محمد أبو اليسر عابدين الإيجاز في آيات الإعجاز من مطبوعات مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، الناشر دار البشائر للطباعة والنشر (1999)-(ص124) أورد كلاماً طيباً في هذا المجال، حيث أورد بعض الآيات من قوله تعالى: " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{191} " (آل عمران/191).
وقال تعالى: " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{57} " (غافر/57).
وقال تعالى: " وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{12} " (النحل/12).
وقال تعالى: " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ{10} " ( (لقمان/10).
وقال تعالى: " لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ{40} " (يس/40).
وقال تعالى: " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ{38} مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{39} " (الدخان/38-39).
وقال تعالى: " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ{190} " (آل عمران/190).
ثم قال: مجموع هذه الآيات المناسبة ينادي بعظمة الله الذي تخضع الرؤوس لجلال كبريائه وينادي من أعمى الضلال أبصارهم وأفئدتهم عن رؤية الحق أن يتدبروا ويتمعنوا في قوانين الخالق وقدرته تعالى، إذ أن العلماء توغلوا في معرفة النواميس التي تستلزم هذه الحركات واخترعوا من أجل ذلك أدق الآلات وأكملها لمعرفة تماسك هذه الأجرام الكبيرة وتمركزها في مجاريها من دون شذوذ، فلم يتوفقوا حتى الآن لإظهار حركات مستدينة ومنظمة كحركة الأفلاك بقوانين جاذبيتها ثم قال: قال الفيلسوف نيوتن حين سئل دليلاً بدرجة المحسوس على وجود الخالق جل وعلا فقال: (من المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من مجرد فعل الجاذبية العامة لأن هذا القوة تدفع الكواكب نحو الشمس فيجب لأجل أن تدور هذه الكواكب حول الشمس أن توجد (قدرة) إلهية تدفعها على الخط المماس لمداراتها ثم قال: ومن الجلي الواضح أنه لا يوجد سبب طبيعي إستطاع أن يوجه جميع الكواكب وتوابعها للدوران في جهة واحدة على مستوى واحد من دون حدوث أي تغيير يذكر، فالنظر لهذا الترتيب يدل على وجود حكمة سيطرت عليه) انتهى.
وهذا ما نبهنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم إلى تدبره فقال تعالى: " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ{5} " (الزمر/5).
فإن التسخير فيه معنى القهر والجبر، بل أصرح منها قوله تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{65} " (الحج/65).
وبهذا يتضح منهاج القرآن في هداية الإنسان بالمزج بين الآيات الكونية والآيات الوحيية الغيبية فهل من مدكر؟ !.